لتصحيح المفاهيم الخاطئة، الأوقاف تسير قوافل دعوية للمحافظات الحدودية    يستحقون أكثر من التكريم    «الوزير» يتفقد الخط الثاني للقطار الكهربائي السريع في المسافة من القاهرة حتى المنيا    اختيار «العلمين الجديدة» عاصمة المصايف العربية :استثمارات ضخمة وخدمات فندقية تليق بجميلة المدن الساحلية    الجريمة مستمرة والقاتل واحد    المهمة "قبل الأخيرة".. حكام مباراة بتروجيت والزمالك في الدوري    نيوم ينفي التفاوض مع أوسيمين    ضربات استباقية وسيطرة أمنية للقضاء على البلطجية ومروجي المخدرات في العبور| صور    ترامب يهدد بفرض 50% ضرائب على واردات الاتحاد الأوروبي    نيللى كريم تغنى وترقص مع تامر حسنى بحفله jukebox والجمهور يصفق لها    محمد شاهين يبكي بسبب هذا المشهد في «لام شمسية»    السفيرة نبيلة مكرم عن أزمة ابنها رامى: نمر بابتلاءات وبنتشعبط فى ربنا (فيديو)    وفقا للحسابات الفلكية.. موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى 2025    أسعار مواد البناء مساء اليوم الجمعة 23 مايو 2025    اليونيسيف: الأزمة الإنسانية فى غزة تعصف بالطفولة وتتطلب تدخلاً عاجلاً    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    ضبط كيان صناعي مخالف بالباجور وتحريز 11 طن أسمدة ومخصبات زراعية مغشوشة    من مصر إلى إفريقيا.. بعثات تجارية تفتح آفاق التعاون الاقتصادي    انطلاق امتحانات العام الجامعي 2024–2025 بجامعة قناة السويس    كم تبلغ قيمة جوائز كأس العرب 2025؟    يختتم دورته ال 78 غدا.. 15فيلمًا تشكل موجة جديدة للسينما على شاشة مهرجان كان    محافظ البحيرة: إزالة 16 حالة تعدي على أملاك الدولة بالموجة ال 26    عاجل|بوتين: مستقبل صناعة السلاح الروسية واعد.. واهتمام عالمي متزايد بتجربتنا العسكرية    مستشفى الحوض المرصود يطلق يوما علميآ بمشاركة 200 طبيب.. و5 عيادات تجميلية جديدة    رئيس "التنظيم والإدارة" يبحث مع "القومي للطفولة" تعزيز التعاون    بث مباشر نهائي كأس مصر سيدات - الأهلي (1)-(0) دجلة.. جووول أشرقت تسجل الأول    مدير جمعية الإغاثة الطبية في غزة: لا عودة للمستشفيات دون ضمانات أممية    أمين اتحاد دول حوض النيل يدعو للاستثمار في أفريقيا |خاص    حزب الإصلاح والنهضة: نؤيد استقرار النظام النيابي وندعو لتعزيز العدالة في الانتخابات المقبلة    بين الفرص والمخاطر| هل الدعم النفسي بالذكاء الاصطناعي آمن؟    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    القاهرة 36 درجة.. الأرصاد تحذر من موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد غدًا    إيفاد قافلتين طبيتين لمرضى الغسيل الكلوي في جيبوتي    تقديم الخدمة الطبية ل 1460 مواطنًا وتحويل 3 حالات للمستشفيات بدمياط    الزمالك يعلن جاهزيته للرد على المحكمة الرياضية بعدم تطبيق اللوائح فى أزمة مباراة القمة    ندوة توعوية موسعة لهيئة التأمين الصحي الشامل مع القطاع الطبي الخاص بأسوان    جوارديولا: مواجهة فولهام معقدة.. وهدفنا حسم التأهل الأوروبى    قصور الثقافة تعرض مسرحية تك تك بوم على مسرح الأنفوشي    ننشر مواصفات امتحان العلوم للصف السادس الابتدائي الترم الثاني    ضمن رؤية مصر 2030.. تفاصيل مشاركة جامعة العريش بالندوة التثقيفية المجمعة لجامعات أقليم القناة وسيناء (صور)    بدون خبرة.. "الكهرباء" تُعلن عن تعيينات جديدة -(تفاصيل)    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    البريد المصري يحذر المواطنين من حملات احتيال إلكترونية جديدة    ضبط مدير مسئول عن شركة إنتاج فنى "بدون ترخيص" بالجيزة    "نجوم الساحل" يتذيل شباك التذاكر    "طلعت من التورتة".. 25 صورة من حفل عيد ميلاد اسماء جلال    محافظ الجيزة: الانتهاء من إعداد المخططات الاستراتيجية العامة ل11 مدينة و160 قرية    أرني سلوت ينتقد ألكسندر أرنولد بسبب تراجع مستواه في التدريبات    استمرار تدفق الأقماح المحلية لشون وصوامع الشرقية    زلزال بقوة 5.7 درجة يدمر 140 منزلا فى جزيرة سومطرة الإندونيسية    الدوري الإيطالي.. كونتي يقترب من تحقيق إنجاز تاريخي مع نابولي    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    ترامب وهارفارد.. كواليس مواجهة محتدمة تهدد مستقبل الطلاب الدوليين    مصادر عسكرية يمينة: مقتل وإصابة العشرات فى انفجارات في صنعاء وسط تكتّم الحوثيين    القنوات الناقلة مباشر ل مباراة الأهلي ضد وادي دجلة في نهائي كأس مصر للكرة النسائية    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"باب الليل"
المقهي و"وجه يانوس"
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 11 - 2013

كان يانوس إله البوابات في الميثولوجيا الرومانية القديمة ينظر بوجهين، بوجه إلي الداخل وبآخر إلي الخارج، والوجهان وجه واحد، لكنه وجه مزدوج، رمز للدخول والخروج، للحياة والموت، للقادمين والمغادرين، للمألوف وغير المألوف، للعتبة وحد السكين والبرزخ والمطهر و"الما بين"، رمز للبوابات والأبواب، للمرور بين مكانين وبين زمانين، للكلية ووحدة الوجود والازدواجية والانقسام وتفكك الذات وتشظيها، للمجهول القادم والمعلوم القائم، للحدود، والأزمنة الحدية التي تفصل بين زمانين وتجمع بينهما أيضًا، وللأماكن الحدية التي تفصل بين مكانين وتجمع بينهما أيضًا. وتسمح الأبواب والبوابات بالدخول إلي ما كان من قبل مغلقًا وأصبح الآن مفتوحًا، للرغبة الحسية، ورمز للأبواب الداخلية التي تتعلق بالنظر داخل النفس البشرية والأبواب الخارجية التي تتصل بالنظر إلي الخارج، إلي الساحات والشوارع والعالم الفسيح مترامي الأطراف.
والمقاهي مثل المدن أماكن مزدوجة الطابع، ففيها العشوائيات وفيها الأماكن الراقية، فيها العلاقات الحميمة وفيها العلاقات الرجيمة، فيها الوحشة والقلق والاضطراب وفيها الوعد والحلم والأمنيات، المقاهي أماكن صغيرة تلخص ازدواجية المدن، دع عنك المقارنة الآن بين المقاهي الشعبية وما يسمي الآن ب"الكوفي شوب" ففي معظم الحالات تجمع المقاهي بين المختلف في مؤتلف والمتباعد في متقارب، إنها أماكن مزدوجة تجمع بين الحضور والغياب، الجميع يحضرون إليها والجميع يغيبون عنها حتي لتصبح أحيانًا مثل مقهي "فان جوخ" الليلي الغارق في الألوان الشحيحة والكابية والكآبة والقلق. المقهي مكان حقيقي والمقهي مكان متخيل، إنها مكان يرتبط بالألفة ويرتبط بالوحشة أيضًا، قد تتحول ألفة المقاهي إلي وحشة وقد تتحول وحشتها إلي ألفة، وهي في جميع الحالات تجمع بين النقيضين وتوجد علي عتبة المشاعر والأشياء، إنها مكان من يهيمون ويتشردون، ومكان من يشعرون إنهم في بيتهم وبين أحبتهم، هناك مكان منقسم يجمع ذواتًا منقسمة مزدوجة أيضًا، مكان للمسرة ومكان لتجرع الخيبات.
ومثلما اهتم فالتر بنيامين بهؤلاء المتسكعين الذين ينظرون إلي المدينة باعتبارها "مكانهم الخاص" علي الرغم من أنها أيضًا المكان الذي "يبتلعهم وفيه يكونون من الهائمين والتائهين"؛ فكذلك كان المقهي بالنسبة للكثيرين، "مكانهم الخاص" داخل المدن المصرية أو التونسية أو غيرها من المدن العربية أو العالمية الحديثة، إنه الأيقونة الخاصة بالبشر الهائمين التائهين الذين يبحثون عن معني ما لوجودهم وعن صيغة مناسبة لحيرتهم وقلقهم.
وهنا في مقهي "لمة الأحباب" في تونس وفي رواية "باب الليل" قام وحيد الطويلة بتجسيد هذه الهويات المنقسمة، هذه الحالات من الفقدان لليقين، وذلك القلق العام والخاص ومشاعر الخوف وتهدد الوجود والغربة وفقدان الاستقرار والشرد والافتقار للبيت أو الوطن الحميم المألوف، هنا في عالم ليل يتناقض مع عالم النهار، بشر يجيئون كأشباح ويذهبون كأشباح، روح ضائعة مهوِّمة بين الليل والنهار وبين الحضور والغياب، الحياة والموت والإقامة والرحيل، هامشيون هم في مركز الحدث ومركزيون هم في الهامش، هنا في "باب الليل" أجانب يحضرون بحثًا عن المتعة ويذهبون، تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع العالم الكبير، الجنس الذي يرتبط بالموت، والبشر الأحياء وما هم بأحياء، بأحلامهم المهمشة وآمالهم المدمرة ورؤاهم المنكسرة ومكانهم الذين يتحولون خلاله إلي أشباه بشر، ذلك المكان بطقوسه الليلية وكائناته ومقاعده.
خمسة عشر بابًا منها أبواب للبشر (باب البنات، باب الرجال، باب النساء، باب للادرة) ولأحوالهم (باب الوجع، باب الهوي، باب الجسد) ومنها أبواب للطبيعة وأحوالها (باب الريح، باب النار، باب البحر) ولمراتبهم في عالم الكائنات الأخري (باب الملكة، باب النحل، باب العسل) وهكذا. وكل إنسان في هذه الرواية "باب" بذاته، وفي ذاته ولذاته، ويجمع بينهم ذلك الباب الكبير "باب الليل" في ذلك العالم الأكبر؛ "عالم الليل" الذي انطوي فيه العالم الأصغر، عالم الرغبات والأشياء والبيع والشراء.
والأبواب في "باب الليل" مواربة غامضة مريبة، منقسمة، مزدوجة، تجمع بين الدخول والخروج في حالة واحدة ملتبسة غريبة، ومن ثم تكون رمزًا وسجلاً لذلك القلق المكاني الذي يتعلق بشيء ما، هو ذلك المقهي الذي أصبح المركز بعد انهيار المراكز كلها، وأصبح الوجهة بعد ضياع الوجهات كلها. هنا مكان مشحون بالمعاني والذكريات والبشر، هامش تحول إلي مركز، وأمن متوهم لمن لا أمن لهم. فمقهي "لمة الأحباب" في تونس العاصمة يجمع العالم ويفرقهم، يحتويهم ثم يلفظهم، وكأنه إله أرسطو الذي يحرك ولا يتحرك، منعزل عن العالم وقد انتهي منه وانشغل عنه، هنا في "لمة الأحباب" الشخصيات كلها منقسمة، مزدوجة، بل مفتتة متشظية مهشمة، ومنها، تمثيلاً لا حصرًا، شخصية أبي جعفر (المنصور أو المهزوم كما يتفكه الراوي) والذي هو "في النصف الثاني للخمسينيات بعينين غريبتين، كل واحدة تنظر في اتجاه، واحدة لأقصي اليمين والأخري لأقصي اليسار، لا تنظران للأمام معًا، كأنه كان ضروريًا أن يخلق هكذا ليعرف أن يضع قدمه ولينظر بسبع عيون.... عيون وملامح وجسد أقرب إلي جان بول سارتر إن كنت قد رأيت الأخير في الصور". وتواجهنا في "باب الليل" أيضًا شخصيات أخري كثيرة قد لحقها هذا التدهور، هذا التكسر، هذا الانقسام، هنا مزق شخصيات وبقايا، وظلال، شخصيات تضحك وتبكي ويصدق
عليها قول أبي العلاء المعري:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
وحُقَّ لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا ريب الزمان كأننا
زجاج ولكن لا يعاد له سبكُ
هنا تتحول المرأة إلي سلعة والبشر إلي نفايات، إنه لمة الأحباب المقهي الذي ابتلع المقاهي كلها وتجاوزها في شارع أسطوري طويل ممتد يضم أكثر من ستين مقهي، وهناك عالم الشك وفقدان اليقين وسقوط الأفكار الكبيرة حول القومية والاشتراكية والدولة المركزية، هنا رصد لعالم أو لبقايا عالم سبق أن وصفه "سلافوي جيجيك" بأنه "عالم سقطت فيه الأفكار أو "التمثيلات" الكبيرة وحضرت فيه الأشياء الصغيرة، ....إنه عالم "الشيء The Thing" غير المحدد، غير المفهوم، الذي لا معني له" إنه عالم الموت، عالم يبدو مثل شخصيات كثيرة في الرواية، تظهر كأنها لم تكن حقيقة "بل وهمًا يبيع وهمًا".
يظهر "الشيء" أولاً كمكان سديمي مبهم، منطقة مقدسة، أو مدنسة، يتم خلالها الإغلاق لتلك الفجوة الموجودة بين الواقعي والرمزي؛ فيه تتحول رغباتنا إلي شكل مادي، وأحلامنا إلي أشياء براقة جيدة التغليف؛ بدائل للأخيلة والرغبات والأفكار والتمثيلات التي انهارت في لحظة خاصة ممتدة من الصدمة، وهنا يكون الفن وفقًا ل"لاكان" و"جيجيك" : "محاولة لتنظيم الفراغ والعدم" ويكون الجمال وفقًا ل"ريلكه" أشبه ب"القناع الأخير الذي نضعه فوق كل ما هو مرعب"، وهنا يكون المتخيل المجال الرئيسي للمظاهر السطحية والخداع، كما أنه يستعين باللغة والصور المشهدية كي يقيم علاقة خاصة ملتبسة مع عالم الجسد ومع صورة الجسد. هكذا يصبح الجسد بديلاً للذات، صورة متكررة لها وقناعًا، وبدلاً من أن تعبر الذات عن الجسد، يصبح الجسد معبرًا عنها، وتدريجيًا تتحول الذات إلي "شيء" ما، يكون كامنًا في الجسد، مكبوتًا هناك، مبعدًا ومغتربًا بداخله. لكن هذه الذات لا تموت أبدًا، فالمكبوت وفقًا ل"فرويد" لابد أن يعود، وقد تكون عودته من خلال وعي وانكشاف، أو من خلال صدمة أخري لهذه الذات، أو من خلال ذات أخري لم تزل تحتفظ بقدرتها علي الملاحظة والإدراك والكشف، إنها ذات الفنان أو المبدع والتي تقوم بوضع حجاب أو قناع علي كل ما هو مرعب، تعيد تشكيله وتقدمه لنا في أعمال ونصوص إبداعية جميلة مثل هذا النص الموجود بين أيدينا: "باب الليل".
المقهي الذي ابتلع المقاهي كلها:
هنا في مقهي "لمة الأحباب" أو مقهي "الأجانب" كما يسميه البعض "كل شيء يحدث في الحمام.. حمام المقهي بالطبع" وهناك "باب لزج متواطئ، يتحرك سريعًا، ثم يرتد بطيئًا، كأنه يشارك بدوره في المكيدة".
وخلف الباب بابان، باب للرجال وباب للنساء، لكن المرايا تزيل كل تك الحواجز المصطنعة بين هذين البابين وبين الرجال والنساء وسط "غابات الأرقام"، وأجساد البشر هذه. هناك عالم كوزموبوليتاني: لبنانيون، وفلسطينيون، وشوام، ومصريون، وتوانسة، وإيطاليون، وألمان، وأفارقة، وخليجيون، وليبيون، وغيرهم، هنا يفقد الإنسان ملامحة الخاصة المميزة، هنا يضيع ماضيه وحاضره ومستقبله، هنا يتحول الإنسان إلي "شيء" في غابة الأجساد والأرقام هذه، هنا "الشيء" حاضر، هنا الأشياء حاضرة، هنا المال وقناصة الفواتير وقناصة الأسرة جمع سرير - أيضًا.
هنا شخصيات من دم ولحم لكنها تتحول رويدًا رويدًا إلي ظلال وأشباح، هنا مجيد الذي يجلس ويشاهد ويدفع وينهي أموره خارج الحمام، ويصطحب النساء لكنه أقرب إلي العاجز العنين، وفلسطينيون بقوا في تونس مرغمين "بعد أن غادر الجميع إلي رام الله مع ياسر عرفات بعد اتفاقية أوسلو..." رفضوا العودة أو منعتهم إسرائيل من العودة وتفرقوا في شتات بعد شتات وراء رزق أو عائلة أو دولة ترحب بهم أو وطن، يقبعون في حالة أقرب إلي الحلم أو يقعون في براثن ذلك "الشيء" في منطقة وسطي بين الحلم والكابوس، "حشروا هنا، لا علم يستظلون تحته، لا أرض، لا عشيرة، لا ضفة يقفون عليها ليلوحوا لأي قبطان أو شيطان.. حشروا هنا وبقوا محشورين من وقتها، في أحلامهم البطيئة الكسولة، وكوابيسهم السريعة".
مجيد، ومحمد كازانوفا، ومهدي وللادرة وحلومة، وألفة، وباربي وغسان ونعيمة، كلهم عالم قائم بذاته، لكنه عالم متصل ومنفصل، متصل من الخارج بعالم المقهي والبيع والشراء والتظاهر بالبهجة والحيوية، ومنفصل في داخله، في أحزانه وهزائمه وانكساراته وضياعه، شخصيات كثيرة تقضي وقتها في المقهي وتقضي ما عداه في الأسواق، مجيد الذي ينفق نقوده ليشتري أشياء لا يحتاجها، ونعيمة التي خدعتها أختها واستولت علي صديقها الأجنبي الذي كان ينوي الزواج بها فقررت أن تنتقم من كل الرجال والأجانب منهم خاصة.
في هذا العالم الاستهلاكي الذي يباع فيه كل شيء وكل شخص ويشتري، تقذف ماكينات الصرف الآلية بالنقود ويقذف حاملو النقود أموالهم وأشياءهم علي النساء، ويسأل السائق الراكبة معه كيف ستدفع له أجرته "لحم ولا فلوس؟" ويرتبط كل شيء بكل شيء، البشر بالجنس بالنقود، بالمخدرات، بالمؤامرات، بالغياب للجميع معًا في أتون عالم متقلب يقع بين زمانين، زمان سيمضي بسلطاته ورؤسائه، وزمان آخر سوف يجيء بثوراته وأحلامه وفوضاه، إنه زمن انهيار التمثيلات الواضحة كلها، الأفكار الكبري كلها، بما فيها فكرة الإنسان والإنسانية ذاتها.
يقول أبو شندي "ولا واحدة تأتي هنا من أجل المتعة.. كله من أجل النقود، والورق الأخضر الأبيض والملون، ولا بأس بالدينارات طالما كانت كثيرة" وأيضًا "لا غرام في هذه المدينة، بل لا غرام في هذه الدنيا، الفلوس، الفلوس فقط". هنا يتحول البشر إلي آلات مثل آلات صرف النقود، بشر ATM وفيزا وماستر كارد، بلا روح ولا مشاعر، بل دمي وأشباح وعرائس مانيكان، هكذا يقول الراوي علي لسان إحدي شخصياته متهكمًا من ذلك العالم الذي عاش فيه: "هذه مدينة لا يدفع فيها أحد لأحد لوجه الله والمحبة، ولو في الأعياد الوطنية".
ويرتبط بذلك كله وصف وحيد الطويلة وتصويره كذلك لأجساد النساء ولقصصهن وحكاياتهن المأساوية، ملابسهن الداخلية والخارجية، تحايلهن علي الرجال والحياة، وتلك البطالة وتأثيرها المدمر علي الجميع، وأيضًا كيف يتحول البشر إلي سلع وكيف تصبح السلع أغلي من البشر، كيف يحدث الاستلاب للإنسان في هذا العالم، بشكل يتفق مع وصف هيجل وماركس للإنسان الذي تسلب الآلة روحه فيتحول هو ذاته إلي آلة، وبدلاً من أن يسيطر عليها، تسيطر هي عليه وتحوله إلي شيء من أشيائها، هنا في مجتمع الاستهلاك هذا يصبح الإنسان عبدًا للجنس، للعادة، للمادة، للنقود، للأشياء.
سلع وبشر وآلات:
كل آلية وفكرية وسلوكية تسلم صاحبها إلي الآلية الجسدية، وكل آلية جسدية قد تسلم صاحبها إلي آلية فكرية ووجودية، وفي الحالتين، الآلية الفكرية والآلية الجسدية، يتحول الإنسان إلي ما يشبه الآلة، آلة تفقد الشعور بإنسانيتها، تفقد مشاعرها، تفقد روحها، تتحول إلي شيء، تتشيأ، تصبح حاضرة وغائبة، جامدة وحية، متحركة وصامتة، آلة أو دمية، تجمع بين النقيضين، الحياة والموت، الوجود والعدم، بل بين النقائض كلها، كما أنها توجد دائمًا في منطقة ال"ما بين"، هناك عند البوابات، أو وراء الأبواب، وراء الحمامات، في مكان النفايات، تصبح الكائنات البشرية رقمًا يتم تبادله واستهلاك صاحبه أو صاحبته في عالم وقوده البشر والبيع والشراء والتحايل والاستهلاك.
بشر وأشباه بشر انتهت صلاحيتهم ومضي زمانهم، وقد وقعوا في براثن المقهي والتكرار القسري القهري للكلام والشعور والتذكر والفعل والأمنيات، هنا كل شيء مجتر متكرر مكرور: المشي والكلام، الجنس، الذهاب للمقهي، النساء، الرجال، الآخرون، الوطن، ألعاب الشطرنج والورق وتدخين الشيشة وشرب الشاي والقهوة والبيرة وغيرها، بشر انتهت صلاحيتهم مثل تلك الأدوية التي أحضرها أبو جعفر في الرواية معه من العراق، انتهت مدة صلاحيتها، لكنه ما زال مصرًا عليها "لا ينظر إلي تاريخ انتهائها مهما نبهه أحدهم، لا يطالعها، مستمرة المفعول ولن تنتهي... يقول بصدق واضح إنه لا يبرأ إلا بها" ويستمر هكذا يعيش في أحلامه ومخاوفه وأمراضه حتي يكتشف ذات مرة "في آخر الليل أن الأحلام سراب" وينتهي الأمر به مريضًا علي مشارف الموت "يحضر جثة صاحية إلي المقهي ويعود جثة نائمة" كذلك كان حال "أبو شندي" تلك الشخصية الرائعة أدبيًا الجميلة إنسانيًا، والذي يظل موجودًا دائمًا كتجسيد لآلية التكرار والعبث وسقوط الأحلام، وحضور الموت مع الحياة، والمرور من النضال والثورة إلي التخفي والانسحاق والاستسلام، إنه في ذاته باب من أبواب هذه الرواية، باب بالمعني الفيزيقي والمعني الميتافيزيقي أيضًا. إنه الحي الذي أصبح ميتًا، أو شبه ميت، والذي يتحول من الحياة الصاخبة العارمة المحطمة لكل الأبواب والحدود، إلي شبح سقط في براثن التكرار اليومي، شبح لا يعيش ولا يموت، ينتاب المقهي والحياة كما تنتاب الأشباح الأماكن الخربة والباحات المهجورة، يصحو كل صباح ويعد الفطور لطفلتيه ويذهب معهما إلي المدرسة المجاورة، وفي وقت الفسحة يذهب إليهما بالساندوتشات، يلعب معهما، ويحضر إلي المقهي، يعود لأخذهما من المدرسة، ويعود في المساء إلي المقهي مرة أخري "وهكذا يدور حول نفسه طول النهار لا يجد ما يفعله، لا نقود تعزي، ولا أمل يغري، ولا أطفال يكبرون ليرتاح، ولا بصيص أمل في العود لدار أبيه، ولا موت ينقذه من هذه الألعاب التي لا تنتهي" هكذا ينتهي به الأمر إلي أن يقول عن نفسه: "أصبحنا بقايا، الحكاية كلها بقايا، بقايا نضال، وبقايا حياة، هنا لا أعيش ولا أموت" ويقول كذلك "الموت ليس واحدًا، الموت حزمة، هزمته داخلي من زمان وقرأت الفاتحة علي روحه، يهزمني الآن ويتجسد في الخوف علي طفلتين".
أبو شندي فيلسوف ساخر متفكه يسخر من نفسه ومن أصدقائه ومن العالم كله، يقول ذات مرة لصديقه أبي جعفر: "لابد أن توضع في متحف يا أبو جعفر، أنت الشاهد الحي علي ما جري لنا" ويقول كذلك "ملابسنا تشبهنا، تشبه أحلامنا، بالتمام والكمال، نعيش فيها وقد نموت أيضًا". لقد تحول أبو شندي من مناضل كبير قام بعمليات جسورة ضد عصابات الهاجاناه اليهودية إلي ساخر ومتهكم ومتفكه ومتشائم كبير أيضًا، إنه لا يفلت موقفًا إلا وحوله إلي نكتة، ولا شخصًا إلا وحوله إلي أضحوكة أو علي الأقل جعله يضحك ويخرج من تلك الحالة من الكآبة التي قد يكون قد وقع بين براثنها. ووفقًا لوصف وحيد الطويلة له: "وجه محايد دون تعبير واضح، يبدو كأنه قضي وطره من الدنيا، كأنه لا يأمل في شيء بعد الآن".
يعيش "أبو شندي" في الواقع لا يحاول التهويم حوله ولا الطيران، إنه ليس مثل خميس بريجنيف، تلك الشخصية الطريفة الأخري والذي يصفه وحيد الطويلة بأنه "نموذج ممتاز لمناضلي المقاهي الكبار، إن لم يجد مناسبة يخترعها، يهبط علي أي ندوة أو مناسبة، ينتهز الفرصة وينقض كثعلب شبعان علي الميكروفون ويشبع النضال نضالاً" وهو كذلك "تاجر بارع لا يتعب من المساومة... عاقل ولكن علي الورق فقط، بضاعته حاضرة غير مكدسة، وبياعو الكلام لا يتعبون، منافح ولا أشد عن المناضلين، يقول لك دائمًا لا تقلق، سنفعل وسنمضي، لكن حين تعقد يديك لن تجد سوي رماد الريح أو حروف كلامه مفككة متطايرة تتساقط بين أصابعك".
خميس بريجنيف "يبدو كيتيم تائه في المدينة لكنه لا يتعب ولا يمل، يمشي لأبعد نقطة من سكنه لساعة أو يزيد، إلي منطقة أريانة البعيدة، يتمشي في سوق الملابس المستعملة القادمة من فرنسا في الغالب، يعرف كل بائعيها ويعرفونه" ولا تخلو أحاديثه مع "أبو شندي" من ذكريات وطرائف عن النضال والنساء وعن جيفارا وماوتسي تونج وكاسترو وعن كيف أن "عشق النساء شرارة الانتصار في ساحة المعارك" إنه "يمشي لينسي" قد تصادفه في أي شارع علي قدميه "يمشي حتي لا يجلس مع روحه ويكتشفها، يصعب عليه أن يري نفسه علي حقيقته أو يعريها أمامه، لذا يعيش هائمًا في الشوارع والمقاهي".
خاتمة:
هكذا نلمح في "باب الليل" ذلك الاشتغال والدأب الطويل المتعلق بالمشاعر والأحلام والصراعات والإحباطات والذكريات والملابس والأشياء والتاريخ الخاص والعام، وذلك التوزيع المتناغم للشخصيات والكشف عنها طبقة وراء طبقة، وسمة وراء سمة، ومن وجهات نظر متعددة، هذا التداخل الممتع بين الحسي الأيروتيكي والصوفي الروحاني، الغريزة والعقلانية، التجسيدي والتجريدي، الصرامة والحزن والتهكم من ناحية، والمزاج اللعوب والبهجة والتفكه والدعابة والتورية والسحر والضحك والسخرية اللاذعة من ناحية أخري. والسرد لدي وحيد الطويلة سرد مفعم بالحيوية، متحول باذخ، متقن، وقُلَّبُ، في نص زاخر بالتلميحات والإشارات الصريحة والمستترة، وحيث سطحه الفصيح غالبًا، العامي أحيانًا، يشي فقط بالقليل من أعماقه، تلك الأعماق الصاخبة اللاهية اللاهبة، والتي يبرز من بين أمواجها المتلاطمة وجه يانوس، ذلك الذي بوجه ينظر إلي تاريخ مضي وسلطات قامعة سقطت، وبوجه ينظر إلي تاريخ جاء وسلطات قائمة قد تكون أشد قمعًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.