استطاع "عمرو القاضي" في "25 حكاية" الاستفادة أيما استفادة من أجواء الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير 2011م، وتوظيفها علي هامش بعض قصصه بشكل لا يحاول فيه التوغل في أحداث الثورة، بقدر ما جعلها في الجو العام المحيط بأبطاله وكأنه ينثرها مجرد نثرات خفيفة كندف الثلج التي قد تصنع تراكما فيما بعد هل نستطيع تعريف الإبداع بقولنا: " إنه منطق الدهشة الذي يصنع فنا؟". أظن أن هذا التعريف الذي يقدم الدهشة علي ما هو فني يكاد ينطبق علي المجموعة القصصية "25 حكاية" للقاص "عمرو القاضي"؛ لاسيما أن القاص يحرص طول الوقت علي اختلاق الدهشة الممتعة- إذا جاز لنا القول- والتي من خلالها يتخلق أمامنا فن إبداعي مكتمل وفريد يكاد يخص القاص وحده دون سواه من كتاب القصة القصيرة، حتي اننا- بدون مبالغة- إذا قرأنا إحدي تلك القصص بدون توقيع الكاتب، أظن أننا سندرك أنه هو؛ نظرا لشخصيته الواضحة المتفردة في نسج قصصه. ولعل اتجاه الكاتب للكتابة في فن القصة القصيرة يُحسب له؛ لاسيما وأن معظم المبدعين قد هجروا الكتابة القصصية تماما باتجاه الرواية، التي نالت في السنوات الأخيرة نصيب الأسد في إلقاء الضوء عليها إعلاميا ونقديا، بل ويُحسب له أيضا تلك الروح الساخرة التي نراها متناثرة في ثنايا نصوصه، هذه الروح التي لا تراها بشكل مباشر- حيث أنه لا يقصدها لذاتها- وإن كنت تشعر بها تحوم حول عالم النص. لا أنكر أني للوهلة الأولي في قراءة "عمرو القاضي" فاحت حولي رائحة القاص السوري المتميز "زكريا تامر"، وكتابته الخاصة جدا، ولكن ليس معني ذلك أن "عمرو القاضي" حاول أن يسير علي خطاه أو يقوم بتقليده- ربما هو لم يقرأه أساسا-، ولكن من خلال هذه الروح الساخرة، والدهشة المُقدمة علي كل شيء؛ لصناعة فن إبداعي فارق ومتميز وخاص بكاتبه؛ تداعت إلي ذاكرتي كتابات هذا القاص السوري الذي أمتعنا كثيرا بكتاباته المتميزة. استطاع "عمرو القاضي" في "25 حكاية" الاستفادة أيما استفادة من أجواء الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير 2011م، وتوظيفها علي هامش بعض قصصه بشكل لا يحاول فيه التوغل في أحداث الثورة، بقدر ما جعلها في الجو العام المحيط بأبطاله وكأنه ينثرها مجرد نثرات خفيفة كندف الثلج التي قد تصنع تراكما فيما بعد، فنراه يبدأ قصته "المرحومة" بقوله: (رغم أن مصر كلها كانت في حالة ترقب بعد خطاب التنحي ما بين مشاهد ومشارك، فإن قرية "الحرانيش"- مركز "فجا" كانت مختلفة)، وبالرغم من أن القصة ليس لها أي علاقة بالثورة أو الرئيس السابق- المتنحي-، إلا أنه رأي أن يبدأها بهذا الربط بالجو العام المحيط؛ فالقصة تتناول بسخرية مدهشة وممتعة كيفية نشأة الأسطورة ورسوخها في العقل الجمعي حتي تتحول إلي واقع وفكر، بل وربما إلي دين يعتنقه البعض من خلال امرأة ماتت في حادث سيارة داخل هذه القرية، والتفاف أهل القرية حول جثتها، والنظر إليها ككائن فضائي جميل، وإعجاب نساء القرية برائحة ملابسها حتي إنهن قمن بغسل ملابسها مع ملابسهن في إناء واحد؛ كي تلتصق الرائحة بملابسهن، ولكن المفاجأة أن جميع نساء القرية اللائي غسلن ملابسهن مع ملابسها قد حملن أطفالا، حتي تلك اللائي لا يلدن؛ ومن ثم فقد ظن أهل القرية بالمرأة أنها من أولياء الله الصالحين؛ وبنوا بها مقاما للزيارة والتبرك بها، بل ودخلت الكهرباء إلي القرية بفضل هذا المقام/ المزار. ربما نلاحظ مثل هذا الارتباط بالأحداث الجارية في أكثر من قصة، ومنها قصة "قطتها الشيرازي" التي تحكي بشكل ساخر عن قطة إحدي السيدات الراغبة في الزواج من قط آخر؛ ومن ثم تُعلن السيدة في الجرائد (مطلوب عريس قط مخربش.. بس ابن قطط محترمين)؛ ولأن جارها يرغب في مد أواصر الصلة بينهما منذ فترة ولا يجد الفرصة لذلك نراه يأخذ قط العمارة الأعور ليحممه ويتجه به إليها؛ كي يكون سببا في تعارفهما، وحينما تُبدي اعتراضها: (القط دا شكله شرس ومتعور في وشه) يحاول إقناعها بأن السبب في ذلك أنه قط بطل (دا قط الثورة.. بس الإعلام ماادهوش حقه.. والتعويرة دية كانت من زجاجة مولوتوف.. دا كان بيبات في الميدان وكل الثوار عارفينه). نقول إن الثورة في حد ذاتها، وأحداثها المتلاحقة لم تكن لها أي علاقة بالقصص التي نسجها القاص بأسلوبه الساخر، إلا أنها كانت جوا محيطا استفاد منه أحيانا في بعض قصصه؛ ولذا رأينا المدير في قصة "جزمة جديدة" يسأل الموظف المُحال للتحقيق؛ لأنه اشتري لنفسه حذاءً جديدا سعره خمسمائة جنيه، بالرغم من أن راتبه أربعمائة جنية فقط فيقول: (هو بالمناسبة إنت صوّت بأيه علي الدستور؟!)، فيرد الموظف: (صوّت بلأة)، لتنتهي القصة بقول المدير: (لأة؟ اطلع برة يا مبذر يا كافر)، ولعل هذه العبارة من الأهمية بمكان استطاع فيها القاص أن يوظفها بذكاء وحرفية، وكأنها انعكاس لصورة المجتمع المصري الذي وقع في غياهب الغباء الديني وأساطيره التي تحاول ربط السياسي بالديني بشكل صفيق بعد ثورة يناير وظهور الإخوان علي الساحة. ولعلنا نلاحظ روح الفكاهة الدائمة في معظم قصصه لاسيما قصته "المحروق المصري"، والتي يدور فيها حوار هزلي فيه الكثير من السخرية بين المحروق المصري، ونظيره المحروق التونسي بعد وفاتهما، والذي نري فيه المحروق المصري شاعرا بالحزن؛ لأنه لم يهتم بشأنه أحد، ولم تقم من أجله الثورة في مصر مثلما حدث في تونس؛ فيقنعه المحروق التونسي أنه لكي تقوم ثورة لابد أن يكون المحروق محبوبا مثل تامر حسني مثلا، وهنا يقتنع المحروق المصري بذلك؛ ولهذا فهو يؤكد لنظيره التونسي أنه سيذهب إلي تامر حسني في المنام كي يقنعه بحرق نفسه؛ ومن ثم تكون الثورة هي ثورة بنات حزينات عليه يستطعن تغيير الواقع البائس (يا تامر أرجوك ولع في نفسك.. أو علي الأقل ولع في دقنك.. مصر محتاجالك)، ولعل هذا الحس الفكاهي الساخر نراه في أكثر من قصة منها "الأمريكي المحبوس" وغيرها. إلا أن الرغبة الدائمة في الإدهاش لدي الكاتب تتجلي في قصته "أحلام"، والتي تمر بأكثر من مرحلة تصعيدية يحاول في كل منها أن تتزايد درجة إدهاشنا كي نصل إلي الدرجة القصوي التي ينتهي فيها الكاتب من قصته، والتي تبدأ بالزوج الذي يقود سيارته ليلا- بالرغم من عدم ميله للقيادة ليلا- نتيجة إصرار زوجته، بينما يقطع عليهما الطريق مجموعة من البلطجية؛ فيحاول الدفاع عن زوجته وطفله؛ ومن ثم يطلق عليهم البلطجية النار، وهنا- في مشهد يأخذ الكثير من تقنيات السينما- يتباعد صوت إطلاق النار، وصوت محرك السيارة؛ ليفتح الزوج عينيه علي زوجته الراقدة جواره علي الفراش، والتي تخبره أن حلم كل ليلة قد أتاه، فيسألها عن طفلهما، إلا أنها تقول له: (أي طفل؟)، وأنها مازالت حاملا، وحينما يري المذيع في التلفاز يعلن عن براءة الرئيس المتنحي من كل التهم المنسوبة إليه والإفراج عنه؛ تطلق زوجته زغرودة فرحة عالية؛ فيصفعها؛ ومن ثم تُدخل يدها أسفل الوسادة لتخرج سكينا تغرزه في صدره؛ كي يتباعد صوت المذيع؛ ليفتح عينيه علي صديقه الذي يجاوره في فراش آخر، وقد فقد إحدي عينيه ليبارك له صديقه ويخبره: أن الثورة قد نجحت، وأن الرئيس قد تنحي، وتولي الجيش السلطة؛ كي يسلمها لسلطة مدنية؛ فيسأله عن زوجته، إلا أن صديقه يؤكد له أنه ليس متزوجا، وهنا يقول لصديقه: (بص.. أنا كل شوية أحلم بشيء ويطلع مش موجود.. فيه حاجة واحدة بس خايف منها، إحنا في مصر صح؟)، هنا ضحك صديقي بشدة: (حبيبي يعايشك.. إحنا في تونس حبيبي)، وهنا يصل بنا عمرو القاضي بالدهشة إلي مداها الأقصي الذي يحرص عليه في كل قصص المجموعة المبنية أساسا علي اختلاق الدهشة؛ كي تصل بنا إلي المنحي الإبداعي من خلال لغة أدبية تخص الكاتب وحده في بساطتها، واستخدام بعض المفردات المتميزة رغم "عاميتها" داخل السياق السردي المكتوب بالفصحي، ربما ليؤكد لنا أن هذا الأسلوب خاص به دون غيره؛ فنراه يقول: (لكنهم احتاروا كثيرا في "المخدة" التي تفصل السائق عن "الدريكسيون")، أو (رأيته "متشعلق" علي سور الكوبري)، وغيرها من المفردات المندسة في ثنايا السرد وكأنها من نسيجه الطبيعي، فلا تشعر لها شذوذا أو نتوءً. أظن أننا نستطيع الرهان علي كتابة القاص "عمرو القاضي"؛ لاسيما أنه قدم لنا مجموعته القصصية الأولي بهذا الشكل المكتمل؛ الذي يجعلك تظن أنه من الكتاب المحترفين الذين تستهويهم لعبة الأشكال الكتابية والتفنن فيها.