طرح الكاتب حاتم حافظ في العدد قبل الماضي ورقة عمل للنهوض بالتعليم في مصر، تناول فيها هيكلة وصياغة المؤسسات التعليمية في مصر. انطلقت ورقة حافظ من أن اصلاح التعليم المصري يبدأ من احلال قيم تستند علي الاستنارة بدلاً من قيم أخري تشيع قيماً لا تنويرية، كما علينا أن نعيد تأهيل الكوادر التعليمية، الغاء التعليم الأزهري بوصفه موطن ترسيخ الفكر الأصولي والسلفي لدينا، إعادة صياغة كلية التربية والغائها واكتفائها بدبلومة سنتين. لقد استمد الكاتب حاتم حافظ خطابه العديد من الأفكار حاول فيها الربط بين ممارساته العملية في التعليم الأساسي والتعليم الجامعي وفتحها علي الشأن العام والمجتمع، مما أثار العديد من الشجون المعرفية في ظل اللحظة الحديّة التي يمر بها المجتمع المصري، مما يستدعي فتح حوار معرفي معها. في البداية، ثمة حدثان يكشفان أزمة التعليم المصري وجسدهما شخصيتان، الأول في بداية القرن العشرين ويقترن بشخصية عباس محمود العقاد الذي حصل علي شهادة الإبتدائية وأصبح من أشهر مفكرينا وكتابنا في مصر. الثانية: ما حدث للمفكر الراحل نصر حامد أبوزيد في الجامعة المصرية في نهاية القرن العشرين حين اتهمه استاذ جامعي زميل له وهو عبد الصبور شاهين بإهانة الذات الألهية مما استتبع ذلك بإلصاق تهمة الكفر والالحاد به. نكتشف من خلال ما حدث مع الشخصيتين أننا أمام نظامين تعليميين مغايرين، فواقعة العقاد تدل علي أن التعليم المصري في تلك الفترة كان يستهدف بناء الوعي، في حين واقعة نصر حامد أبوزيد يكشف عن خلل قابع في الوعي كأن التعليم ما هو إلا محو أمية الكتابة في الأساس بدون تنمية الوعي، وهذا ما نلمحه في رد فعل الأستاذ الجامعي عبد الصبور شاهين الذي كان من المفترض أن يدافع عن قيم الاستنارة والعقلانية بوصفه يمثل النخبة الفكرية التي تساهم في تشكيل وعي الشباب. من ثم، يمكن القول أن مأزق التعليم في مصر نابعة من حدوث إزاحة معرفية للتعليم المصري، نلخصها في ثنائية محو أمية الكتابة ومحو أمية الوعي. إن ما حدث مع نصر حامد أبوزيد يكشف علي أن التعليم المصري في نهاية القرن العشرين خرج عن مساراه المنوط به وهو اكساب الوعي وانحصر في محو أمية الكتابة، ولنا شواهد كثيرة تثبت ذلك منها كثرة عدد الطلاب المنتمين إلي العملية التعليمية ولكن غير مساهمين في بناء المجتمع بصورة حقيقية، كما أن التعليم المصري يحتل المرتبة 123 عالمياً في التنمية البشرية، ونضيف علي ذلك أن هناك نسبة كبيرة من اساتذة التعليم الأساسي أو الجامعي تنتمي إلي تيارات فاشية ومتطرفة. يمكن إرجاع ذلك إلي أن التعليم المصري أصبح مؤسسة غير مستقلة لا تمتلك خطاباً معرفياً يشيع قيم المعرفة والاستنارة لارتباطه بالمؤسسات السياسية واللاهوتية وهما اللتان تحددان أفكاره. كما أدي تدخلهما بصورة مباشرة في مسار العملية التعليمية حول التعليم من الاهتمام بالكيف أو كبعد ثقافي يهدف إلي تنمية الوعي إلي الاهتمام بالبعد الكمي الذي يهدف فقط إلي محو أمية الكتابة فقط متجسد في بناء مؤسسات تعليمية متوازية مع بعضها البعض دون التكامل فيما بينها. ونتيجة أن التعليم المصري كمؤسسة معرفية تتحكم في مساراته مؤسسات ويمتثل لها كوادرها انطلاقاً من مبدأ السمع والطاعة والنطق بحروفها في لغة طقوسية دون التفكير في أهدافها. في تلك المنظومة يصبح الكادر التعليمي الأستاذ المدرسي أو الجامعي (الإ بعض الاستثناءات القليلة) مروجي لخطاب هذه المؤسسات ويتبني قيمها التي تروجها. وهنا يكمن مأزق الطفل المصري في التعليم الإبتدائي، لأن الطفل المصري يقع تحت سيطرة ثقافة بصرية مستمدة من وسائل الاتصال المختلفة والعاب الكمبيوتر، ويتلقي منها قيماً تستمد من الحداثة وما بعدها، وعندما يدخل الطفل المدرسة يتلقي قيماً شديدة المحافظة وتعتمد علي التلقين والحفظ. وهنا يقع مأزق التعليم الإبتدائي ينبني علي تنشئة طفل يمتثل في علاقة تتأسس علي مبدأ السمع والطاعة لمدرسه وهي تتناسب مع قيم المستوي الديني المتشدد أو علي المستوي السياسي الذي تم ترسيخه في النظام السابق. أما بالنسبة لإلغاء التعليم الأزهري كمؤسسة تعليمية (الذي اتفق فيه مع الكاتب حاتم حافظ بأنها مفرخة للتطرف)، يجب أن نضع في الحسبان أن وجود جامعة الأزهر الحالية مرتبط بطريقة غير مباشرة بشكل الدولة المصرية المتكونة وخاصة بعد ثورة يوليو 1952 المحتكرة جميع الفعاليات في المجتمع بما فيها التعليم ذاته، فهي عبارة عن دولة هجينة فهي راعية قيم الأصالة والمعاصرة، ولم تستطع التوفيق بينهما، فنجد أن المؤسسة التعليمية الأزهرية بدلاً من المفترض أن تختص بتعليم العلوم الفقهية أمتدت لتشمل العلوم الحديثة مثل الطب والهندسة، ولكنها فصلت بين العلم كمعرفة وتنمية الوعي الإنساني والعلم كأداة ومهارة أيضاً، فأصبح الطالب يتعلم علوم حديثة كادأة ومهارة بدلاً من أن يتمثل منطقها في التفكير، فأصبحنا أمام حالة جامعية لتلقين الهندسة والطب مما يفسر الفوضي الموجودة في جامعة الأزهر المؤيدة لفصيل فاشي، لذا أردنا الغاء التعليم الأزهري علينا تغيير شكل دولة يوليو 1952. إن الغاء التعليم الأزهري حتي لو أدركت الدولة أنه يشكل خطراً علي المجتمع، لن يكون بقرار سياسي فوقي لأن أفكاره تسبح في أركان المجتمع. لأن التعليم الأزهري قبل أن يكون مؤسسة تنتمي إلي التعليم الديني فهو فكر في المجتمع. فهو أبناً باراً للقيم السائدة التي يشيعها الخطابين الديني والسياسي في المجتمع. مما سبق، يمكن القول إن اصلاح التعليم المصري لا يرتبط بقرار سياسي يقول للأشياء كن فيكون أو يستبدل قيما مكان أخري لأنه سوف يلقي ممانعة من المجتمع المتسربل بالأردية الميتافيزيقة. بل يجب أن نعتبر التعليم هو استراتيجية حضارية مثلما ما حدث في ماليزيا مع مهاتير محمد وأن نجند كافة طاقات المجتمع لإعادة بناء نظامه مرة أخري انطلاقاً من أن التعليم هو صناعة للإنسان في الأساس. لذا، علينا إذا أردنا الإصلاح الحقيقي أن نبدأ من إعادة تحسين شروط حياة المواطن نفسه قبل هيكلة أجهزة التعليم، وأن نعيد الاعتبار له كإنسان له الحق في أن يفعل ويرغب، ونعيد له إنسانيته المفتقدة. وعندما يحدث تغيير في شروط المواطنة في المجتمع، سوف يتحول التعليم من منطق اتقان خبرات متوارثة إلي منطق الابتكار والتجديد، وبدلاً من مفهوم الاحتواء ليطبق أجندة سياسية أو دينية إلي مفهوم تفجير الطاقات الكامنة في المجتمع. من هنا سوف تختفي مسألة تسرب الأطفال من المدارس وانفصال التعليم عن سوق العمل لارتباطه بالبناء الفكري في المجتمع، ويصبح مؤسسة حقيقية في صناعة المستقبل. ولن نستطيع إعادة الاعتبار إلي التعليم إلا بعد أن نضع استراتيجية حضارية مستمدة من حراك اجتماعي معرفي حقيقي تتخذ بعض الآجراءات وهي: ا- أن يتم تحسين شروط المواطن في المجتمع إنسانياً عبر البعد الاقتصادي، وثقافياً عبر صياغة مفهوم للتعليم ينبني علي الانفتاح علي الآخر. ب- بناء مجتمع مدني حقيقي يقوم علي قيم المساواة، وبناء دولة القانون. ج- أن تبني استراتيجية التعليم المصري علي أنه لا ينفصل عن وضعية التعليم في العالم، بجانب أن يكون التعليم هو صناعة لمجتمع عالمي تتداخل فيه المشتركات الإنسانية. د- أن يعلو صوت الإنسان الواعي بانسانيته في التعليم بدلاً من جعل الأيديولوجيا تغتال حضوره. ه- استقدام أساتذة أجانب في الجامعات المصرية كما كان يحدث في مصر سابقاً (عندما قام رولان بارت بالتدريس في جامعة الأسكندرية في خمسينيات القرن العشرين).