فالتحريم والمنع والاتهام بمخالفة الشرع كانت أدوات تانيب اجتماعي ومساومة علي استحقاق مكانة خاصة أو سلطة إضافية يعاد بناء دور الأزهر، من ثم، كأسطورة نضالية وطنية بتجاهل طبيعته التاريخية الخاصة التي لم تجعله أبدا مؤسسة مستقلة عن الدولة بما في ذلك أيديولوجيته الدينية التي تعتبر السلطة "ضرورة" بغض النظر عن تمثيلها للحقيقة، وهو ميراث يعود إلي ازدواج الخطاب الديني السياسي في التاريخ الإسلامي كله قصة المنبر: المسجد المجاور لبيتنا كان أحد ثلاثة مساجد مشهورة تابعة للإخوان المسلمين في الاسكندرية. كان بناء هذه المساجد يعتمد علي تبرعات الأهالي، وبدا مشهد الصندوق الذي يدور به أحد "الاخوة" أثناء صلاة الجمعة، أو الموضوع عند مدخل ساحة المسجد مألوفا تماما. ورغم استمرار التبرعات إلا أن المسجد استغرق سنوات طويلة دون أن يكتمل بناؤه وهو ما كان يضع علامات استفهام حول مصير التبرعات التي كان بعضها سخيا فعلا. لكن القصة لا تبدأ من هنا، أعني قصة "المنبر". كانت إحدي السمات المعمارية الغريبة لمساجد الإخوان (وبالمثل المساجد والزوايا الخاصة بالمنتمين إلي أي من تيارات الاسلام السياسي) هي المفارقة الواضحة للسمات المعمارية المتوارثة بأعمدتها وقبابها ومقرنصاتها وزخارفها الجصية.. وبكل ظلالها الروحية. مساجد ذات عمارة متقشفة ومسطحة، عمارة البساطة إلي درجة تكاد تقترب من القبح. البساطة هنا طبعا هي شكل مقصود من العودة إلي "الأصل". لكن اللافت فعلا كان بناء المنبر. كان منبر المسجد علي هيئة بسطة اسمنتية مرتفعة قليلا عن الأرض ومسورة بجدار اسمنتي أيضا كأنها مقصورة ذات دَرَج جانبي. بدأ بناء المسجد وأنا في الصف الرابع أو الخامس الابتدائي، وحتي دخولي الجامعة كانت أرض المسجد غير مبلطة، مفروشة بالحُصْر، تجرح جباهنا بحصي صغيرة وتراب اسمنتي من بقايا البناء. بعد اغتيال السادات ومجيء مبارك، سحبت هذه المساجد من الاخوان وأصبحت تحت إشراف الأوقاف. غاب الأذان الجهير الملتزم بقواعد التجويد حرفيا والشبيه بتجرد المسجد من كل زخرف، وعاد الأذان الطربي ذي الصبغة المصرية. الشيخ الذي عينته الأوقاف أعاد ترتيب التحالفات في المسجد. كان الاخوان في هذا الوقت علي الأقل يعتمدون علي شباب الطبقة المتوسطة من المتعلمين خاصة. وفي دروس الثلاثاء وغيرها كان من النادر أن تعثر علي وجوه لأشخاص من كبار السن كأنك في ساحة مدرسة ثانوية. شباب لا ينتمي كثير منهم إلي الحي المقام فيه المسجد، بل يأتون بوجوههم الغريبة علي المصلين من أبناء المنطقة، الذين يشعرون فجأة أنهم ضيوف منبوذون في "مسجدهم". الشيخ المعين من الأوقاف استقطب شريحة أخري تماما معظمها من تجار الحي وأصحاب المحال والورش. في وقت قصير استُكمِل تبليط المسجد، وفُرش بالموكيت، وطليت جدرانه، وتدلت ثريات ومراوح من السقف العالي، وانتصبت بجوار القبلة ساعة ضخمة يتأرجح بندولها النحاسي مع همهمات المصلين. كان الشيخ الجديد المتحرك دائما بمرح وخفة قد وضع يده علي المزاج الديني الشعبي، وهو المزاج الذي حرص الاخوان وكل الجماعات الدينية علي مفارقته بامتحانه العنيد في مقابل "الأصل"، أو مقابل أفعال السلف، متخذين من كلمة "البدعة" تعبير إدانة أقوي من كل الذنوب الصريحة. كان هذا ذكاء ضمنيا بطبيعة الحال، فكأن الحركات الاسلامية كانت تسعي إلي بناء "دين جديد" ولغة ورموز تحدد نفسها بالمغايرة التي تستند إلي مزاعم العودة إلي الأصل، أي إلي مايزعم أنه كان حياة الرسول وأصحابه. وبهذه العودة تلغي كل دور للمؤسسة الدينية التي تم استيعابها داخل السلطة الزمنية. بل كان ثمة مفارقة وعداء عنيف تجاه طوائف كالمتصوفة مثلا باعتبارهم من أهل البدع والمنكرات. بهذه الطريقة كانت "الجماعات الدينية" تعري المجتمع نفسه (كما الدولة) من كل حصانة دينية مثلتها ثقافته الممتدة في التاريخ، ليجد نفسه عاريا أمام شعور مبهم بالذنب، باحثا عن "بداية جديدة". كان ثمة معركة خفية بين "زبائن" المسجد الإخواني، والزبائن الجدد اتخذت من الشيخ "المعين" هدفها. لكن المعركة صارت عنيفة وعلنية مصحوبة بالصياح والتشاجر حينما قرر الشيخ هدم المنبر الاسمنتي، وإقامة منبر خشبي علي الطريقة المألوفة. هل كان الأمر يستحق أن تقام حوله معركة؟ .. مؤكد. فلسفة المنازعة هنا يتلخص مشروع الإخوان، بل التيارات الأصولية كافة. فبالنسبة إليها لم يكن هناك أبدا تصور واضح عن "ما يريدونه" ولكن كان هناك دائما وبعنف "ما لا يريدونه". كانت المخالفة هي طريقتهم في إبراز هشاشة النظام القائم سواء أكان هذا النظام سياسيا أو اجتماعيا أو حتي جماليا. في كتاب "الدولتان.. الدولة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام" لبرتراند بادي مفاتيح هامة برأيي لفهم بناء علاقات السلطة في الاسلام، وإن كان يعود بها إلي إشكالات تأسيسية مقارنة. أحد هذه المفاتيح هو تعبير "المنازعة". وتعني المنازعة بناء المنافسة السياسية علي الانتقاص أو سحب الشرعية من الحاكم (قديما) أو منظومة الحكم (حديثا). ويري بادي أن أسلوب المنازعة لا يفضي إلي تنمية أو تطوير المجال السياسي، كما لا يطور فكرة الدولة ولا شرعيتها، فهو ينمو بالأصل خارجها غير معترف بها، وبالتالي فإنه يقضي علي إمكانية الاختلاف المثري للمجال السياسي، ويعمل دائما علي تقويضه، ليصبح الاختلاف "فتنة" تهدد كيان الدولة نفسها. ومصطلح "الفتنة" ليس لبادي طبعا، لكنه يعيد إضاءته كمفهوم سياسي مقابل الاختلاف. وتفضي منازعة "الجماعات" للمجتمع وسلطته جذريا إلي فكرة "الجهاد" حيث يصبح "الجهاد" هو التعبير الايجابي عن فعل يعوض غياب الرؤية وغموض المشروع. يقول بادي "من هنا تجد المنازعة نفسها بأن مهمتها ليست انتقاد الحاكم فحسب، بل هي أيضا عمل ثوري، ويكون المقابل الذي تحصل عليه ليس بالقليل، إذ لا تكتسب المنازعة معناها كاملا إلا بمتاخمتها للجهاد، إنها تجاهد لكنها لا تطالب ولا تصلح، كما أنها غير ملتزمة بأية قاعدة من قواعد النظام القائم، فهي إذن تمارس عملها خارج الدولة، وبهدف تغييرها بالكامل، وعلي هذا لا تستطيع المنازعة أن تنمو إلا خارج النظام السياسي المؤسسي". 241ص. الخصيصة الأخري للمنازعة في غياب ابتداع أفق سياسي بديل هي "العودة إلي الأصول" فباسم هذه العودة كان يتم دائما سحب الشرعية من أي نظام قائم. والحقيقة أن هذه النقطة بالذات تجمع بين جماعات الإسلام السياسي والأزهر ومؤسسة الفتوي بعامة حتي بعد تحولهما إلي مؤسستين تابعتين للدولة. فلم يكن غريبا بعد تولي الشيخ نصر فريد واصل مهمة الافتاء أن امتلأت الشوارع بملصقات ورقية تتضمن فتوي للشيخ بتحريم التدخين. وكان المثير للدهشة ليس فقط تهافت الفتوي التي تركت المشكلات الكبري التي يعانيها الناس وتفرغت للبحث في رأي الدين في التدخين، بل في وسيلة الإعلان البدائي المتمثل في ملصقات كالفرامانات الممهورة بالتوقيع و"الختم". فالتحريم والمنع والاتهام بمخالفة الشرع كانت أدوات تانيب اجتماعي ومساومة علي استحقاق مكانة خاصة أو سلطة إضافية. وبقدر ما تكون سياسة التحريم والتجريم والاتهام بمخالفة الأصل أداة سياسية بقدر ما ستجد أنها تختار الملعب غير المباشر للخصومة. مثلا: الهجوم علي كاتب، رفع قضية علي فنانة، مع ضمانة عدم تهيد المصالح الحقيقية والنفوذ الفعلي للطبقة الحاكمة. هنا أيضا يتشابه الاخواني والأزهري. مأزق الدولة لا يفسر بادي بفكرة المنازعة فقط طبيعة السلطة في الاسلام، بل ما أورثته من ثقافة الحكم بعامة حتي في إطار الدولة القومية شبه المعلمنة. فهذه الدولة بدورها كانت في فترات قوتها تعتمد علي احتكار المجال السياسي بحيث تضطر أي معارضة لها للتكون "خارج النظام" من خلال الاتهام بالتخوين والعمالة. لكنها من جانب آخر تعمل علي احتكار الشرعية من خلال صيغ توافقية تمثل فيها طيفا واسعا من الشرعيات المتضاربة. فهي دولة مسلمة لكنها آخذة بأسباب الحداثة وفق منظومة غربية، وهي زعيمة الاستقلال والتبعية في الوقت نفسه، وهي اشتراكية أو ليبرالية دون أن تكون أيا منهما، وهي دولة الاخوة بين "عنصري الأمة" التي يستند دستورها إلي فرع واحد من هذين العنصرين. واعتماد هذا النوع من الخطاب غير الحاسم في بناء تحالفاته السياسية والاجتماعية، سمح أكثر من أي وقت مضي، وخاصة حينما ضعفت قبضة الدولة المركزية، بمنازعتها بأسلحتها نفسها: تقولين "الدين". نحن الدين.. تقولين الاشتراكية؟ نحن الاشتراكية. لكن الأخطر أن الدولة في عهد مبارك مع إدراكها غياب أي مشروع، وتحولها الفج من دولة ضامنة بقدر ما لأمان المجتمع إلي دولة شرسة تعادي المجتمع نفسه وتنهبه علانية، أقول في عهد مبارك كان علي الدولة أن تختار نوع النزاع وأرضها (وهو ما حدث بالمناسبة في الدول العربية قاطبة). وليس جديدا علي أحد أن الدولة حتي قبل مبارك ساهمت إسهاما كبيرا في احتكار الاخوان والجماعات الدينية خطاب المنازعة، بدلا من تهيئة المجال السياسي للغة حوار متعدد تحترم الاختلاف، وتعتبر السلطة تمثيلا محدودا ومؤقتا، وليست شرعية تتطابق علي مع جماعة بعينها تهيء لها احتكار وديمومة السلطة. أصبحت لعبة السلطة باعتبارها لعبة ثنائيات (الحكومة أو الاخوان) وكأن المجتمع مفرغ من أي فكرة أخري. إن الضعف في شرعية السلطة (المتنامي مع ازدياد قوتها القمعية واستغلالها وفسادها ورفع يدها عن كل أشكال الدعم الاجتماعي) أدخل الدولة في حسابات سمحت من خلالها لهيئات وجماعات بملء المساحة الغائبة، وبالتالي السيطرة علي المجتمع من خلال منحه شكلا قبل سياسي، أو دونه. هنا برز دور الأزهر والكنيسة أيضا ليس فقط باعتبارهما ممثلين لجماعة دينية، ولكن بما لهذه الجماعة ككتلة تصويتية، ومن ثم من حضور سياسي. فلم يعد البابا يخاطب المسيحيين بل صار يخاطب الدولة نيابة عن المسيحين، وطبعا كان الأزهر سباقا في هذا المسلك. السلطة بين الأزهري والأصولي يصر عدد غير قليل من النخب السياسية (الليبرالية منها أو القومية أو حتي اليسارية) إضافة إلي النخب الثقافية علي اعتبار الأزهر مرجعية "شرعية" كأنه (أي الأزهر) ملحق مفسر للمادة الثانية من الدستور الخاصة بالشريعة. ويعاد بناء دور الأزهر، من ثم، كأسطورة نضالية وطنية بتجاهل طبيعته التاريخية الخاصة التي لم تجعله أبدا مؤسسة مستقلة عن الدولة بما في ذلك أيديولوجيته الدينية التي تعتبر السلطة "ضرورة" بغض النظر عن تمثيلها للحقيقة، وهو ميراث يعود إلي ازدواج الخطاب الديني السياسي في التاريخ الإسلامي كله. فلا الأزهر كان مؤسسة بالمعني الواضح طوال تاريخه، ولا كان يمثل إلا نوعا من النخب المنتظمة في طوائف للمتعلمين المحليين والعرب وغيرهم. وكان دور زعمائه مثل زعماء سائر أبناء الطوائف والمهن هو الوساطة بين الحكام و"العامة" فلا يعرف الأزهري معني كلمة الشعب أو المواطن، إنما يعرف أكابر الناس وسوقتها. مستفيدا من دور الوسيط. وهناك فقرة دالة ضمن كتاب (عصر محمد علي) لعبدالرحمن الرافعي يعود فيها بدوره إلي التاريخ الجبرتي في وصف أحوال مشايخ الأزهر مع الباشا "وكان محمد علي عند فرضه للضرائب الجديدة علي القوي والالتزامات قد راعي خاطر الشيوخ ليضمهم إليه، فأعفي أملاكهم وضياعهم وما دخل في التزامهم من دفع ضريبة الفائض، وكذلك شمل بالاعفاء من ينتمون إليهم. فاغتر الشيوخ بهذا التمييز في المعاملة وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين وتركوا الدنيا تفسد طباعهم. قال الجبرتي:(وافتتنوا بالدنيا وهجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس، مع ترك العمل به بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء المماليك، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب، وصار دينهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري)..". رغم أن هذه الفقرة تمثل إدانة لمشايخ الأزهر، إلا إنها لم تفض أبدا كما حدث في المسيحية الغربية إلي فتح ملفات الدين نفسه وأصل الشريعة. لأن معني الشريعة مختلف تماما في الاسلام، فهي لا تتجسد في مؤسسة ولا أفراد، فالله حاضر كحكم أعلي. وفيما عدا النبوة لاتوجد آلية مباشرة تربط ولاة الأمور بالمشرع الأول. إنهم بشر ناقصون مجتهدون يجري عليهم ما يجري علي الناس. ومن ثم لا يعد الأزهر أصلا جهة تمثيلية للحقيقة أوالدين، وبالتالي كان من الممكن التجاوز عن أخطاء أفراده "الدنيوية" باعتبارها نوعا من العرض الانساني.. لا يطعن في شرعية "الناموس". ولهذا ستجد دائما المقولة الشهيرة (دول ما بيمثلوش الدين. الدين مش كدة..). إن العودة إلي الأصل هي عملية تطهر دائم من الأخطاء ليس بدراسة أسبابها ولكن باتهامها بمفارقة اصل لا يعرف أحد ما هو. لكنه يتجدد باستمرار عند كل أزمة. إنت فقي؟! في التعبير العامي (هو انت فقي؟!) دلالة علي رأي الثقافة الشعبية في رجل الدين "الرسمي" فرغم كون التعبير مشتقا من كلمة "فقيه" الفصيحة والتي تتجاوز الوصف المحايد إلي نوع من التبجيل. تتخذ الكلمة نفسها في نطاقها العامي دلالة أقرب إلي السلبية "المتحذلق المتشدق..". ولا يعني هذا بالضرورة الانتقاص الشعبي من رجل الدين بعامة، ولكن يعني الرؤية المزدوجة له والتي لا تعفيه من النفاق والادعاء أو التظاهر بالتشدد كشخص لا يمكن أن يمثل الحقيقة. ولاشك أن الجماعات الدينية كانت أقرب إلي الصواب (بالعودة إلي المرجعية الدينية) من أدعياء السياسة والثقافة المثمنين لدور الأزهر. فهذه الجماعات تعرف ألا شرعية في الاسلام لمؤسسة تحتكر الخطاب الديني أو تنوب عن صاحبه، كما أن بقاء شرعيتها مرهون بتمثيلها للارادة الالهية التي يمكن أن يعاد تفسيرها باستمرار بالعودة إلي الأصل. وهنا يرسب الأزهر بقوة بسبب تصالحه مع كثير من المظالم، وسكوته عن الفساد في الحكم وخارجه، حيث صار كيانا مدجنا من قبل سلطة أخضعت خطابه الديني لصالحها. كانت الجرأة التي يهاجم بها زعماء الجماعات الدينية شيوخ الأزهر منبعها تلك العودة إلي الأصل، وعدم تجسد الشرعية في هيئة أو فئة بل القدرة علي تمثيل "الأصل". كانت الجماعات إذن تجد سهولة كبيرة في إيجاد متكأ لخطاب المنازعة. ولكنها ما إن وضعت أقدامها في السلطة حتي وجدت نفسها في مأزق. فالسلطة الإسلامية تاريخيا لم تتكئ إلا علي مشروعية واهية، وكانت مشروعيتها الحقيقية التي أيدها الفقهاء هي "التغلب".. أي الحكم بالقوة. لكن الوضع السياسي الجديد جعل صعود الجماعات الدينية للسلطة مسنودا إلي شرعية شعبية (ما كان بعضهم يعتبره شركا بالله) يمكن أن تطيح بهم في أي وقت والأهم تتعارض مع كون السلطة تمثيلا لإرادة الله لا الشعب. ومن ثم كانوا في حاجة من أجل تثبيت أنفسهم في الحكم إلي ممارسة متدرجة للقوة بالتحالف مع الجيش او الشرطة أو إعادة بنائهما علي الولاء للجماعة، أوباستخداء ما يشبه المليشيات.. إلخ. نزول جبريل لكن القصة التي تدعو للتأمل حقا هي حكاية نزول جبريل برابعة العدوية، أوذلك "المنام" الذي يحكي عن إمامة مرسي للرسول، إذ إنه يمثل بحثا عن شرعية تمثيلية ليس من خلال برنامج ولا قوانين تطابق الإرادة الالهية بل بلعبة جديدة تماما هي تجسيد الشرعية في أشخاص من خلال نوع من الاعتراف الإلهي يذكرنا بقصة الاله اليهودي مع "إسرائيل". فالاعتراف هنا يأتي مباشرة بإلغاء أي وساطة بين السلطة القائمة المحدودة وبين مصدر الشرعية.. وهكذا لا يبقي مجالا للكلام، ولا يهم عندئذ ما هو المشروع الذي يقدمه مرسي ولا مصدر شرعيته، إذ أن شرعيته لم تعد مستمدة من محاولته التطابق مع أوامر الشارع، بل في كون الشارع سلم إليه مفاتيح النيابة عنه مباشرة. طبعا مثل هذه "الخزعبلات" تخرج الإخوان والجماعات الدينية بسهولة من المجال السياسي (وربما الديني) لكنها في الوقت نفسه تفصح عن مجموعة من الأزمات في الخطاب الإسلامي المعاصر نفسه كما في خطاب السلطة وتصوراتنا الاجتماعية عنها.