التقيته في بهو فندق خمسة نجوم..كان يضحك مبتهجاً..سألته عن حاله وأحواله إذ إنني لم أشاهده منذ عقود..قال إنه قادم من الصحاري الشرقية، حيث يعمل هناك في تصوير آبار النفط.. شرح لي عن حياة الصحاري، وعن النفط وما ينفطون، وحدثني وهو عابس قصة طريفة مذهلة مبكية، فقال: إن الفنيين والعمال هناك - ومعظمهم مصريون- يعيشون في ظروف حرارية لا تصدق، ويكدحون متعفرين بين الرمال للحصول علي الدولار، فيكاد العطش يجففهم، بينما هم يستحمون بالعرق..وأضاف إنه كان قبل مغادرته قد مر من المنطقة المحايدة بسيارة أجهزة تصوير آبار النفط العملاقة، التابعة لشركة النفط ، فأدهشه رؤية رجلين يتقاتلان وحيدين في وسط الصحراء..اقترب منهما، فعرف أنهما مصريان، وأن أحدهما يعمل في حقل نفط الحكومة التي علي يمينه، والآخر يعمل في حقل نفط الحكومة التي علي يساره، بينما كانت سيارته تمر في المنطقة المتوسطة بينهما، والتي رسمها سايكس بيكو بعد الحرب العالمية الأولي بدقة، لتكون متنازعاً عليها عند تفاقم الأوضاع...مناطق نفطية صحراوية ليس فيها سكان..فراغ فضائي يضيع فيه النسر، إذ لا يجد عشاً يؤويه، لو أنه نزل إلي رمال الصحراء.. ومما قاله محدثي إن الخناق بين الرجلين لم يكن متوقعاً، لأن المصريين معروفون بالطيبة، وإن كلاً منهما يعمل في حقل نفط دولة منفصلة عن الأخري، ولكن الجن الأزرق يخرج لهما من الرمال التائهة في الصحراء فيشعل فتيل نار الشر بينهما، معتمداً علي مقولة الشاعر العربي القديم: اوظلم ذوي القربي أشد مضاضةب.. وأضاف الرجل أنه ذ علي ذمته التي لم أصدقها- حاول إصلاح ذات البين، بين الطرفين، ولكن كلاً منهما تمسك بعناده، وعرض عضلاته، وما هي سوي لحظات من الهدوء المشوب بالحذر، حتي اشتد الضرب بينهما. يضحك الرجل ضحكة سخيفة ونحن ما نزال واقفين في بهو الفندق، ويواصل قصته قائلاً: تدخلت بينهما لأفصل أحدهما عن الآخر، فما كان منهما إلا أن عركاني بينهما، فتأذيت من ذلك الخناق..جلست بعيداً والدم ينفر من أنفي ، بسبب لكمة سددت لي من أحدهما..فكرت كثيراً وأنا أجلس مدحوراً علي درجة باب سيارتي النفطية الكبيرة ، فما كان مني وأنا أراهما وحيدين يتقاتلان في هذه الصحراء، إلا أن قمت مقهوراً، فالتقطت من الأرض حزاماً لدناً لمحرك موتور، مما يُرمي تالفاً في ساحة حفارة النفط ، وأعطيته لمن هو علي يميني، والتقطت حزاماً آخر ، وأعطيته لمن هو علي يساري، وقلت لهما: هذه وسائل الهجوم، وهذه رمال الصحراء بينكما..فلينتقم كل منكما من الآخر..يضحك المجرم وهو يقول: كنت أراقبهما وكل منهما يجلد الآخر فيدميه..وأنا النازف بدم أنفي أبتسم بلؤم للانتقام من هذين المصريين، اللذين لا يعرف كل منها أن لا نصير له في هذا الفضاء المحترق بنفطه سوي أخيه، ولكن لماذا نستبعد الشر بين أخوين، فمنذ أن جاء آدم إلي الأرض، قتل قابيل أخاه هابيل.. بقي المصريان يتصارعان وأنا أتفرج عليهما، حتي استنزف كل منهما دم أخيه، واهترأت ملابسهما من شدة الاعتراك والتشقلب فوق بعضهما بعضاً، فتهالكا علي الأرض، وارتميا مغشياً عليهما..تركتهما ومضيت في طريقي المحايد، وأنا أضحك مندهشاً علي حالهما المائل.. نظرت للرجل الذي يحدثني في بهو الفندق نظرة استغراب واندهاش.. وخفت منه أن يكون ذا شخصية خفية، أو أن الظروف اضطرته للارتباط بأشخاص مجهولين لا يعرف سرهم إلا الله.. لم أسلم عليه مصافحاً بيدي، بل ودعته من بعيد، وخرجت من الفندق مرعوباً.