"لم تتحددْ قوةُ الأشياءِ بعدُ بحجمِها"؛ هكذا أخبرني في آخر لقاءٍ بيني وبينه. كان وجهه كقطعة رخامٍ مترب، شعرتُ ساعتَها أنَّه قال شيئًا؛ لكنني لم أفهمه. أضافَ: عندما تنفتحُ علي الرمال، ستري عالمًا دفينًا زاخرًا بإخوةٍ من أزمنةِ الفقد، الرمالُ تلك بشرٌ مثلنُا ألقاها البحرُ لكي نعتبر، بشرٌ مهشَّمون؛ لكنَّ أحلامَهم كبيرة. البحرُ دائمًا يحدثُنا بما لا نفهم، ودائمًا يسخرُ منَّا. ليس الصيدُ هوايةَ الراغبين في تضييعِ الوقتِ مع القدرِ الذي يعطي ويمنحُ كيفما شاء؛ لأنّ تلك اللعبةَ نمارسُها طويلاً، لكنْ بأشكالٍ أخر. بعضنا ينسحب، والبعض يمارس لعبة التفاوض. حذرُه لا يريحُني بل يربكُني. كلما طلبتُ منه أن يصاحبَني في رحلاتِ الصيدِ الممتعةِ يتهرَّب. فقدتُ المركب؛ لكنَّ مهارتي كانت كفيلةً لأنْ تأخذَني إلي الساحلِ دونَ أيِّ مشكلات. أحيانًا يحدثُني عن تمرينِ النعامةِ، وعن ذكائِها عندما تدفنُ رأسَها في الرمل، أو الفأرِ الذي خرقَ السفينةَ، وكيف ظلَّ الجميعُ يجرون وراءه؛ أمَّا الفأرُ فقد استطاعَ أنْ يقفزَ في الماءِ، ويسبحَ بمهارة؛ بينما السفينةُ تهبطُ للعمق، أمَّا أسماكُ القرشِ فقد كانتْ أكثرَ سعادةً ونشاطًا بالضبطِ مثلما تهبطُ طائرةُ للعمق وبنفسِ الطريقة. أخبرتُه ذاتَ مرةٍ أنني أوغلتُ في مرةً سمعتُ طقطقةً في المركب؛ قالَ لي عندما رآني ذاهبًا للصيد: البحر، كنتُ أخشي أسماكَ القرش؛ لكنني تعرفت علي لغة مشتركة، وتأكدتُ أنها وديعةٌ ولا يستفزُها سوي سلوكِنا الأحمق. ردَّ: أنَّه بينما كان يحفرُ أسفلَ المنزل، كانت قطعانُ النملِ الأبيضِ تعملُ بعزمٍ لا مثيلَ له. البحرُ ليس كريمًا علي الإطلاق؛ لكننا لدينا حقًا ما لا تملكُه الأشياء؛ لدينا تلك الحيلُ التي لا تنتهي في التعاملِ مع أحوالِه المتغيِّرة، وفي كل مرةٍ أستخدم الأسلوبَ الذي يلائمه. "الأحلامُ تلك الفتاةُ التي تزورنا فجأة؛ لتسقيَنا ماءَ الوردِ من قلةٍ مزركشة"؛ قالها لي منذُ زمن عندما استيقظ من النوم، هكذا ودون أيِّ مبررات. تعجبتُ كثيرًا؛ لأنه دائمًا يشكو لي بأنه لا يحلم، كان ودودًا ساعتها أكثر من ذي قبل، وعلي غيرِ العادة صنع لي كوبًا من الشاي بالحليب. - سألتُه: كيف يمكننا أن نطوفَ في السماء بسهولة؟! - رد بحزم: يمكنكَ أنْ تصبحَ حبةَ رملٍ داخلَ جناحِ نسرٍ قوي. أضافَ؛ يمكنكَ أنْ تعيشَ في أعماقِ البحرِ عندما تصبحُ حيوانًا رخوًا داخلَ صدفتين، وفي كلتا الحالتين لا يمكنكَ الخروجَ علي الحاكم؛ فقط قد تسقطُ حبةُ الرملِ بينَ بقيةِ رمالِ الشاطئ، أو ربما يفترسُك حيوانٌ آخرُ أكثر قوة؛ لأنَّ لدي الأشياءِ أكثرُ مما لدينا.... لا تهمني سخريته منِّي؛ لأنَّه يضحكني كثيرًا. تركته وذهبت إلي المركب، لم يكن البحر هادئًا، ولم يكن المركب قويًا، مارست لعبتي، فتلك البراعةُ وليدةُ الخبرةِ لا أكثر. عدتُ للشاطئ، دخلتُ الغرفة، كتبٌ ملقاة، وعددٌ من أكوابِ الشاي الفارغة علي الأرض. طقطقةٌ أشبهُ بطقطقةِ النيرانِ الملتهبة. وضعتُ أشيائي علي الأرض. طقطقةٌ تأتي من بعيد؛ لكنني أسمعُها، طقطقةٌ داخلي أقاومُها. إذنْ لا بأسَ من تمرينِ ضبطِ الأنفاس. سقطتْ أعمدةُ غرفةِ النومِ الخشبية. أحاولُ التفكير، يفاجئني: "لعبةُ التفاوض...". "يمكنكَ أنْ تصبحَ حيوانًا رخوًا...". الصوتُ داخلي يهتزُّ، أقطعُه: "لدينا حقًا ما لا تملكُه الأشياء". تمرينُ النعامة. الطقطقةُ تعلو وتعلو.... عندما لمست الرمال، غمرتني تماما، تعرفت علي لغة مشتركة، وتأكدتُ أنها وديعةٌ ولا يستفزُها سوي سلوكِنا الأحمق. 0