تعاون بين «التعليم العالي» و«الروس آتوم» الرائدة في التكنولوجيا النووية    شروط القبول ببرنامج نظم المعلومات الأثرية ب«آثار القاهرة»    محافظ كفر الشيخ: استمرار فتح المجازر لاستقبال الأضاحى بالمجان    ميناء دمياط يستقبل 38 سفينة متنوعة    مسئول أمريكي: بايدن على استعداد لإعادة فتح مخزون النفط حال استمرار ارتفاع أسعار البنزين    الآن.. سعر الدولار اليوم الإثنين 17 يونيو 2024 مقابل الجنيه في مصر    الاحتلال الإسرائيلي يواصل حربه على قطاع غزة لليوم ال 255 على التوالي    المستشار النمساوي: مؤتمر سويسرا خطوة مهمة لتمهيد الطريق للسلام وإنهاء الحرب بأوكرانيا    «يونيو» أسود على جيش الاحتلال الإسرائيلي.. قتلى بالجملة على جبهتي غزة ولبنان    الإنفاق على الأسلحة النووية يرتفع مع تصاعد التوترات العالمية ليبلغ 91 مليار دولار    نائبة الرئيس الأمريكي: أمتنا محظوظة بكونها موطنًا لملايين المسلمين    أخبار الأهلي: تغيير في خط دفاع الأهلي أمام الاتحاد السكندري    أخبار الأهلي: سر تعثر مفاوضات الأهلي مع ثنائي الدوري الروسي    إقبال كثيف على مراكز شباب المنيا في ثاني أيام عيد الأضحى    نابولي يصدر بيانا شديد اللهجة بشأن رحيل نجمه    تحرير 253 محضرا تموينيا بمختلف مراكز المنوفية    ملفوف داخل سجادة.. استعجال التحريات في العثور على جثة شخص بالبدرشين    أخبار مصر.. انخفاض طفيف بالحرارة.. الأرصاد تكشف تفاصيل حالة الطقس    ضبط تاجر مخدرات غسل 70 مليون جنيه فى التجارة والعقارات    حوادث ثاني أيام العيد الأضحى غرق شاب بوادي الريان بالفيوم    بعد رصيده الفني بالدراما.. نور محمود يكشف كواليس تجربته المسرحية الأولى في «النقطة العميا»    26 عامًا على رحيل الشيخ الشعراوي.. تصدى لنقل مقام سيدنا إبراهيم ورفض شياخة الأزهر وتزوج في الثانوية    تخطى حاجز ال18 مليون جنيه.. "ولاد رزق" يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المصرية    «بطل مسلسل إسرائيلي».. من هو الممثل المصري مايكل إسكندر؟    غدا.. عزاء الموزع الموسيقي عمرو عبدالعزيز في مسجد النزهة بمدينة نصر    أدعية أيام التشريق.. «الإفتاء» تحدد عددا من الصيغ المستحبة    الفرق بين التحلل الأصغر والأكبر.. الأنواع والشروط    عميد طب القاهرة ومدير مستشفى الطوارئ يتفقدان مستشفيات قصر العينى    ب 400 جنيه إسترليني.. علماء يطورون سماعة رأس لعلاج أعراض متلازمة «صدمة الحب»    الغردقة تتألق صيفًا بنسب إشغال قياسية وإجراءات سلامة مشددة على الشواطئ    مسؤولون بغزة: قوات الاحتلال قتلت أكثر من 16 ألف طفل خلال الحرب على القطاع    اعرف آخر وقت لتقديم الأضحية ودعاء النبي وقت الذبح    وزيرة الهجرة تطلق «بودكاست» لتعريف المصريين بالخارج تاريخ حضارتهم    كيف تتجنب المشكلات العائلية خلال أيام العيد؟.. خبير التنمية البشرية يجيب    نصيحة في كبسولة.. الخطوات اللازمة لتجنب الإصابة بأمراض القلب    محافظ المنوفية: إطلاق مبادرة "الأب القدوة" ترسيخا لدور الأب    وزير الإسكان: جهاز تعمير وسط وشمال الصعيد يتولى تنفيذ 1384 مشروعا    7 معلومات عن الطيار حسن عدس المتوفى بعد الهبوط في جدة.. «مكملش 40 سنة وغير متزوج»    مصرع وإصابة 4 في حادث أسفل محور عدلي منصور ببني سويف    وفاة خامس حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    بدء دراسة كبيرة حول التغذية النباتية في البلدان الناطقة بالألمانية    إعلام فلسطينى: قصف إسرائيلى يستهدف المناطق الجنوبية لمدينة غزة    حسم موقف سيرجو روبيرتو من الرحيل عن برشلونة    بعد قرار كولر.. الأهلي يفتح باب الرحيل أمام أليو ديانج للدوري السعودي    إسرائيل تبحث اتخاذ خطوات عقابية ضد السلطة الفلسطينية بينها الاستيطان    جندي إسرائيلي يتخلص من حياته بعد عودته من الحرب في غزة    أسعار الخضراوات اليوم 17 يونية في سوق العبور    «المالية»: تخفيف الأعباء الضريبية عن محدودي ومتوسطي الدخل    محافظ أسوان يتفقد المطعم السياحي متعدد الأغراض بعد التطوير    مدير مجازر الإسكندرية: استقبلنا 995 ذبيحة في أول أيام عيد الأضحى.. والذبح مجانًا    الخشت يتلقى تقريرًا حول أقسام الطوارئ بمستشفيات قصر العيني خلال العيد    الجونة يستضيف البنك الأهلي لمداواة جراحه بالدوري    مواعيد مباريات اليوم الاثنين 17 - 6 - 2024 والقنوات الناقلة    فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المصرية    الدولار يسجل 47.75.. أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه اليوم    حكم الشرع في زيارة المقابر يوم العيد.. دار الإفتاء تجيب    مصطفى بكري يكشف سبب تشكيل مصطفى مدبولي للحكومة الجديدة    المحامين تزف بشرى سارة لأعضائها بمناسبة عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات ثورية
فقه النفاق بين الضب والجربوع!
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 07 - 2013

عشت حياتي كلها أكره النفاق والمنافقين كراهية غريزية، ربما لأنني ربيت علي الاعتزاز الشديد بالنفس، وصونها عن كل ما يحط من شأنها، أو ينال من شرفها.
وكنت أري الشخص، فأحترمه لأول وهلة.. لما بدا من طاقة مشعة ولافتة في حضوره الإنساني، أو لمخايل ثقافة واسعة لمعت في حديثه مثلا.. إلي أن يطرأ علي الموقف ما يدفعه فجأة- هذا الشخص المحترم- إلي النفاق.. فيسقط بسرعة البرق- بنفاقه- من الحالق الذي رفعته إليه بمواهبه البادية، بل وينقلب في مخيلتي المعترضة الممتعضة فورا.. من هيئته الآدمية إلي هيئة حيوانية دنيا، لاتخرج عن الضب أو اليربوع!.. ولا أراه بعدها في أي مكان، ومهما مرت السنوات، إلا تمثلت في خيالي علي التو.. هيئة الضب أو صورة اليربوع.. ومهما قال بعد ذلك من كلام مهم، أو أفصح عن ثقافة عالية، أو فكر معتبر.. لايفلح- في أحسن الأحوال- إلا في أن يرسم ابتسامة داخلية خفية في أعماقي ناتجة عن المفارقة التي أدركها وحدي- طبعا- وأراها بمفردي- قطعا- للضب المثقف أو اليربوع المفكر!
ذلك لأن (النفاق) منقصة رهيبة، ينال من الروح المفطور علي البراءة والنقاء والعفوية والوضوح والصراحة للشخصية الإنسانية، فيفقدها الكثير من كبريائها وكرامتها واعتزازها، أي يفقدها الكثير من خصائصها الجوهرية كأصل شريف. فالنفاق، تسليم أولي من المنافق- أمام نفسه حتي- بأنه أدني درجة، وأقل مرتبة من هذا الذي ينافقه، وفي هذا ما فيه من اتضاع النفس، وانحطاط القيمة.. ولو كان ذلك يتم بشكل تلقائي وطبيعي من المنافِق للمنافَق (بكسر الفاء في الأولي وفتحها في الثانية) لقناعته الداخلية بذلك- مثلا- لهان الأمر.. وإن دل في نفس الوقت علي قهر متأصل ومركب، وذل تاريخي متجذر في نفس صاحبه، جعلا- القهر والذل- من النفاق طبيعة ثانية له!..
أما إذا كان المنافق يمارسه شكليا وظاهريا فقط، ويبطن غير ذلك من كره لمن ينافق وازدراء له، فهنا المصيبة أعظم، والطامة أفدح، لأننا في هذه الحالة أزاء (وعي مستبطن) من المنافق بحقارة هذا السلوك، واصرار مبيت أيضا علي إتيانه واللج فيه برغم هذا الوعي!.. وهي حالة (نفاقية) مستعصية وغالبة، تعاقرها وتعاشرها قطاعات لابأس بها من الناس، خصوصا.. الموظفين في الأرض!
وقد اجتهد المفكرون، وعلماء النفس، ودارسو الشخصية المصرية، وعلماء الاجتماع، والمؤرخون، في تحليل وتفسير الأسباب لهذا المرض الاجتماعي الوبيل.
ويكاد الإجماع (التبريري) ينعقد علي طول تعرض الشعب المصري لعهود وقرون وحقب من الاستعمار.. من أول الهكسوس وحتي الانجليز، مرورا بالفرس واليونان والرومان والعرب والمماليك والفرنسيس والأتراك.. إلخ، وأن هذا التاريخ الطويل للقهر رسب في وجدان الناس العميق هذه المثلبة الخلقية البشعة- مع غيرها من المثالب الأخري طبعا- لمواجهة تجبر السلطان بالمداراة، وعسف السلطة بالمراءاة، ومداورة القوة بالحيلة، ومجابهة العتو بالخنوع!
وانتهت عهود الاستعمار الطويل- أو كما قيل- وبقيت (التقنيات) والأساليب، والخبرات اللعينة المترسبة في الأعماق - من نفاق وغيرة- يمارسها بعضنا علي بعضنا الآخر!!
بل لقد بلورت هذه الخصائص النفاقية العتيدة نفسها في عدد لابأس به من الأمثال الشعبية المعترف بها اجتماعيا وسلوكيا، والسارية المفعول بقوة حتي هذه اللحظة، وهي- للغرابة- نموذج معتمد ودال (لدي قطاع عريض من البشر)- وهنا المفارقة التراجيكوميدية- علي العقل والرزانة والحنكة والحكمة!.. وليس علي العكس.. من مثل.
-(إن كان لك عند الكلب حاجة قول له: ياسيدي).
-(عشان ما نعلا لازم نطاطي).
(اللي يتجوز أمي أقول له ياعمي)!
.. وهو مالم يقبل به "هاملت" علي الإطلاق.. رغم ان من تزوج بأمه هو عمه بالفعل وليس "أي واحد يتزوج بأمي يبقي عمي".. وبرغم ذلك رفض "هاملت" الحر هذا الوضع، وصنع برفضه تراجيديا من اروع ما اخرجت قريحة العبقري شكسبير، ولكن للشعب المصري رأيا آخر علي ما يبدو!..
.. إلي آخر ذلك، وهو كثير، وهذه أمثلة مباشرة أتت- هكذا- عفو الخاطر وهي مع عشرات الأمثلة من أشباهها ونظائرها في تراثنا الشعبي وادائنا الاجتماعي تشكل ما يمكن ان نسميه (فقه النفاق) في كتاب الوجدان العام.
وللنفاق مظاهر وأساليب وأشكال متعددة في حياتنا العامة والخاصة، ليس هذا مجال تعدادها علي أي حال، ولكن كان- ولايزال- يستفزني منها بشكل خاص- ربما لملامستي لهذا الجانب عن قرب- النفاق الوظيفي.. الصارخ.. الواضح.. الفادح.. المفقوس جدا.. وبرغم ذلك.. مطلوب جدا. ومرحب به دائما، مرضي عن أصحابه ومحترفيه باستمرار!
وقادني تأملي الطويل -لهذه المسألة- علي مدي أربعين سنة (وظيفية)- إلي أن الموضوع يخرج عن حدود المظاهر والشكليات (المقدور عليها علي كل حال) ويرسب في الأعماق، لطبقات من الدلالة، ومستويات من المعني، شديدة الخطورة.. فعلاقة الرئيس بالمرؤوس عندنا، من هذا المنظور، ليست محض علاقات شغل، او تراتبات تدرجية لتنظيم العمل.. وانما علاقات افضلية تكاد تكون عنصرية، علاقات مقامات ارفع وادني.. علاقات سادة وعبيد (أو تكاد).. ومن ثم فهي علاقات مقامات تشارف حدود الطبقية.. فالرئيس- دائما- هو الأرقي اجتماعيا،والأفضل طبقيا، والأذكي، والأفهم، والأعرف، والمصدق علي كلامه باستمرار، والناطق بالحكمة، والمكشوف عنه الحجاب، والحكيم، البصير.. وهكذا، أما المرؤوس فهو الأقل في كل ذلك- حتما- لمجرد انه مرؤوس!!
بل إن من آداب النفاق الوظيفي الراسخة، إنه إذا فتح الله عليك بفكرة صائبة لصالح العمل- وأنت المروؤس الصغير- فمنتهي المراد من رب العباد أن يتفتق ذهنك (الصغير) عن طريقة لولبية تجعل بها (فكرتك) تبدو وكأنها من بنات أفكار السيد الرئيس التي أوحي بها- من حيث لم يدر- إلي شخصكم التافه.. الذي لم يكن له من فضل إلا صياغة وبلورة (أحلام سعادته).. التي لم يحلمها إطلاقا، والتي هي أوامر واجبة التنفيذ برغم ذلك!!..
.. وياسعدك.. ياهناك، لو قبل السيد الرئيس هذا التنازل منك، وهذا الانمحاء (الوظيفي) الضروري لشخصك النكرة في ملكوت شخصية السيد الرئيس الرحبة.. فهذا هو طريقك الملكي للصعود والترقي.. كلما ازددت انمحاء وقزمية ودونية ازددت صعودا وبسرعة في سلم الوظيفة الطويل، بينما يظل زميلك المسكين، الشغال، الذي يحترم نفسه، ولا شأن له بمداهنة ولانفاق.. يظل في مكانه.. محلك سر.. لايشعر به احد ولا قيمة له في الحقيقة، اللهم إلا الغضب عليه طيلة الوقت، وبلا سبب!.. لأنه- بمعني من المعاني- يشكل بصمته ونأيه واحترامه لنفسه.. نوعا من الضمير اليقظ الكاشف والمعري والفاضح لأصحاب (فقه النفاق) من حوله.. ويكون من أول أهداف زميله المنافق المتسلق اذا وصل لأعلي السلم بسرعة (وهو لابد واصل) اضطهاد هذا الشريف، ومضايقته بكل وسيلة ممكنة، وبحجج مضبوطة جدا (وظيفيا ولوائحيا وبيروقراطيا) حتي لو كان في حاله.. ومسالما.. ولاشأن له بغيره، لأنه بهذه الصفة المحايدة، حتي لو صامتة (وفي حالها) يعري- كما قلنا- أصحاب الفقه المنافق!
وإذا انتقلنا من فقه النفاق إلي فقه اللغة.. جاز لنا ان نتساءل عن كنه العلاقة بين (النفاق) باعتباره (إماتة) للقلب.. للجوهر الإنساني الشريف، وبين (النفوق) بمعني الموت (للبهائم خصوصا).. بل للبهائم فقط.. فيقال نفق الفرس والدابة والبغل والحمار.. ونافق الشخص!
وهل ثمة علاقة بين (النفاق) و(النفق).. باعتبار ان المنافق يدخل طيلة حياته لسرداب طويل مظلم من محو الذات واهانتها وتدميرها إنسانيا وبطريقة شائنة!
ثم هل- أخيرا- ثمة علاقة بين (النفقة) و(النافقاء) وهما اسمان مترادفان لجحر الضب واليربوع (كما تقول معاجم اللغة).. وبين تلك الصورة الساخرة التي ترتسم في خيالي فورا، كلما اوقعتني الظروف في حضرة منافق محترف يمارس عمله بهمة وكفاءة.. إذ تنمحي رأسه الإنساني المتكلم الناطق (النافق) المنافق، ليحل مكانه رأس ضب وهيئة يربوع!.. ولايعرف ساعتها أحد سواي، لماذا ترتسم علي شفتي في هذه اللحظة بالذات ابتسامة مشفقة وهازئة، قد تتحول رغما عني في كثير من الأحيان- إذا كانت جرعة النفاق زائدة عن الحد- إلي قهقهة مجلجلة عالية تثير الاستغراب والدهشة من الموجودين والمحيطين بي.. بينما يتحول المنافق العتيد عن خط نفاقه الرئيسي للحظات، ملتفتا إلي في نفاق فرعي خاص بي (علي الماشي كده) قائلا بطريقته اللزجة.. المصنوعة.. المقزرة.. الآلية جدا:
-خير سعادتك
الضحك خير حضرتك
اللهم اجعله خير جنابك!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.