محافظ مطروح يعتمد المرحلة الثانية لتنسيق القبول بمدارس التعليم الثانوي العام    رئيس الوزراء يتفقد محطة التجارب البحثية لتحلية مياه البحر بمدينة العلمين الجديدة    أسعار الخضار والفاكهة اليوم السبت 26-7-2025 بمنافذ المجمعات الاستهلاكية    40 ندوة إرشادية لمزارعى 13 محافظة على مواجهة التأثيرات السلبية لتغيرات المناخ    مصلحة الضرائب تصدر قرار مرحلة جديدة من منظومة الإيصال الإلكتروني    مصر تشارك في صياغة الإعلان الوزاري لمجموعة عمل التنمية التابعة لمجموعة العشرين    زلزال بقوة 4.9 درجة يضرب بحر أندامان في الهند    122 شهيدا جراء المجاعة وسوء التغذية بقطاع غزة من بينهم 83 طفلا    "المصرى الديمقراطى" يرفض تحميل الدولة المصرية مسؤولية جرائم الاحتلال فى غزة    كمبوديا تغلق المجال الجوي فوق مناطق الاشتباك مع تايلاند    "لوفيجارو": مأساة غزة تختبر إنسانية الغرب وعجزه السياسي    لوموند: قمة بكين تكشف ضعف أوروبا الكبير في مواجهة الصين    الثالث منذ أمس.. وفاة رضيع نتيجة سوء التغذية والمجاعة في غزة    حسام عبد المجيد مستمر مع الزمالك بعد فشل مفاوضات الاحتراف الخارجي    منتخب الطائرة ينتظم فى معسكر سلوفينيا استعدادًا لبطولة العالم بالفلبين    سيراميكا يواجه دكرنس غداً فى رابع ودياته استعداداً للموسم الجديد    إنتر ميامي يتعاقد مع صديق ميسي    بالصور.. وزير الرياضة ومحافظ الجيزة يفتتحان حمام سباحة نزل الشباب الدولي    أخبار مصر.. نتيجة الثانوية الأزهرية 2025.. إعلان الأوائل بعد قليل    طبيب سموم يكشف سبب وفاة الأطفال ال6 ووالدهم بالمنيا.. فيديو    خطوات التعامل مع حساب إنستجرام المزيف الذي ينتحل شخصيتك.. تعرف عليها    زوجة راغب علامة تحسم الجدل بشأن شائعة انفصالهما بصورة وتعليق.. ماذا قالت؟    نقيب الموسيقيين بلبنان ل"اليوم السابع": زياد الرحبانى كان بعيدا وفقدنا فنان عظيم    يوم الخالات والعمات.. أبراج تقدم الدعم والحب غير المشروط لأبناء أشقائها    سميرة عبد العزيز في ضيافة المهرجان القومي للمسرح اليوم.. وتوقيع كتاب يوثق رحلتها المسرحية    الصحة: مصر تستعرض تجربتها في مبادرة «العناية بصحة الأم والجنين» خلال مؤتمر إفريقيا للقضاء على الإيدز والتهاب الكبد B والزهري    "الصحة": دعم المنظومة الصحية بالبحيرة بجهازي قسطرة قلبية بقيمة 46 مليون جنيه    تحتوي على مكونات مفيدة تحفز الطاقة والمناعة.. تعرف على أفضل المشروبات الصحية الصيفية    غينيا تتجاوز 300 إصابة مؤكدة بجدري القرود وسط حالة طوارئ صحية عامة    تنسيق الجامعات 2025.. تسجيل الرغبات بموقع التنسيق الإلكتروني مجانا    وزير الري يتابع مشروع مكافحة الحشائش المائية في البحيرات العظمى    95 جنيهًا لكيلو البلطي.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية في سوق العبور اليوم    بالأرقام.. الحكومة تضخ 742.5 مليار جنيه لدعم المواطن في موازنة 25/26    انخفاض أسعار الدواجن اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    ليلة أسطورية..عمرو دياب يشعل حفل الرياض بأغاني ألبومه الجديد (صور)    أسامة قابيل: من يُحلل الحشيش يُخادع الناس.. فهل يرضى أن يشربه أولاده وأحفاده؟    "تأقلمت سريعًا".. صفقة الأهلي الجديدة يتحدث عن فوائد معسكر تونس    "قصص متفوتكش".. محمد صلاح يتسوق في هونج كونج.. نداء عاجل لأفشة.. ورسالة إمام عاشور لزوجته    أعرف التفاصيل .. فرص عمل بالأردن بمرتبات تصل إلى 35 ألف جنيه    القضاء الأمريكى يوقف قيود ترامب على منح الجنسية بالولادة    تشغيل قطارات جديدة على خط مطروح    تعرف على موعد عرض أولى حلقات مسلسل « قهوة 2» ل أحمد فهمي    بعد ظهور نتيجة الثانوية 2025.. وزارة التعليم: لا يوجد تحسين مجموع للناجحين    «موعد أذان المغرب».. مواقيت الصلاة اليوم السبت 26 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    دعاء الفجر.. اللهم إنا نسألك فى فجر هذا اليوم أن تيسر لنا أمورنا وتشرح صدورنا    "الحشيش حرام" الأوقاف والإفتاء تحسمان الجدل بعد موجة لغط على السوشيال ميديا    الدفاع الألمانية تستعين بأسراب «صراصير» للتجسس والإستطلاع    بالأسماء.. مصرع طفلة وإصابة 23 شخصًا في انقلاب ميكروباص بطريق "قفط – القصير"    موعد إجازة المولد النبوي 2025 الرسمية في مصر.. كم يومًا إجازة للموظفين؟    وزير الأوقاف يحيل مجموعة من المخالفات إلى التحقيق العاجل    موعد مباراة ليفربول وميلان الودية اليوم والقنوات الناقلة    الأوقاف تعقد 27 ندوة بعنوان "ما عال من اقتصد.. ترشيد الطاقة نموذجًا" الأحد    «الداخلية» تنفي «فيديو الإخوان» بشأن احتجاز ضابط.. وتؤكد: «مفبرك» والوثائق لا تمت بصلة للواقع    فلسطين.. شهيدة وعدة إصابات في قصف إسرائيلي على منزل وسط غزة    الحماية المدنية بالقليوبية تسيطر على حريق كابينة كهرباء بشبرا| صور    بعد «أزمة الحشيش».. 4 تصريحات ل سعاد صالح أثارت الجدل منها «رؤية المخطوبة»    «لو شوكة السمك وقفت في حلقك».. جرب الحيلة رقم 3 للتخلص منها فورًا    أحمد السقا: «لما الكل بيهاجمني بسكت.. ومبشوفش نفسي بطل أكشن»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشكلة السلطة في الإسلام المعاصر
حينما نزل جبريل من السماء..
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 09 - 2013

فالتحريم والمنع والاتهام بمخالفة الشرع كانت أدوات تانيب اجتماعي ومساومة علي استحقاق مكانة خاصة أو سلطة إضافية
يعاد بناء دور الأزهر، من ثم، كأسطورة نضالية وطنية بتجاهل طبيعته التاريخية الخاصة التي لم تجعله أبدا مؤسسة مستقلة عن الدولة بما في ذلك أيديولوجيته الدينية التي تعتبر السلطة "ضرورة" بغض النظر عن تمثيلها للحقيقة، وهو ميراث يعود إلي ازدواج الخطاب الديني السياسي في التاريخ الإسلامي كله
قصة المنبر: المسجد المجاور لبيتنا كان أحد ثلاثة مساجد مشهورة تابعة للإخوان المسلمين في الاسكندرية. كان بناء هذه المساجد يعتمد علي تبرعات الأهالي، وبدا مشهد الصندوق الذي يدور به أحد "الاخوة" أثناء صلاة الجمعة، أو الموضوع عند مدخل ساحة المسجد مألوفا تماما. ورغم استمرار التبرعات إلا أن المسجد استغرق سنوات طويلة دون أن يكتمل بناؤه وهو ما كان يضع علامات استفهام حول مصير التبرعات التي كان بعضها سخيا فعلا. لكن القصة لا تبدأ من هنا، أعني قصة "المنبر".
كانت إحدي السمات المعمارية الغريبة لمساجد الإخوان (وبالمثل المساجد والزوايا الخاصة بالمنتمين إلي أي من تيارات الاسلام السياسي) هي المفارقة الواضحة للسمات المعمارية المتوارثة بأعمدتها وقبابها ومقرنصاتها وزخارفها الجصية.. وبكل ظلالها الروحية. مساجد ذات عمارة متقشفة ومسطحة، عمارة البساطة إلي درجة تكاد تقترب من القبح. البساطة هنا طبعا هي شكل مقصود من العودة إلي "الأصل".
لكن اللافت فعلا كان بناء المنبر. كان منبر المسجد علي هيئة بسطة اسمنتية مرتفعة قليلا عن الأرض ومسورة بجدار اسمنتي أيضا كأنها مقصورة ذات دَرَج جانبي.
بدأ بناء المسجد وأنا في الصف الرابع أو الخامس الابتدائي، وحتي دخولي الجامعة كانت أرض المسجد غير مبلطة، مفروشة بالحُصْر، تجرح جباهنا بحصي صغيرة وتراب اسمنتي من بقايا البناء. بعد اغتيال السادات ومجيء مبارك، سحبت هذه المساجد من الاخوان وأصبحت تحت إشراف الأوقاف.
غاب الأذان الجهير الملتزم بقواعد التجويد حرفيا والشبيه بتجرد المسجد من كل زخرف، وعاد الأذان الطربي ذي الصبغة المصرية.
الشيخ الذي عينته الأوقاف أعاد ترتيب التحالفات في المسجد. كان الاخوان في هذا الوقت علي الأقل يعتمدون علي شباب الطبقة المتوسطة من المتعلمين خاصة. وفي دروس الثلاثاء وغيرها كان من النادر أن تعثر علي وجوه لأشخاص من كبار السن كأنك في ساحة مدرسة ثانوية.
شباب لا ينتمي كثير منهم إلي الحي المقام فيه المسجد، بل يأتون بوجوههم الغريبة علي المصلين من أبناء المنطقة، الذين يشعرون فجأة أنهم ضيوف منبوذون في "مسجدهم".
الشيخ المعين من الأوقاف استقطب شريحة أخري تماما معظمها من تجار الحي وأصحاب المحال والورش. في وقت قصير استُكمِل تبليط المسجد، وفُرش بالموكيت، وطليت جدرانه، وتدلت ثريات ومراوح من السقف العالي، وانتصبت بجوار القبلة ساعة ضخمة يتأرجح بندولها النحاسي مع همهمات المصلين.
كان الشيخ الجديد المتحرك دائما بمرح وخفة قد وضع يده علي المزاج الديني الشعبي، وهو المزاج الذي حرص الاخوان وكل الجماعات الدينية علي مفارقته بامتحانه العنيد في مقابل "الأصل"، أو مقابل أفعال السلف، متخذين من كلمة "البدعة" تعبير إدانة أقوي من كل الذنوب الصريحة.
كان هذا ذكاء ضمنيا بطبيعة الحال، فكأن الحركات الاسلامية كانت تسعي إلي بناء "دين جديد" ولغة ورموز تحدد نفسها بالمغايرة التي تستند إلي مزاعم العودة إلي الأصل، أي إلي مايزعم أنه كان حياة الرسول وأصحابه. وبهذه العودة تلغي كل دور للمؤسسة الدينية التي تم استيعابها داخل السلطة الزمنية.
بل كان ثمة مفارقة وعداء عنيف تجاه طوائف كالمتصوفة مثلا باعتبارهم من أهل البدع والمنكرات. بهذه الطريقة كانت "الجماعات الدينية" تعري المجتمع نفسه (كما الدولة) من كل حصانة دينية مثلتها ثقافته الممتدة في التاريخ، ليجد نفسه عاريا أمام شعور مبهم بالذنب، باحثا عن "بداية جديدة".
كان ثمة معركة خفية بين "زبائن" المسجد الإخواني، والزبائن الجدد اتخذت من الشيخ "المعين" هدفها. لكن المعركة صارت عنيفة وعلنية مصحوبة بالصياح والتشاجر حينما قرر الشيخ هدم المنبر الاسمنتي، وإقامة منبر خشبي علي الطريقة المألوفة.
هل كان الأمر يستحق أن تقام حوله معركة؟ .. مؤكد.
فلسفة المنازعة
هنا يتلخص مشروع الإخوان، بل التيارات الأصولية كافة. فبالنسبة إليها لم يكن هناك أبدا تصور واضح عن "ما يريدونه" ولكن كان هناك دائما وبعنف "ما لا يريدونه". كانت المخالفة هي طريقتهم في إبراز هشاشة النظام القائم سواء أكان هذا النظام سياسيا أو اجتماعيا أو حتي جماليا.
في كتاب "الدولتان.. الدولة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام" لبرتراند بادي مفاتيح هامة برأيي لفهم بناء علاقات السلطة في الاسلام، وإن كان يعود بها إلي إشكالات تأسيسية مقارنة.
أحد هذه المفاتيح هو تعبير "المنازعة". وتعني المنازعة بناء المنافسة السياسية علي الانتقاص أو سحب الشرعية من الحاكم (قديما) أو منظومة الحكم (حديثا). ويري بادي أن أسلوب المنازعة لا يفضي إلي تنمية أو تطوير المجال السياسي، كما لا يطور فكرة الدولة ولا شرعيتها، فهو ينمو بالأصل خارجها غير معترف بها، وبالتالي فإنه يقضي علي إمكانية الاختلاف المثري للمجال السياسي، ويعمل دائما علي تقويضه، ليصبح الاختلاف "فتنة" تهدد كيان الدولة نفسها.
ومصطلح "الفتنة" ليس لبادي طبعا، لكنه يعيد إضاءته كمفهوم سياسي مقابل الاختلاف. وتفضي منازعة "الجماعات" للمجتمع وسلطته جذريا إلي فكرة "الجهاد" حيث يصبح "الجهاد" هو التعبير الايجابي عن فعل يعوض غياب الرؤية وغموض المشروع.
يقول بادي "من هنا تجد المنازعة نفسها بأن مهمتها ليست انتقاد الحاكم فحسب، بل هي أيضا عمل ثوري، ويكون المقابل الذي تحصل عليه ليس بالقليل، إذ لا تكتسب المنازعة معناها كاملا إلا بمتاخمتها للجهاد، إنها تجاهد لكنها لا تطالب ولا تصلح، كما أنها غير ملتزمة بأية قاعدة من قواعد النظام القائم، فهي إذن تمارس عملها خارج الدولة، وبهدف تغييرها بالكامل، وعلي هذا لا تستطيع المنازعة أن تنمو إلا خارج النظام السياسي المؤسسي". 241ص.
الخصيصة الأخري للمنازعة في غياب ابتداع أفق سياسي بديل هي "العودة إلي الأصول" فباسم هذه العودة كان يتم دائما سحب الشرعية من أي نظام قائم. والحقيقة أن هذه النقطة بالذات تجمع بين جماعات الإسلام السياسي والأزهر ومؤسسة الفتوي بعامة حتي بعد تحولهما إلي مؤسستين تابعتين للدولة.
فلم يكن غريبا بعد تولي الشيخ نصر فريد واصل مهمة الافتاء أن امتلأت الشوارع بملصقات ورقية تتضمن فتوي للشيخ بتحريم التدخين. وكان المثير للدهشة ليس فقط تهافت الفتوي التي تركت المشكلات الكبري التي يعانيها الناس وتفرغت للبحث في رأي الدين في التدخين، بل في وسيلة الإعلان البدائي المتمثل في ملصقات كالفرامانات الممهورة بالتوقيع و"الختم".
فالتحريم والمنع والاتهام بمخالفة الشرع كانت أدوات تانيب اجتماعي ومساومة علي استحقاق مكانة خاصة أو سلطة إضافية.
وبقدر ما تكون سياسة التحريم والتجريم والاتهام بمخالفة الأصل أداة سياسية بقدر ما ستجد أنها تختار الملعب غير المباشر للخصومة.
مثلا: الهجوم علي كاتب، رفع قضية علي فنانة، مع ضمانة عدم تهيد المصالح الحقيقية والنفوذ الفعلي للطبقة الحاكمة. هنا أيضا يتشابه الاخواني والأزهري.
مأزق الدولة
لا يفسر بادي بفكرة المنازعة فقط طبيعة السلطة في الاسلام، بل ما أورثته من ثقافة الحكم بعامة حتي في إطار الدولة القومية شبه المعلمنة.
فهذه الدولة بدورها كانت في فترات قوتها تعتمد علي احتكار المجال السياسي بحيث تضطر أي معارضة لها للتكون "خارج النظام" من خلال الاتهام بالتخوين والعمالة.
لكنها من جانب آخر تعمل علي احتكار الشرعية من خلال صيغ توافقية تمثل فيها طيفا واسعا من الشرعيات المتضاربة. فهي دولة مسلمة لكنها آخذة بأسباب الحداثة وفق منظومة غربية، وهي زعيمة الاستقلال والتبعية في الوقت نفسه، وهي اشتراكية أو ليبرالية دون أن تكون أيا منهما، وهي دولة الاخوة بين "عنصري الأمة" التي يستند دستورها إلي فرع واحد من هذين العنصرين.
واعتماد هذا النوع من الخطاب غير الحاسم في بناء تحالفاته السياسية والاجتماعية، سمح أكثر من أي وقت مضي، وخاصة حينما ضعفت قبضة الدولة المركزية، بمنازعتها بأسلحتها نفسها: تقولين "الدين". نحن الدين.. تقولين الاشتراكية؟ نحن الاشتراكية.
لكن الأخطر أن الدولة في عهد مبارك مع إدراكها غياب أي مشروع، وتحولها الفج من دولة ضامنة بقدر ما لأمان المجتمع إلي دولة شرسة تعادي المجتمع نفسه وتنهبه علانية، أقول في عهد مبارك كان علي الدولة أن تختار نوع النزاع وأرضها (وهو ما حدث بالمناسبة في الدول العربية قاطبة). وليس جديدا علي أحد أن الدولة حتي قبل مبارك ساهمت إسهاما كبيرا في احتكار الاخوان والجماعات الدينية خطاب المنازعة، بدلا من تهيئة المجال السياسي للغة حوار متعدد تحترم الاختلاف، وتعتبر السلطة تمثيلا محدودا ومؤقتا، وليست شرعية تتطابق علي مع جماعة بعينها تهيء لها احتكار وديمومة السلطة. أصبحت لعبة السلطة باعتبارها لعبة ثنائيات (الحكومة أو الاخوان) وكأن المجتمع مفرغ من أي فكرة أخري.
إن الضعف في شرعية السلطة (المتنامي مع ازدياد قوتها القمعية واستغلالها وفسادها ورفع يدها عن كل أشكال الدعم الاجتماعي) أدخل الدولة في حسابات سمحت من خلالها لهيئات وجماعات بملء المساحة الغائبة، وبالتالي السيطرة علي المجتمع من خلال منحه شكلا قبل سياسي، أو دونه. هنا برز دور الأزهر والكنيسة أيضا ليس فقط باعتبارهما ممثلين لجماعة دينية، ولكن بما لهذه الجماعة ككتلة تصويتية، ومن ثم من حضور سياسي. فلم يعد البابا يخاطب المسيحيين بل صار يخاطب الدولة نيابة عن المسيحين، وطبعا كان الأزهر سباقا في هذا المسلك.
السلطة بين الأزهري والأصولي
يصر عدد غير قليل من النخب السياسية (الليبرالية منها أو القومية أو حتي اليسارية) إضافة إلي النخب الثقافية علي اعتبار الأزهر مرجعية "شرعية" كأنه (أي الأزهر) ملحق مفسر للمادة الثانية من الدستور الخاصة بالشريعة.
ويعاد بناء دور الأزهر، من ثم، كأسطورة نضالية وطنية بتجاهل طبيعته التاريخية الخاصة التي لم تجعله أبدا مؤسسة مستقلة عن الدولة بما في ذلك أيديولوجيته الدينية التي تعتبر السلطة "ضرورة" بغض النظر عن تمثيلها للحقيقة، وهو ميراث يعود إلي ازدواج الخطاب الديني السياسي في التاريخ الإسلامي كله.
فلا الأزهر كان مؤسسة بالمعني الواضح طوال تاريخه، ولا كان يمثل إلا نوعا من النخب المنتظمة في طوائف للمتعلمين المحليين والعرب وغيرهم. وكان دور زعمائه مثل زعماء سائر أبناء الطوائف والمهن هو الوساطة بين الحكام و"العامة" فلا يعرف الأزهري معني كلمة الشعب أو المواطن، إنما يعرف أكابر الناس وسوقتها. مستفيدا من دور الوسيط.
وهناك فقرة دالة ضمن كتاب (عصر محمد علي) لعبدالرحمن الرافعي يعود فيها بدوره إلي التاريخ الجبرتي في وصف أحوال مشايخ الأزهر مع الباشا "وكان محمد علي عند فرضه للضرائب الجديدة علي القوي والالتزامات قد راعي خاطر الشيوخ ليضمهم إليه، فأعفي أملاكهم وضياعهم وما دخل في التزامهم من دفع ضريبة الفائض، وكذلك شمل بالاعفاء من ينتمون إليهم. فاغتر الشيوخ بهذا التمييز في المعاملة وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين وتركوا الدنيا تفسد طباعهم. قال الجبرتي:(وافتتنوا بالدنيا وهجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس، مع ترك العمل به بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء المماليك، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب، وصار دينهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري)..".
رغم أن هذه الفقرة تمثل إدانة لمشايخ الأزهر، إلا إنها لم تفض أبدا كما حدث في المسيحية الغربية إلي فتح ملفات الدين نفسه وأصل الشريعة.
لأن معني الشريعة مختلف تماما في الاسلام، فهي لا تتجسد في مؤسسة ولا أفراد، فالله حاضر كحكم أعلي. وفيما عدا النبوة لاتوجد آلية مباشرة تربط ولاة الأمور بالمشرع الأول. إنهم بشر ناقصون مجتهدون يجري عليهم ما يجري علي الناس. ومن ثم لا يعد الأزهر أصلا جهة تمثيلية للحقيقة أوالدين، وبالتالي كان من الممكن التجاوز عن أخطاء أفراده "الدنيوية" باعتبارها نوعا من العرض الانساني.. لا يطعن في شرعية "الناموس".
ولهذا ستجد دائما المقولة الشهيرة (دول ما بيمثلوش الدين. الدين مش كدة..). إن العودة إلي الأصل هي عملية تطهر دائم من الأخطاء ليس بدراسة أسبابها ولكن باتهامها بمفارقة اصل لا يعرف أحد ما هو. لكنه يتجدد باستمرار عند كل أزمة.
إنت فقي؟!
في التعبير العامي (هو انت فقي؟!) دلالة علي رأي الثقافة الشعبية في رجل الدين "الرسمي" فرغم كون التعبير مشتقا من كلمة "فقيه" الفصيحة والتي تتجاوز الوصف المحايد إلي نوع من التبجيل. تتخذ الكلمة نفسها في نطاقها العامي دلالة أقرب إلي السلبية "المتحذلق المتشدق..".
ولا يعني هذا بالضرورة الانتقاص الشعبي من رجل الدين بعامة، ولكن يعني الرؤية المزدوجة له والتي لا تعفيه من النفاق والادعاء أو التظاهر بالتشدد كشخص لا يمكن أن يمثل الحقيقة.
ولاشك أن الجماعات الدينية كانت أقرب إلي الصواب (بالعودة إلي المرجعية الدينية) من أدعياء السياسة والثقافة المثمنين لدور الأزهر. فهذه الجماعات تعرف ألا شرعية في الاسلام لمؤسسة تحتكر الخطاب الديني أو تنوب عن صاحبه، كما أن بقاء شرعيتها مرهون بتمثيلها للارادة الالهية التي يمكن أن يعاد تفسيرها باستمرار بالعودة إلي الأصل. وهنا يرسب الأزهر بقوة بسبب تصالحه مع كثير من المظالم، وسكوته عن الفساد في الحكم وخارجه، حيث صار كيانا مدجنا من قبل سلطة أخضعت خطابه الديني لصالحها.
كانت الجرأة التي يهاجم بها زعماء الجماعات الدينية شيوخ الأزهر منبعها تلك العودة إلي الأصل، وعدم تجسد الشرعية في هيئة أو فئة بل القدرة علي تمثيل "الأصل".
كانت الجماعات إذن تجد سهولة كبيرة في إيجاد متكأ لخطاب المنازعة. ولكنها ما إن وضعت أقدامها في السلطة حتي وجدت نفسها في مأزق.
فالسلطة الإسلامية تاريخيا لم تتكئ إلا علي مشروعية واهية، وكانت مشروعيتها الحقيقية التي أيدها الفقهاء هي "التغلب".. أي الحكم بالقوة.
لكن الوضع السياسي الجديد جعل صعود الجماعات الدينية للسلطة مسنودا إلي شرعية شعبية (ما كان بعضهم يعتبره شركا بالله) يمكن أن تطيح بهم في أي وقت والأهم تتعارض مع كون السلطة تمثيلا لإرادة الله لا الشعب.
ومن ثم كانوا في حاجة من أجل تثبيت أنفسهم في الحكم إلي ممارسة متدرجة للقوة بالتحالف مع الجيش او الشرطة أو إعادة بنائهما علي الولاء للجماعة، أوباستخداء ما يشبه المليشيات.. إلخ.
نزول جبريل
لكن القصة التي تدعو للتأمل حقا هي حكاية نزول جبريل برابعة العدوية، أوذلك "المنام" الذي يحكي عن إمامة مرسي للرسول، إذ إنه يمثل بحثا عن شرعية تمثيلية ليس من خلال برنامج ولا قوانين تطابق الإرادة الالهية بل بلعبة جديدة تماما هي تجسيد الشرعية في أشخاص من خلال نوع من الاعتراف الإلهي يذكرنا بقصة الاله اليهودي مع "إسرائيل". فالاعتراف هنا يأتي مباشرة بإلغاء أي وساطة بين السلطة القائمة المحدودة وبين مصدر الشرعية.. وهكذا لا يبقي مجالا للكلام، ولا يهم عندئذ ما هو المشروع الذي يقدمه مرسي ولا مصدر شرعيته، إذ أن شرعيته لم تعد مستمدة من محاولته التطابق مع أوامر الشارع، بل في كون الشارع سلم إليه مفاتيح النيابة عنه مباشرة.
طبعا مثل هذه "الخزعبلات" تخرج الإخوان والجماعات الدينية بسهولة من المجال السياسي (وربما الديني) لكنها في الوقت نفسه تفصح عن مجموعة من الأزمات في الخطاب الإسلامي المعاصر نفسه كما في خطاب السلطة وتصوراتنا الاجتماعية عنها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.