كانت الإسكندرية مدينة غرائبية حيث وُجد فيها اليهود والأوربيون جنباً إلي جنب المسلمين، وحيث التفاعل المتواصل ما بين الثقافات والأديان مدينة غرائبية حيث تتفاعل الثقافات والأديان دون انقطاع بعد عشرين عاماً من نشر رواية »جوستين»، الجزء الأول من رباعية الإسكندرية، عاد لورانس داريل إلي مدينة هوسه وشغفه. وجدَ علامات التدهور والعَطب في كل موضع، غير أنه ركز علي تغيّرٍ واحد صغير ولكنه كاشف: أفيشات السينما الملونة التي طالما أحبّها، والتي تقدّم الأفلام بلغات عديدة، كانت الآن باللغة العربية فقط. أين ذهب المجتمع متعدد اللغات والثقافات الذي أرّخ له بقدرٍ كبير من العناية والشاعرية؟ كان عام 1977، بعد مرور رُبع قرن علي إطاحة الثورة في مصر بالملك. بعد سنواتٍ من الحُكم العسكري كانت الثقافة الكوزموبوليتانية للإسكندرية قد تبددتْ تماماً. وفقاً لكاتب سيرة داريل ميشيل هاج في كتابه: »الإسكندرية: مدينة الذاكرة»، فقد وجدي الروائي المدينة »فاترة وخامدة»، وصرّح أنها غاصت بداخل »النسيان« وكانت محبطة »بدرجة تفوق الاحتمال. لو أن داريل قد عاد من جديد الآن فقد يصاب بخيبة أملٍ أشد. بعد عامين من الثورة الثانية التي دفع باتجاهها الربيع العربي، شهدت مصر حكومة إسلامية قمعية، تبعها، من جديد، حكم عسكري. وقبل أسابيع معدودة، قُتل شاب أمريكي يهودي في الإسكندرية ذاتها التي كانت ذات يوم منارة تجمع مزيجاً من الثقافات والأديان، والأجانب والشباب. بالنسبة لدرايل كانت الإسكندرية مدينة غرائبية حيث وُجد فيها اليهود والأوربيون جنباً إلي جنب المسلمين، وحيث التفاعل المتواصل ما بين الثقافات والأديان. عكست شخصياته الإسكندرية بكل تعقيداتها، وعلي الخصوص بطلته الفاتنة (جوستين) بنظرة عينيها الحزينة ذات الحاجبين الداكنين»، عكست شخصياته الإسكندرية، بأناقتها وفقرها اللافح، بأساليبها العربية العتيقة وعادات الأوروبيين الحديثة. كانت جوستين هي جوهر الإسكندرية وروحها، »طفلتها الحقيقية... لا يونانية، ولا سورية، ولا مصرية، ولكنها طيرٌ هجين. تبدو حبكة رواية »جوستين بسيطة بما فيه الكفاية. مُعلم مدرس أيرلندي وكاتب طموح يتورّط عاطفياً مع سيدة مجتمع متزوجة تدعي جوتسين في إسكندرية ما قبل الحرب العالمية الثانية. غير أن هذه العلاقة الغرامية متزايدة العنف والسخونة تشوّش شريك حياة كلٍ منهما نسيم، زوج جوستين الحزين شديد الدماثة، وهو مصرفي مسيحي قبطي ثري تقوده غرامياتها إلي الجنون، وكذلك ميلسا حبيبة الراوي الهشّة سريعة التأثر. جوستين جذّابة، مغوية، كئيبة، ميّالة إلي الآراء المُلغزة والمبهمة هي قوة الطرد المركزية في الرواية. لها ماضٍ تكتنفه الظلال، وثمة إشارات خافتة إلي فقر مدقع واعتداء جنسي في صباها. يجد فيها الرجال جاذبيةً آسرة تحديداً لأن هناك الكثير مما يجهلونه عنها. ورغم هذا فليس هناك أي بساطة في الطريقة التي يروي بها داريل قصته، البراعة الفنية لبنيتها متحرراً من الزمن، والسرد الخطي المتتابع وسائر الأعراف الأخري مما وضع الرواية بين أعظم الأعمال السردية للقرن العشرين. وتتكشف الحكاية من خلال صوتٍ راوٍ غير مُسمي (علي الأقل في هذا الجزء الأول). وفي مستهل الكتاب يكون قد استقر تواً في جزيرة نائية يلتمس في الفن »السلوان والعزاء« عن طريق روايته لقصة جوستين والشخصيات الأخري التي مازالت تستحوذ عليه: »إنني أود لهم أن يُبعثوا من جديد إلي الحد الذي يصير فيه الأم فنّاً. يحكي حكايته بطريقة انطباعية: »إن أهم ما أحتاج إليه هو تسجيل التجارب، لا بالترتيب الذي وقعت به لأن ذلك هو التاريخ ولكن بالترتيب الذي غدت فيه لأول مرة ذات دلالة بالنسبة لي. وبداخل الرواية توجد إشارات إلي رواية أخري موازية بعنوان »عادات« (بالفرنسية)، كتبها زوج جوستين السابق. يقرأها الراوي مستغرقاً، وباحثاً فيها عن إشارات ترشده نحو جوستين. يعلم بنزوعها إلي تعدد عشّاقها، وكذلك ميولها الجنسية المعقدة وذُعرها النفسي الذي لا يبارحها. وهناك أيضاً دفتر يوميات جوستين الذي يقتبس منه الراوي اقتباسات مطوّلة. كانت الإسكندرية التي صوّرها داريل أبعد ما تكون عن المثالية، كانت عالماً من الأرواح الضايعة التي تحاول أن تجد سبيلها وسط نشاز اللغات والثقافات وأنماط السلوك. وبينما يعيش بعض الشخصيات الأساسية حياة المتعة والمسرات وإرضاء الذات، ثمّة أيضاً إشارات إلي »مساكن الفقراء المتكوّمة معاً في ظلال الفيلات والفنادق الكبري التي ترتادها جوستين ونسيم. إننا نلمح »شرفات مغلقة تكتظ بالفئران« كما أن جوستين ذات خلفية متواضعة بشدة. في أحد المشاهد القاسية، تقوم بمهاجمة بيت دعارة يقدّم بنات في سن الطفولة »دستة بنات بشعرٍ مجعد لا يمكن أن تزيد أعمارهن عن العشرة أعوام.« وتواجه بحّاراً، كان موجودا هنا لاستغلالهن. تلك كانت الإسكندرية أيضاً. أنا أيضاً من مصر، مثل بطلة داريل، ولدت في أسرة يهودية ذات أصول سورية. وكلما تأملتُ ميولي الطبيعية نحو الكآبة والميلودرامية وهما الصفتان المميزتان لجوستين غالباً ما كنتُ أقول لنفسي: »جوستين، إنها أنا.س ولكني أختلف عنها في أنني من القاهرة وليس الإسكندرية. لكل مدينة شخصيتها المميّزة. ومع هذا فذات مرة كانت المدينتان تشتركان في الكثير الثقافة الأوروبية والحياة الليلية العامرة بالملذات، وأشخاص لهم طبيعة متعوية يهيمون من ملهي ليلي إلي آخر إلي أن يتناولوا عشاءهم في الساعات الأولي من الصباح. وبالرغم من الضوابط الأخلاقية الصارمة لدي الثقافات والأديان المختلفة، فقد وجد الرجال والنساء طريقة للاجتماع معاً، وعلي نحوٍ ما كانت تلك الغراميات بينهم أشد فتنة وإغواءً من العلاقات سهلة المنال في ثقافتنا الآن كما تظهر في مسلسل »الجنس والمدينة«. بينما أقرأ الرواية مؤخراً أخذني الجنين للمدينة كما تبدو في صفحاتها الحالمة. فكرتُ في العطر الذي يأسر الراوي: عطر جوستين، الذي كانت تُطلق عليه اJamais de la Vie، وهو تعبير فرنسي له طابع ميلودرامي معناه »ليس في هذه الحياة أبداً. إنه مجازٌ مناسب تماماً للطبيعة السوداوية لبطلته، وتسليمها للقدر، ومناسب أيضاً للقوس الأكبر للقصة. هذه العلاقة الغرامية مقضيٌ عليها بالإخفاق، وأبطالها لن يعثروا أبداً علي السعادة التي ينشدون - Jamais de la Vie ليس في هذا الحياة أبداً. شاعرية النثر تجذبنا وتشدنا للعمل، وبالقدر نفسه براعة المؤلف في وضع الإسكندرية في الصدارة والمركز. وفي ملاحظة بمستهل الرواية، يتجشم دارسيل عناء القول إن الشخصي »خيالية« و»المدينة فقط حقيقية«. لاحظ بعض النقاد إن الإسكندرية تصير شخصية ناضجة ومكتملة النمو، حيث نساؤها منغمسا ليس في اللذة بل الألم، مكتوبٌ عليهن أن يتصيدن أكثر ما يخشين العثور عليه. وجدتُ نفسي أتساءل ماذا كان داريل ليقول عن مصر اليوم، حيث يكاد يكون المجتمع المتسامح والحاضن للجميع كما صوّره قد انمحي تماماً. في زمنه كانت الجميلات من كل الجنسيات فرنسيات، يونانيات، إيطاليات، آرمينيات، مصريات يهوديات ومسلمات كُن يتباهين بثياب السباحة علي طول »الشواطئ الرملية لسيدي بشر« كما كتب مستحضراً أحد الأحياء التي تشرف علي البحر, في أيامنا هذه اختفي الأجانب واليهود، أمّا النساء اللائي يجرؤن علي الذهاب للشواطئ العامة فينبغي عليهن النزول للمياء وهن مُغطيات من الرأس لأصابع القدمين. هل كان درايل ليتخيل مثل ذلك المصير المؤسف لمدينته بل لمصر كلها؟ يمكنني أن أسمعه يجيب: Jamais de la Vie.