يصلني الهمس الرقيق الواطيء النبرة وأنا أنظر للتلميذ الملتصق بوقفته علي الباب الخشبية، لونها رصاصي أو رمادي وتتركز نظرتي علي زرار القميص العلوي قرب الرقبة وقد أحكمه عليها بشدة، وأري إلي طرفي ياقته الكبيرين الهامدين الشبيهين بجناحي غراب أبقع، وإلي نظراته المركزة نحو آخر الصف، في عينيه خوف وانكسار وقلق. إلي يمينه كانت السبورة معلقة من أعلاها بمسمارين كبيرين وصدئين، سوادها مترب ومشوب بمسحوق الطباشير. للظهيرة صفرة غير واضحة وغير منفية، وللنوافذ انفراجها علي رقة الثيل المشذّب البليل وعلي جدران الآس العريضة والسميكة الهيأة، غطاء النوافذ المعدني المشبك الدقيق الفتحات والبنيّ من صدأه، يجعل النظر إلي الحديقة عبر الفتحات الدقيقة الصغر، مخرّماً، مشبكاً، مجروحاً. السكون تتشربه بلاطات ساحة المدرسة الاسمنتية، وعندما تطرق الخطي الثقيلة الوقع والواثقة الكاشي الأصفر العتيق لرواق الادارة قادمة باتجاهنا يستيقظ فينا خوف قديم، قيام، يصيح المراقب. تبرز القامة المديدة المعبأة بالبذلة النيلية وفيها أيضاً مربعات دقيقة الصغر وبيضاء شبيهة بفتحات المشبك المعدني وكنت دائماً أحاول أن أخمّن ماذا وراء هذا الكيان المشبك الدقيق الفتحات والتي لا يمكن النفاذ عبرها.. للصمت المرين هيأة صلبة القوم وكثيفة ومريبة أيضاً، وتظل عيناي تجوسان صلابة الجدران السميكة أكاد ألمس صلابتها بأصبعي المضمومة والهامدة علي كتاب التاريخ النائم علي رحلتي، الباب مفتوح، أتحوّل إلي شيء لا مرئي، أتسرّب دون أن يلحظني أحد، أستعيد هيأتي، شكل خطاي الآن علي اسفلت الشارع في هذه الظهيرة له حفيف لا يكاد يُسمع، في هذه اللحظة تكون أفياء البيوت مائلة وممتدة قليلاً، وتكون الشمس فوق رأسي تماماً. وعندما أركض بقدميّ الحافيتين تتسرب سخونة الرمل إلي قدميّ فتكتويان اكتواءً لذيذاً وحانياً وغير مؤلم. لكنه لا يلبث يتصاعد شيئاً فشيئاً ويلهب باطن قدميّ وأسرع في الجري وأحسُّ آلاف الدبابيس تنغرس في راحتيّ قدميّ، ألقي بجسدي في النهر، يصطفق الماء حولي، يضرب صدري، أشعر انطفاء اللهب، تتسلل برودة الماء إلي جسدي كله، أخوض في النهر وأصحو علي مرأي المربعات النيلية الدقيقة الصغر، تشكّل الكيان المشبك الأنيق الواقف أمامي والذي سدّ الأفق، هذا الكيان له رسوخ وقوّة وبقاء لا شك فيه. تهاجمني في الحال.. الغزو المغولي.. مكتوبة بخط كبير علي اللوح الأسود المستطيل. فوقها تماماُ. درس التاريخ.. ويسألني بصوت أحسسته به جارحاً. متي سقطت بغداد بيد المغول؟ وقفت، ارتفعت يدي عن كتاب التاريخ النائم فوق الرحلة، كان لونه أخضر بإطار رمادي وفيه زخرفة اسلامية طاغية وغير ضرورية. أردت أن أقول إنهم دخلوا بغداد في سنة... خيول المغول تلاحقني، لوقع حوافرها في أذني رجع مرعب وأركض بأقصي ما أستطيع وأري بريق نصال السيوف تحت أشعة الشمس المحرقة وأسمع صرخ اليائسين واستغاثتهم وأركض نحو نهر دجلة فأراه قد استحال إلي نهر من مداد أسود وفيه حمرة لا تلبث في ازدياد طاغٍ، وقال لماذا لا تجيب؟ وأحسست رجفة في صوتي، ولم يفلح بنطالي في إخفاء ارتعاد ساقيّ النحيلتين وجعلت أفكّر فعلاً متي دخل المغول بغداد بالتحديد؟ وكانت عيناي تجوسان الجدران الشاحبة الاصفرار والصلبة التي لا منفذ فيها ولا فتحة، كانت شديدة الرسوخ هي أيضاً وأري المشبك المعدني ذا الفتحات الدقيقة الصغر تغطي النوافذ التي لا يعبرها ضوء إلا مخرّماً بآلاف الخطوط السلكيّة. وأقول في نفسي هيهات لا يمكن النفاذ منها.. ويقول صارخاً متي؟ وشعرت بدبيب تحت الجلد يوخزني ويخدّر مساحة لساني كلها، ولا يتحرّك لساني.. ويقول تعال ومعك كتاب التاريخ، وتنوء خطاي بي وبالتاريخ وأنا أشي ببطء السلحفاة نحو اللوح الأسود العريض الذي يقطع علي الطريق. ويقول لي ألا تعرف متي؟ وأذكر فقط أن يده ارتفعت وإنني أغمضت عينيّ علي ألم في الروح يشلُّ خدي وقلبي وإن التاريخ قد سقط لحظتها بين قدمي ورأيته مفتوحاً يغطي حذائي اليسري وجزءاً من حذائي اليمني وإنه أيضاً قد أمعن في ضربي وقال لي أجب.. وأحسست ببللٍ حار يلامس ساقي اليسري من أسفل بنطالي تساقطت قطرات متصلة بيضاء انتشرت علي الصفحات السود في الكتاب المفتوح. وسمعت وقعها له رنين.