كان اليوم ميكي.. يتطلع إليه طويلاً، ثم يهمس له: "ميكي". يصمت وهو يمسحه بنظره، ثم يُكمل: "اقلع هدومك وغيّر"، يكررها ككل يوم، فيقوم بخلع ملابسه بالكامل. لم يكن بيده الاختيار. أستاذ شريف هو الذي يختار له. كل يوم يدخل له مكتبه ليختار له زيه؛ ميكي أو بطوط.. جالسًا خلف مكتبه، يتأمله من جديد كما تأمله أول مرة جاء فيها.. "مفيش أكل ولا شرب ولا حشيش، مفيش معاكسة بنات ولا كلام في المحمول، لا تقول لي عاوز أدخل الحمام ولا عاوز أروّح بدري. الوردية اتناشر ساعة، القبض بالأسبوع ويوم الغياب بيومين خصم". يهز رأسه بضعف. يُكمل: "هتجيلي كل يوم علشان أختار لك اللبس بتاعك، ودلوقتي أنت هتلبس بطوط. مبروك الشغل".. يحاول الابتسام؛ لكنه يفشل. الشغل الثالث له هذا الشهر، وموسم الصيف تقريبًا قد ولي، ولا فرص أخري للعمل.. "اقلع هدومك وغيّر". يظل ناظرًا إليه غير فاهم. "أصل العيال ولاد الكلب لما كانوا بيلبسوا علي هدومهم يستنوني أول ما أمشي، ويروحوا قالعين الزي علي طول". يصمت قليلاً، ويكمل: "عيال وسخة". يواصل صمته الرديء.. "علشان كدا أنت هتقلع هدومك كلها وتخليها في المكتب هنا، وأنا ماشي هاقفل عليها، ولما آجي تاني بالليل، تدخل تغير.. ماشي؟". يهز رأسه بإيماءات متواصلة تفي بالغرض. "اقلع وغيّر". يتمكن أخيرًا من الكلام ليسأل: "هنا؟!" "آه هنا، اخلص".. ببطء يفك حزامه، وينزل بنطاله، يفك أزرار قميصه ويخلعه وهو يرتجف. ملابسه الداخلية المهترئة تشعره بالبرد أكثر. يتلفت حوله باحثًا عن الزي، يجده بالخلف بجانب باب الحجرة. قبل أن يتحرك، يسمع صوته الناعم: "والباقي ؟".. ينظر إليه: "باقي؟!" "آه باقي الهدوم كلها، ياللا ماعندناش باقي اليوم، فيه شغل". تغلفه سحابة باردة، يكمل خلع ملابسه دون كلام، ينزل لباسه المتهدل، ويخلع فانلته المهترئة، يحاول مداراة عضوه المنكمش بيديه؛ لكنه علي مكتبه يواصل التحديق، يشير له برأسه ناحية الباب ويهمس: "البس بطوط".. يستدير ليوليه مؤخرته، يسير ببطء ناحية الزي جانب الباب، ينحني ليلتقطه وهو يعلم أنه يتأمله من الخلف. يندس في الزي الواسع، يثبت الحمالات من الداخل لكي لا يسقط، يتناول القناع الكبير ذا الرائحة العطنة، يضعه علي وجهه ليري العالم من فتحتين صغيرتين.
يوزع الورق، يمسك كومة أوراق الدعاية بيديه ذات القفاز المتسخ، ويوزعها أمام المدخل الضخم للمحل، يتفادي كل من معه بالمحل ولا يكلم أحدًا علي الإطلاق. يسخرون منه ومن زيه المتغير كل يوم بأوامر أستاذ شريف. العرق يزداد، والجو بالداخل يزداد سخونة، الشمس تواصل سحقها له داخل الزي، يشعر بالعطش. القطرات المالحة تتجمع فوق شفته العليا فينفض رأسه ليتناثر العرق داخل القناع. يشعر بالحكة في ظهره تأكل روحه. الوقت لا يمرّ والأوراق لا تنتهي. تنظر له الفتيات المارات بلامبالاة، وينظر له زملاؤه بالمحل بسخرية لا يطيقها. يري فجأة أمامه جارته وابنتها الجميلة تتناولان منه أوراق الدعاية دون اهتمام. تراجع للخلف مرتبكًا، تحسس وجهه سريعًا، وجد القناع مكانه. أنفاسه تتلاحق، ويداه ترتعشان. يذوب ببطء داخل الرداء الملون، تنظر الفتاة في الورق ثم تلتفت إليه مبتسمة ابتسامة مشرقة وتهمس بصوت مضيء: "شكرا". كأنها تعرف أنه هو وتريد تشجيعه. عاد وتحسس القناع ليطمئن أنها لا تراه. ظلت تنظر قليلاً إلي مكان عينيه، ليواصل انصهاره بالداخل. واصل تراجعه للخلف قبل أن يبتعد عنهما بخطوات وتجذبها أمها لترحلا بعيدًا. تلتفت إليه التفاتة أخيرة والزحام يبتلعها.. سيل الأوراق يتكاثر بين يديه، وإحساس بطعم صدأ يغزو فمه. الرؤية تضبب أمام عينيه، ونشيج هائل يقتلع ضلوعه.
تعدي وقت ورديته بأكثر من ساعتين، ولم يأت الأستاذ شريف بعد. بالأمس عندما جاء في مثل ذلك الوقت اعتذر له بكلمات مقتضبة باردة. يطفئون أنوار المحل من الداخل، و(الكاشير) يُتمُّ حساباته، ينزلون ثلث الباب الصاجي للمحل. يجلس بالداخل دون أن يخلع قناعه. تعب اليوم جعله لا يتحرك. لا زالت "شكرًا" ترنُّ في أذنيه. والتفاتتها الأخيرة تنير له الظلام داخل القناع العطن. يبتسم بمرارة أسفل قناعه. عندما انتهوا من تنظيف الأرض، وإزاحة الماء للخارج أخبره أحدهم: "بأن أستاذ شريف اتصل ومش هيقدر ييجي تاني النهاردة.. وطلب مننا نقفل احنا". لثوان لم يفهم، ظل ناظرًا إليه عبر الفتحة الضيقة في وجه القناع: "وهدومي؟!" "هدومك جوه.. هههههه.." قالها له وهو يضحك ويبتعد ليكمل إطفاء الأنوار. "استني.." ينتفض من مكانه وهو يعدو إليه.. "انا.. انا همشي ازاي كدا.." "خلاص، اقلع الزي وسيبه هنا، مش لازم تقلع جوه يعني".. قالها بنظرة ساخرة تمسحه بالكامل. "لأ... اصل.... اصلي....." هو لا يعلم إن كانوا يعلمون أنه يخلع ملابسه بالكامل ليرتدي الزي، لا يعلم هل كانوا يعلمون أنه عارٍ تمامًا؟! "انا لازم ادخل اوضة استاذ شربف، حاجتي جوه.. " يتوقفون بالكامل خارج المحل في انتظاره للخروج. "الأوضة مقفولة، ومحدش معاه المفتاح، لو ما مشيتش هانقفل عليك هنا." يرتعش وينشج: "أبوس ايديكوا، عايز حاجتي من جوه.." "لا يا عم، وفر البوس لأستاذك شريف.. ههههههه." يضحكون كلهم. يقترب منه أحدهم، ويقوم بلكزه بعنف: "ياللا يا وسخ عايزين نروح.." تؤلمه اللكزة ويوجعه السباب. يجذبونه للخارج وهم يضحكون، وبسرعة يقومون بسحب الباب الصاج لأسفل ويغلقونه بقفل ضخم ويرحلون تاركين إياه علي الرصيف المبلل شبه الخالي..
يسير بالزي مستترًا بالحائط جانبه، يلفت نظر بعض المارة فينظرون إليه ويبتسمون بسخرية. كيف سيدخل شارعه ومنزله أمام أخواته وأمه. أخبرهم بأنه يعمل محاسب (بشهادته) التي لم يأخذها بعد. في الشارع ينادون عليه ب "أستاذ" وهم لا يعلمون أنه ميكي. يظنونه محاسبًا سيتخرج قريبًا ليحتل مكانه المستحق في أحد البنوك الكبيرة. تدعو له أمه كثيرًا وهي لا تعلم أن الدعاء يرتد من فوق زيه الذي يرتديه. يتوقف محاولاً التفكير، يتلفت حوله، يُفكر بخلع القناع؛ لكنه يتراجع. يعيد التطلع حوله، محموله بالداخل مع ملابسه ونقوده بحجرة الأستاذ شريف، لا مفرَّ من الذهاب للبيت هكذا. يظل محافظًا علي القناع فوق وجهه، محاولاً السير بسرعة دون النظر لأحد. كلما اقترب من منزله، زادت التعليقات والسخرية. الشوارع تضيق، والإنارة تزداد، والناس يزدادون بذاءة. لا يعلم أحد أنه هو، سيمرُّ سريعًا بشارعه دون النظر لأحد، سيعدو إن احتاج الأمر، ولن يعرفوا أنه هو. بدأ في البكاء قبل شارعه بقليل، يلهث محاولاً التقاط الهواء من بين دموعه وجريه المجنون كي لا يلاحظه أحد. يدخل شارعه الصغير جريًا. في البداية لم يلاحظه أحد، وفجأة تنبهوا له بالكامل: "ايه دا ؟ امسك.. امسك.." يُكمل جريه الأعمي نحو مدخل بيته أمام الناس، يصعد السلم قفزًا، يتعثر ليسقط علي وجهه أو علي قناعه، يهب ليكمل صعوده المجنون، يطرق الباب بيديه الاثنتين. كانوا نائمين. صوت الناس بالشارع يقتحمون مدخل البيت بالأسفل. الشقة المواجهة لشقتهم تُفتح وتضيء النور. يلمح جارتهم المسنة وابنتها الجميلة يصرخان، يسمع المرأة: "ايه دا؟ دا جه ورانا". يواصل الطرق وبكاؤه يتصاعد خارج قناعه، يلمح النور بالداخل يُضاء، صوت خطوات مسرعة تقترب من الباب. أخته الصغيرة تفتح الباب وما أن تراه حتي تصرخ بجنون. يسمع أصوات الناس تصعد مسرعة خلفه متتبعة صرخة أخته. تأتي أمه جارية نحو الباب. يحاول أن يتكلم ليخبرهم بأنه هو.. النشيج واللهاث يأكلان فمه. لا يجد شفتيه أو لسانه. تصرخ أمه هي الأخري.. الأصوات علي السلم تقترب، يقتحم الباب دافعًا أخته للداخل، نسي الكلام تمامًا، يعدو بسرعة نحو حجرته. أمه وأختاه تطلقان المزيد من الصرخات. يدخل حجرته بسرعة وأصوات الناس تصل للشقة وتدخل للصالة وسط صرخات عائلته العالية. "فيه إيه..؟ هو فين..؟ هو فين..؟" يغلق الباب خلفه بالمفتاح بيد مرتعشة، يتقدم لمنتصف الحجرة وهو يسحب من علي وجهه القناع الضخم؛ لكنه لم يُخلع. يشده بعنف أكبر، لا يتزحزح. يشعر به يذوب مختلطًا بتضاريس وجهه بالكامل. يصرخ، ويزوم والطرقات علي باب حجرته تتعالي. يحاول مرة أخيرة، والباب خلفه ينهار شدَّ القناع لأعلي بجنون؛ لكنه كان ملتصقًا تمامًا بملامح وجهه..