زفة بالفيل فى شوارع جايبور كنت سعيدة للغاية بأن تكون تلك الساعات الأولي التي أقضيها بالهند بذلك الثراء، وتذكرت علي الفور العنوان العالق بذاكرتي لسيرة محمد عفيفي مطر الذاتية " أوائل زيارات الدهشة"، فكل الأشياء من حولي تمنحني متعة جديدة ترتبط بتعبير "أول مرة" . والضيافة في الهند أمر لا مثيل له، فما أن يظهر في عينيك بوار طلب ما حتي تجد أمامك وجه مبتسم علي غرار "شبيك لبيك" منذ عشرة أعوام تقريبا أخبرت صديق هندي كان يقيم بالقاهرة ويدرس اللغة العربية، أن كل الباحثين عن الروحانيات لا تكتمل رحلتهم إلا بزيارة إلي الهند، وأن كل عاشق للكاميرا لابد من أن يزور الهند فهي جنة المصورين، وأخبرني يومها أن لي أن أزور الهند يوما ما . وعبر مئات الصور والقصص عبر سنوات كثيرة زاد تعلقي بالهند، فقد ظلت الهند بالنسبة لي تجربة حتمية لاستكمال الرحلة الفكرية والوجدانية، ولأن الأحلام التي نحرص عليها تتحق باليقين، تلقيت أخيرا دعوة للسفر للهند للمشاركة في مهرجان جايبور الأدبي. ستة أيام هي كل ما كنت أحمله معي في مفكرتي لأتذوق طعم الهند واستنشق رائحتها كعابر سبيل، فالهند لا تكفيها زيارة ولا يشبعها أبدا ستة أيام. وكنت أخطط أن أقضي يومي الأول- الذي سبق افتتاح المهرجان- في التعرف علي معالم مدينة جايبور التي يطلقون عليها اسم "المدينة الوردية" لآثارها الشهيرة التي تتسم بلونها البني الذي يميل إلي الحمرة، وكذلك الأسواق الشعبية بناء علي نصيحة صديق محنك الأسفار، وفي الطريق من مطار إنديرا غاندي إلي فندق راجبوتانا ، اكتشفت أن دعوة الغداء هي كذلك دعوة لحضور مهرجان إطلاق طائرات ورقية، وتغير المخطط فورا، فمهرجان طائرات ورقية أمر لا يمكن تفويته. لأول مرة أمسك طائرة ورقية وأحاول أن أتحكم بها، وعرفت وقتها أن الموضوع ليس بتلك السهولة، وأن إطلاق الطائرات الورقية والاحتفاظ بها عاليا أمر صعب، وسرعان ما أعطيت الخيط لمن يجيد التحكم بها، وإذا كنت قد فشلت في إدارة طائرة واحدة فإن بابو خان الذي يبلغ من العمر 76 عاما بإمكانه إطلاق أكثر من 100 طائرة بخيط واحد. كنت سعيدة للغاية بأن تكون تلك الساعات الأولي التي أقضيها بالهند بذلك الثراء، وتذكرت علي الفور العنوان العالق بذاكرتي لسيرة محمد عفيفي مطر الذاتية " أوائل زيارات الدهشة"، فكل الأشياء من حولي تمنحني متعة جديدة ترتبط بتعبير "أول مرة" . وقفت أتأمل فنان آخر يتحكم ببراعة في الخيوط التي بين يديه، ولكنه لم يكن يتطلع إلي السماء، لم تكن خيوط طائرة ورقية، كان ينظر أمامه إلي تلك العرائس التي يحركها ، والتي ترقص معه كأحسن ما يكون، أخبرني أنه ورث المهنة أبا عن جد وأنه يجيد كذلك صناعة العرائس التي تحمل ملامح أبناء راجستان وأزيائهم . شعرت وقتها أن عبق التراث هو سر سحر الهند ، فكل ما حولك يخطفك لعالم آخر يفصلك عن المدنية المعاصرة بضجيجها ، لتشاهد عالم حقيقي يحافظ علي أصوله ويمنحك نكهة متميزة لثقافة لا تعرف التقليد. بدأت التنقل بين صانع الفخار، وتلك الفرقة الموسيقية التي تعزف الموسيقي الراجستانية، ولم أنس أن أتذوق من الأطعمة المعروضة للضيوف للتعرف علي أشهر أطعمة الولاية التي تقدم في أطباق مصنوعة من أوراق الشجر، وهناك وجدت حلوي تشبه الفولية والسمسمية وحكاية عن تراثنا الشعبي في وسط هذا الزخم الثقافي التراثي. في مساء اليوم الأول لوصولي أقيم حفل استقبال لضيوف المهرجان بقصر رامباج ، الذي أصبح الآن أحد الفنادق التراثية الشهيرة تحت اسم فندق "تاج بالاس"، وتحول الأمر لما يشبه الدخول لإحدي حواديت ألف ليلة وليلة حين يتسلل إليك صوت زوزو نبيل قائلا: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، ويتميز الفندق بعمارته الهندية البديعة، وقد كان هذا الفندق ذ مثله مثل العديد من الفنادق التراثية الأخري- مقر إقامة المهراجا . وتقوم فكرة الفنادق التراثية علي تحويل القصور الملكية التي يمتلكها أولئك المهراجات إلي فنادق تجذب السياح لاستشعار سحر الماضي، وتمكن ورثة تلك القصور من الاحتفاظ بها بل والاستثمار فيها. وهناك العديد من الفنادق التراثية في الهند لا سيما ولاية راجستان ومنها كذلك قصر ديجي الذي استضاف مهرجان جايبور الأدبي، وقد وجدت متعة كبيرة في التجول بين أرجاء قصر رامباج في المساء لالتقط بعض الصور، وشعرت آنذاك أنني أميرة محاطة بكافة أشكال الرفاهية ، وما زاد من إحساسي هذا أن العاملين بالفندق كانوا يرتدون الزي التقليدي بعمامتهم الملونة ويحملون مشاعل النار بين أيديهم ، ولمحت كذلك الخيول الرائعة تقف في الإسطبل الخاص بها. ولعل تلك المتعة هي ما تدفع الكثير من الزوار لخوض تجربة حياة الملوك، حين تطل غرفهم علي حدائق غناء وبساتين شاسعة وكذلك ساحات مزينة بالنافورات الجميلة. والضيافة في الهند أمر لا مثيل له، فما أن يظهر في عينيك بوار طلب ما حتي تجد أمامك وجه مبتسم علي غرار "شبيك لبيك" ، لم أحتاج أبدا لشيء داخل الفندق الذي كنت أقيم به، إلا ووجدت من يرشدني بل يصحبني للمكان المراد، ولا أنسي أبدا الإفطار الهندي الرائع علي أنغام موسيقي السيتار والطبلة، والابتسامة الرائعة التي طالعتني علي وجوه الجميع .
أثناء الإفطار اليومي كنت أحرص علي تناول شاي الماسالا، وهو أحد الأمور التي تتميز بها الهند وهو شاي بالحليب والتوابل الهندية التي أتذوق فيها الحبهان والزنجبيل، والذي لم أتذوق مثله في مكان آخر بالعالم ، ولكنني كنت أحب تناول هذا الشاي أكثر بقصر ديجي حيث تقام فاعليات المهرجان الأدبي، حيث كان يباع في أكواب صغيرة من الفخار التي تشبه في روعتها روعة الشاي . وليس الشاي وحده هو استمتعت به، بل كذلك تلك الأطعمة الهندية حيث يتحول المطبخ الهندي لمتعة من المتع الرائعة التي تدخل ضمن عوامل الجذب السياحي، وما بين الساموسا وبياز كي كاتشوري وهي عبارة عن فطائر محمرة محشوة بالبصل والخضروات، مع صلصة هندية من التمر هندي أو صلصة النعناع الشهيرة، أو الدهكولا المصنوعة من دقيق الأرز والحمص، وبيتي كاتشوري أو الدوسا التي وقفت صباحا أتأمل الشيف وهو يصنعها ومنها المحشو أو السادة ولكنها تقدم علي ورقة شجر أخضر، إلي الحلويات المتعددة الأصناف، تتنوع الوجبات اليومية. ولا أنسي أنه في حفل العشاء الذي أقيم بفندق رامباج جلست مجموعة من النساء في زي ريفي يصنعن الخبز أمام الضيوف، وكذلك كان الحال أثناء الغداء اليومي بقصر ديجي حيث يقف مجموعة من الطهاة لعمل الخبز للضيوف، وقد استمتعت كثيرا بمشاهدة الطرق المختلفة لصناعة الأنواع المختلفة للخبز الهندي وتذوقه. كان حضور مهرجان جايبور الأدبي متعة لا تضاهيها متعة أخري، فبين عشرات الندوات اليومية، وحفلات التوقيع، والورش الفنية والمقر الصحفي الذي يشبه خلية نحل بتنوع المؤتمرات الصحفية واللقاءات الفردية التي اختار كل منها أن يبدأ قصته حول المهرجان كان اليوم يمر سريعا جدا.
وفي المساء كنت أستمع إلي الألحان تصدح بقصر كلاركس حيث الحفلات الموسيقية اليومية التي قدمت أروع الموسيقي الراجستانية الشعبية ومنها كوتلا خان التي قدمت موسيقي راجستان الشعبية ، وفرقة كاوا النحاسية بجايبور والتي تعتمد بالأساس علي الآلات النحاسية، والموسيقي الصوفية ومنها فرقة سونام كالرا والموسيقي التي تمزج بين الألحان التراثية والجاز والبلوز، كما استضاف المهرجان فرقة تيناروين الأمازيغية التي فازت بجائزة "جرامي للموسيقة العالمية"، وهي أكبر جائزة في مجال الموسيقي، وغيرها العديد من الفرق التي جذبت الشباب من كل صوب وحدب. حاولت أن أقلل ساعات النوم قدر المستطاع، وكنت أحلم بأن أجد ما يكفي من الوقت لزيارة تاج محل ، فقد كنت قد سمعت كثيرا عن المثلث الذهبي جايبور ودلهي وأجرا ولم أكن أتخيل أن أقوم بالرحلة ذاتها في ستة أيام، ولكن حلم آخر تحقق، ففي اليوم الثالث قمنا برحلة إلي مدينة أجرا لمشاهدة "تاج محل"، وكان الطريق بالسيارة طويل جدا ومرهق، لكن أمتع ما فيها أن تمكنت من التعرف علي مشاهد حية من روح الهند حتي وإن كان ذلك من وراء زجاج السيارة، وكم كانت الهند تشبه مصر في كثير من الأشياء خاصة الأسواق والدكاكين ، والأكشاك. وعندما وصلت »تاج محل« رأيت معجزة فنية وإنسانية نادرة الحدوث من مشاهداتي أيضاً أنني لايمكن أن أنسي تلك الزفة التي شاهدتها بالفيل في شوارع مدينة جايبور ، وكيف يجلس العريس في كامل زينته، ولا أنسي أيضا تلك التماثيل المعدنية المنتشرة في الميادين التي لم أشاهد روعتها من قبل، والتي تمنيت أن أصورها جميعا لولا ارتباطي بجدول زمني محدد المعالم، كنت أتمني أن أقضي وقت أطول بتاج محل ، أن أتعرف أكثر علي ملامح مدينة جايبور، أن أزور فتح بور سيكري ، وأن أري ضريح خواجة معين الدين شيستي الموجود بأجمير ، وأن أتجول بالأسواق وأتحدث إلي الناس عن قرب وليس من وراء زجاج نافذة السيارة، وأن أخلع ثوب السائح لأرتدي ثوب مصور حياة الشارع، ولكن الوقت مر سريعا .. تنطلق مجددا صوت الطبلة ممزوجة بألحان السيتار، أطلب فنجان آخر من شاي الماسلا، وأودع الهند علي وعد بزيارة أخري..