الزمان: الثلاثاء: 25 يناير 2011 / العاشرة صباحا المكان: "ميدان المستشفي" الميدان الرئيسي لمدينة موط بمركز الداخلة - محافظة الوادي الجديد. الميدان خال تماما إلا من سيارة شرطة بها ضابط صغير السن يبدو متجهما من وقفته المملة في هذا المكان يرافقه اثنان من الجنود وأمين شرطة متحفز، بدا ذلك من نظرته المتنقلة حوله فوق الفراغ الجاثم فوق صدر الميدان. لاشيء يختلف في صباح الميدان عن أي صباح يوم عطلة رسمية سابق، نفس الخواء والصمت، لا جديد سوي سيارة الشرطة المفتوحة الابواب تلك بوقفتها غير المعتادة في هذا المكان وذلك التوقيت. تبادر ساعتها الي ذهني المحبَط السؤال المُحبِط: أين الثورة؟ ويبدو ان الإحباط الثوري هنا بدأ سريعا فهناك ثورة قائمة علي البعد لكنها لم تصل الي هنا حتي الآن. انتظرت ربما لبعد مسافتنا عن العاصمة ستصل الثورة قريبا ولكنها طوال فعاليات الثورة حتي بعد ان انتشرت في ربوع مصر لم تصل ويبدو أنها ضلت الطريق فوق تلك الرمال للصحراء الشاسعة التي تحيطنا من كل صوب . يومها لم يختلف الحال تقريبا لا في الصباح أو المساء غير أن تلك السيارة كحلية اللون اختفت أيضا من الميدان مع نهاية النهار وان كانت ظهرت علي فترات متقطعة بعض الاجساد وهي تقطع الميدان وتختفي لحال سبيلها. الثورة هنا تناقلت شفاهة بين الناس كنت أراها تتناثر وتتلاشي مع دخان السجائر والنراجيل علي المقهي أمام شاشات التلفاز. حتي المثقفين هنا آثروا نضال "الكيبورد" عن أي فعل ثوري حقيقي، شعرت وقتها بوحدة حقيقية وبإحباط عارم، ولم أجد لدي اجابة واحدة لتساؤلات طفلتي عندما كانت تسالني بكل براءة بعد ان تشاهد التلفاز المفتوح دائما علي الاحداث والذي لم يكن يأتي وقتها لها بقنواتها المفضلة : هو ليه مفيش هنا ثورة يا بابا؟ حتي عندما تحرك الناس هنا تحركوا في اتجاه مخالف تماما، فبعد أن ألقي "المخلوع" خطابه العاطفي خرج القلائل صباح اليوم التالي مدعومين بأكياس عصير "البست" من فلول النظام وأعضاء الحزب الوطني ليهتفوا ضد التحرير قائلين في صوت واحد (يا تحرير ..يا تحرير..كده كفاية ..كده تخريب) حتي هتافهم لم يكن مسجوعا بما يكفي ليقنع أو ليتناسب مع كل هذه الأكياس البلاستيكية الملقاة بارض الميدان فارغة من العصير. وحتي اللحظة الراهنة رغم الاحباطات الكثيرة والعامة التي مرت بها الثورة أري ذلك المشهد هو قمة الاحباط، فلم يغب عن خاطري لحظة واحدة كلما رأيت الثورة يسقط أحد شهدائها. واستمر الامر هنا علي عاديته، حتي بعد سقوط النظام لا اختلاف سوي بعض المطالب الفئوية علي استحياء أو بعض المطالبات بنقل مسئول من منصبه أو "أمين شرطة" من قسم الداخلة. ما كان يعزيني عن كل هذا الفقد أثناء ثورة الخامس والعشرين صديق حميم لي من بلدتي يعمل بالقاهرة من مدة طويلة شارك في الثورة من يومها الأول انتهاء بالزحف إلي الاتحادية يوم الجمعة 11/ 2/ 2011 . كان صديقي"سيد عبد الشافي" هو من أري فيه الثورة بكامل تفاصيلها وكان في مهاتفتي له يوميا تقريبا حرصي علي الاطمئنان إلي أين تمضي مصر بثورتها، لن أنسي ما حييت صوته المبحوح ليلة موقعة الجمل وبعد ذلك الخطاب العاطفي عندما رد علي الهاتف وقبل أي تحية أو سلام فاجأني بصراخه "برضه مش حنمشي..هو اللي حيمشي" وانقطع الاتصال تأكدت ساعتها أن هناك أملا يلوح في الافق وان كان بعيدا عنا بكثير، ولكن لاضير. ظننت بعد ذلك ان الاحباط الذي جثم علي صدري انتهي بسقوط النظام الا انني بدأت اكتشف ان احباطا عاما بدأ في التوغل إلي نفسي تقريبا مثل جميع المصريين المؤمنين بحريتهم بداية من سيطرة "مجلس طنطاوي" العسكري علي الحكم وتمثيلية الاستفتاء علي التعديلات الدستورية يوم 19مارس 2011 ، ثم اطلاق العنان لحركات الاسلام السياسي لتتربع علي قمة المشهد مستغلة العاطفة الدينية لجموع البسطاء من الشعب وتخلي تلك الحركات عن الثوار في الميدان يواجهون مصيرهم امام طغمة العسكر واسرعوا لحجز كراسيهم الوثيرة والمريحة في مجلسي الشعب والشوري. وكنت أتذكر وأنا أري شيوخهم علي الشاشات يسبون ويسفهون الثوار في الميادين ذلك المشهد في بلدتي ابان الموجة الأولي للثورة عندما الصق الناس للثوار تهمة التخريب. أذكر انني قبل انتخابات الرئاسة كنت ساشارك في احدي الامسيات الشعرية فقررت أن اكتب قصيدة عامية علي غير عادتي تعبر عن تلك الخيانة للثوار وعن محاولة عسكرة الدولة مرة أخري انهيتها بقولي: هما اللي سلسلوها وأدوها وكمموها لعنوا ميتين أبوها حاكموها وعسكروها ذلوها وزلزلوها واما "أخوانها" باعوها حاصروها في الميدان. ثم كانت أكبر الصدمات وظهور نتيجة انتخابات الرئاسة ووضعنا اختيار الشعب وديمقراطيته المكتسبة بين فكي رحي الفلول والاخوان ولكنني لم أنسق إلي محاولات التبرير بأن نظام الاخوان هو ممثلنا الثوري وذهبت خلف ستارة التصويت لأبطل صوتي وكتبت علي الورقة ليس أكثر من كلمتين لعنت فيهما حال الشعب الذي أوصلنا إلي كل تلك الاحباطات. وجاء "مرسي" ممثلا للاسلام السياسي في رئاسة الدولة وجاء الدستور لتكتمل الدائرة حول رقبة الثورة ، وظهر انقسام الشعب المصري الذي نعاني منه حتي الآن. حتي بعد أحداث الثلاثين من يونيو 2013 وازاحة "الاخوان المسلمين" عن سدة الحكم واعتقادنا بقرب تحقيق الثورة لأهدافها ومطالبها إلا أنه لاحت في الافق تلك المحاولات لإعادة الدولة البوليسية كما كانت وسيطرة فلول النظام السابق مرة أخري وتصدرهم المشهد وزاد الانقسام أكثر مما كان غير أن الشيء الأكثر احباطا فوق كل ما فات هو مشهد القتل الذي أصبحنا نغسل به وجوههنا يوميا تقريبا مع كل صباح جديد. المؤلم في كل ذلك أنني كلما سألت نفسي : ماذا قدمنا للشهداء الذين قدموا أرواحهم من أجل حرية لن يروها ؟ أشعر بحرج شديد ودمعة ساخنة تسقط في طريقها إلي الأرض تحت قدميَ.