طَرَق الباب قردٌ،؛ وكعادتي في استقبال الغرباء لم أفتح، إلا عندما أكَّد لي أن اسمه ميلان كونديرا. طرق الباب بكل تهذيب ممكن، في بطءٍ وهدوء، عندما فتحتُ الباب ودخل ذكَّرني شكله برسومات إيغون شيلي، فارتحت له. كنت ما أزال محتفظًا بنصف زجاجة "بلانتين"، وخمنت أن قردًا لن يرفض ضيافتي ببضع كؤوس من سكوتش اسكتلندي. أسترجع لحظات استقبالي للقرد، واقفًا فوق سطح بناية صامدة بلا مبرر، كانت الجملة التي قلتها وسمعها الكل فيما عداي :"نصف حالات الفشل في العالم أتت من بشر كانوا يؤمنون حقا بأنهم يستطيعون أن يحركوا الماء الآسن بقذفة حجر". بعدها تحرَّك الكل في حشود، حتي ظننتها مظاهرة، بسرعة غريبة لملموا الجدران والحوائط، بعضهم تكلموا بإشاراتٍ غير مفهومة ثم طووا الموائد والكراسي كهياكل ورقية، أحدهم لم يجد جوالاً يضع فيه الكعكة فابتلعها، مر علي وقال بسعادة بالغة :"برافو طه، كنت رائعا، فِركش يا جماعة". أقف في العراء، ويد القرد تمتد لتصافحني، فأطير في ثقب لولبي لأدخل معه في عالم كعوالم حرب النجوم، كان كل شيء ساكنًا حينما دخلنا، فجأة دبَّت الحياة في أوصال الريبوتات البشرية والدمي المجسمة، فخرجوا جميعًا عن النص وراحوا يثرثرون كأبطال كوانتين تارانتينو. انتشلني القردُ ودخل بي إلي مكان آخر، بدا كأنه مسرح منوعات، تقف كاي باركر تشير مدرسةً بعصي علي قبعة ساحر موجودة علي سبورة بيضاء، برز منها أرنب، فور ظهوره تخيلت أنه سيكون دليلي كدليل (أليس) و(نيو) للدخول في عالم العجائب بدلاً من القرد الشبيه ب(أيغون شيلي). قفز القرد علي حجري وأخرج شيئًا ضامرًا يخصني، وأخذ يلعقه ويمصه بحرفية نجمات البورنو. أغمضت عيني، وبعد لحظات من النشوة أحسستُ أنني كوب زجاجي مملوء بالماء وُضع في المكان الخطأ علي حافة مائدة، وقبل أن أقع، وبالتحديد في رحلة السقوط، انتشلني القرد للمرة الثانية، عاد بي إلي بيتي، إلي اللحظة التي استقبلته فيها. وجدت كؤوس الويسكي والثلج علي هيئتها، شردت في الزمن وتصاريفه، وأخذت أحكي للقرد عن يوم تأخر أبي عن ميعاد خروجي من المدرسة، تأخر كثيرًا حتي بقيت مع زميلتي في الفصل وحدنا؛ يومها فتحت بلوزتها وكشفت عن صدرها حتي بانت سرتها الذهبية، سألتني بجدية:"هل هو كبير؟"، لم أرد، تجرأت لترد لي سؤالها المعلق:" أريد أن أراه" لم أكشفه لها، فاكتفت بلمسهِ من وراء حجاب، جفلتُ منها كأرنب وعندما عدت للبيت وجدتني مبلولاً فبكيت. حكي لي القرد أنهم، أي القرود، لا تجري أمورهم بهذه الطريقة، فأول مرة له كانت مع إحدي عجائز القبيلة وكانت بالمصادفة أمه، "يومها تجمع عدد كبير من الإناث وقرروا أني مستعد لدخول عالم الرجال". ابتسمت وقلت: إن أبي لم يُبد أية إشارة لدفعي في هذا الاتجاه، فلم يعرض عليّ أنثاه مثلًا، ففي العام الألفين وستة، توفي والدي للمرة الثانية في أقل من خمس سنوات، وفعلت كما فعلت في المرة الأولي, مجرد ضيفٍ يجلس في مقدمة سرادق العزاء ويتكفل الأقرباء الغرباء بعمل كل شيء، وبحركاتٍ غير مقصودة مازلت ذلك الوريث الذي لم يأخذ شيئا من رزقة. قال القرد إن أباك مات ميتة بطل شعبي، يئس أعداؤه من هزيمته، فبعثوا له بطائر الرُّخ، التقمه وطار به، لكنه شق منقار الطائر وأفلت منه، سقط ولم تنل الأرض شرف استقباله إلا في المرة الثانية لموته. نصحني القرد أنه عندما يأتيك ملك الموت اهرب منه، فيصيب أباك الميت وتعيش أنت عَيْش الرجل مستور العورة. كنت دائمًا في حواراتي مع القرد ميلان كونديرا، أحكي فيرد عليّ بحكاية أخري، وهذه لم تكن من عاداتي السيئة في حواراتي مع آخرين، ففيها أصمتُ وأتحيَّن اللحظة المناسبة والملائمة للرد، كنت أريد لردودي أن يكون لها مفعول الضربة القاضية، وأحس بهزيمة غير مبررة عندما ينتهي الحوار لأي سبب دون الفوز بضربتي القاضية، أحس أني أهدرت أوقات انتظار وترقب بدون سبب، فكرهت الحوارات المبتورة. ويبدو أن ميلان كونديرا فَطَنَ إلي ذلك، فأعطاني ثلاث فرص للكتابة، أو ثلاثة تمارين للكتابة.