كانت الدعوة التي وجهت إلي من المركز الثقافي المصري في باريس برئاسة الأستاذة الدكتورة أمل الصبان المستشار الثقافي لسفارة جمهورية مصر العربية بفرنسا، وإدارة الدكتور محمود إسماعيل مدير المركز، بالتعاون مع جمعية «مصر اليوم» ومؤسسها الصحفي المصري المقيم في فرنسا الأستاذ فتحي عبدالفتاح هلالي، وإذاعة الشرق في باريس.. للاشتراك في تحكيم المسابقة الشعرية للشباب المصري والعربي المقيم في فرنسا باللغتين العربية الفصحي والفرنسية.. فرصة طيبة لزيارة عاصمة النور للمرة الثالثة من ناحية، وتلمس نبض الجالية المصرية الثقافي والفني والاجتماعي والسياسي.. الخ إزاء الوطن الأم، وما يدور فيه من أحداث جسام تتري متلاحقة ومؤثرة بعمق وبكل المعاني في هذه الأيام من ناحية أخري. منذ أعلن طيار مصر للطيران، عن الاستعداد للهبوط في مطار شارل ديجول بباريس، ولأكثر من نصف ساعة كاملة، حتي تمت عملية الهبوط بالفعل، والطائرة تشق طبقات فوقها طبقات من الضباب المتكاتف بشدة، والسحب القاتمة المتراكبة التي لايلوح بينها انفراجة من أي نوع، وفي أثناء هذا الهبوط الطويل بدا واضحا أن هذه الطبقات المتكاتفة المتراكبة المتراكمة تشغل مسافات هائلة من طبقات الجو العليا التي كانت تحلق فيها الطائرة وحتي اقترابنا الوشيك من الأرض.. التي لم تلح بشكل واضح - تقريبا - إلا عند الهبوط الفعلي المباشر علي أرض المطار! وبدأ الجو في الخارج، عاصفا، مزمجرا، ممطرا بقوة، يفرقع الرعد بين أبعاده المترامية، ويلمع البرق في سماواته الملبدة.. واستغربت من هذا الجو، ونحن في 30 مايو 2013، وقد تركت الجو خلفي في مصر، وهو يرفل في حرارة فظيعة وقيظ خانق، المهم، حمدت الله انني ارتدي بذلة وان كانت صيفية، إلا انها كاملة علي كل حال.. وبعد الإجراءات المعتادة، استقبلتني بود مصري أصيل، وترحاب جميل ورقيق السيدة الدكتورة إيمان رضا الجمل ملحقنا الثقافي في سفارتنا بباريس، ومعها السائق المهذب المحنك محمد، الذي كان من الواضح جدا انه علي دراية كاملة بشوارع باريس، وبالطرق المثلي للتخلص من البؤر المزدحمة فيها عبر طرق بديلة ومخارج أخري لا يعرفها إلا خبير مجرب.. وأخيرا.. ها هي باريس بشوارعها النظيفة، ومرورها المرتب، ومبانيها القديمة والحديثة سواء، التي ترفل جميعها في نفس العناية والاهتمام، بالحفاظ علي الطابع الأصيل والمتميز للقديم، والحرص علي تألق ولمعان جديد.. والنظافة الناصعة والجلية والواضحة للعيان للقديم والجديد معا.. وأخيرا.. وصلنا إلي السكن التابع للسفارة، والذي يقع في نفس العمارة فوق المركز الثقافي المصري في سان ميشيل/ لوكسمبورج. وعلي مرمي مسافة بسيطة من جامعة السوربون الشهيرة.. وهي عمارة كلاسيكية الطراز تفوح الأصالة والعتاقة (النظيفة جدا) من حناياها، ودرجات سلمها، وحتي مصعدها العتيق الصغير للغاية الذي يتسع لشخصين بالكاد، وتقع شقة السفارة المصرية في الدور الثالث، وهي بالطبع تشبه العمارة في عتاقتها وأصالتها وقد ازدانت جدرانها ببعض اللوحات لفنانين مصريين من مدارس مختلفة.. الشقة واسعة، وبها ثلاث غرف للنوم، وعدة حمامات، ومطبخ مجهز، واستقبال كبير يضم مربعات ثلاثة.. صالون واستقبال وصالة صغيرة، وهي مريحة للغاية، وواسعة تماما.. لولا أن خشب الأرضيات حينما يجن الليل ويسود الهدوء، وتحاول النوم - بمفردك - كضيف طاريء في هذا المحيط الواسع.. تستمع فجأة إلي طقطقات الخشب، وتمطي الجدران، وزمزقة الأبواب، ويبدو كل ذلك في الظلام الدامس والهدوء الشامل، وكأنه مقدمة لفيلم رعب من نوع ما، لولا العقل والحكمة والوعي والتروي.. صحيح ان كل هذا يفلح في انتباهك تماما، واستدعاء كل ثرائك في مسائل العفاريت والأرواح والأشباح.. ولكن مع اليقظة التامة والانتباه الكامل والتأمل الدقيق، سرعان ما تكشف أن المسائل لاتخرج عن التمطي الطبيعي للأبواب والأخشاب والدواليب (أو الخزانات).. وهي تنتقل بين حالات مختلفة من اعتدال الجو واقترابه من الدفء، وانقلابه المفاجيء وانغماسه في البرد الشديد، وان هذه الأخشاب بالتالي لابد تعاني حالات انكماش وتمدد مستمرين ينجم عنهما هذه الطرقعات والطقطقات، التي تنجلي تماما، وتتضح ساطعة مع هدوء الليل الشامل والصمت المخيم.. أو إن أردتم الحق هكذا أقنعت نفسي، وان لم تفلح هذه الأسباب العلمية المنطقية الواضحة جدا.. في استسلامي لنوم هاديء قرير.. كيف وهذه الأصوات - والله العظيم - أقرب ما تكون بلا مبالغات إلي أقدام بشرية مطقطقة بانتظام لافت وهي تمضي متجولة ليلا في الشقة الواسعة!!
المهم، سارعت بتفريغ حقائبي، وترتيب أوراقي، استعدادا للأمسية الشعرية التي سأقيمها في المركز الثقافي الليلة مباشرة، وبعد وصولي بسويعات قليلة، وحاولت الإشارة للمسئولين إلي الجو العاصف الممطر الملبد بالغيوم الذي حول النهار إلي لون مسائي رمادي قاتم.. متعللا بأن الناس ستلزم بيوتها في مثل هذا الجو، ولكن القائمين بالأمر هونوا من أمر هذه الاعتبارات، التي لاح من كلامهم انها دائمة ومستمرة لاتعطل شيئا ولاتؤجل أمرا، كما يحدث عندنا في مصر!.. ويلفت نظرك، وأنت تطل من شرفة السكن علي الشوارع وانقشاع الأنهار المتدفقة من السماء في ثوان.. فلا توجد أي مستنقعات في الشارع، أو مياه متراكمة في ناحية، أو بحيرات جمة في بعض نواحي الشوارع، بل هناك بالتأكيد حل سحري ما، يبتلع كل هذا الطوفان فورا، ولايبقي علي سطح الشوارع إلا هذا البطل الخفيف الذي يدهن الأسفلت بطبقة خفيفة سرعان ما تجف بمرور السيارات المتعاقب، ولايعود ثمة أثر - أي أثر - للسيول الفظيعة المنهمرة طيلة اليوم!.. وتفكر - رغما عنك - أن هذا لو حدث بنفس القوة والتتابع في مصر لغرقت البلاد كلها في «شبرمية».. أو في «مترمية» إذا أردنا الدقة!
يقبع المركز الثقافي المصري في موقع ممتاز في قلب الحي الباريسي الأنيق سان ميشيل، وبرغم ان المكان ليس كبيرا جدا أو واسعا.. لكنه كاف ومعقول، وقد امتلأ عن آخره بالمصريين والعرب (من شمال أفريقيا خصوصا).. من المغرب وتونس والجزائر، جمهور مهتم وواع ومثقف، قدموا برغم ظروف الجو للاستمتاع بليلة شعرية مصرية عربية دافئة في قلب باريس البارد، في هذه الليلة علي الأقل، وقدم مدير المركز الشاب النابه الدكتور محمود اسماعيل، وهو مهندس معماري في الأصل، للندوة بسلاسة وبراعة المدير الثقافي المحنك والمثقف والملم بالخريطة الثقافية والشعرية المصرية.. قدم ومهد وعرّف بالضيف، ليترك له الساحة والليلة التي شرفتها بالحضور الدكتورة الجميلة أمل الصبان المستشار الثقافي النشط لسفارة جمهورية مصر العربية بباريس، ودارت الندوة بنجاح لافت بين أسئلة الحضور وقصائد الشاعر، التي كانت تفجر المزيد من الأسئلة، من جمهور الحاضرين.. مصريين وعرب، واتسم اللقاء - في شعره وأسئلته- بالتلقائية والعفوية، والتخلي عن كل تحضير مسبق، وإعداد مجهز سلفا.. وفرضت حميمية اللقاء وحيويته.. هذا النهج الطبيعي المنبسط في مسارات الحوار والأسئلة، وكانت ليلة ناجحة بكل المقاييس، اتسمت - في هذا البرد الباريسي المهاجم - بالدفء والحرارة، وانمحاء الفواصل والفوارق - بأنواعها - بين أبناء العربية جميعا، وبما أن هذا المخاض الذي تعيشه الأمة كلها.. ليس وقفا علي دول الربيع العربي.. وإنما هو يشير إلي قلق مقض، وهم ممض.. لدي أبناء الأمة جميعا من المحيط إلي الخليج، وأن هذا الأفق المشترك لاينفي بحال تلك التمايزات النوعية في هذا الاطار الجامع.. لخصوصيات واقع كل بلد عربي، وسماته الاجتماعية والسياسية المتباينة بالضرورة عن أقليم عربي آخر في قليل أو كثير.. ولكن تبقي الهموم المركزية العريضة في نشدان الحرية والسعي إلي الديمقراطية والتقدم، والتخلص من أنظمة الحكم الديكتاتورية.. هموما جامعة، وقلقا موحدا، ونشدانا مشتركا وملحا للخلاص والخلوص إلي آفاق مستقبل مأمول، بات اليوم مطلوبا ومرغوبا أكثر من أي وقت مضي، وهو يلوح الآن علي أطراف الأصابع، ورهن التحقق، والحدوث، وهذا الإيمان من الجميع بأن ما نلمسه اليوم من مصاعب وعراقيل: ما بعد الثورات.. هو أمر طبيعي تماما، ولابد من المرور به أولا.. قبل أن نصل إلي هذا الأفق المأمول المفتوح علي العقل والحرية والنور والديمقراطية ومن ثم كانت النغمات الآملة المتفائلة هي أقوي النغمات حضورا، وأوضح الاتجاهات مئولا.. في رؤي المتحدثين والمشاركين. وكانت ليلة ثقافية مصرية عربية باريسية بامتياز، تنفس فيها الجميع بحرية تامة، وأدلوابأفكارهم بملء القلب والعقل واللسان، بلا مصادرات ولاتخوين، ولا اتهامات ولاتصفيات.. إلي آخر ما يعتور حواراتنا الآن في بلادنا، نحن المصريين وربما العرب، من حوار بالدم والسلاح والحديد والنار.. وليس باحترام الاختلاف والتعدد وتباين وجهات النظر.. أسلوبا للحوار.. وطريقا للتعدد المثري والمفتح للآفاق.. والمزهر لورود العقل كي تتفتح!
كنت في سباق اضطراري مع الزمن، فمساء اليوم/ الجمعة 31 مايو 2013، هو الموعد المعلن لإعلان نتيجة المسابقة الشعرية بين الشباب المصريين والعرب المقيمين في باريس، وكان من المفروض أن تصلني النصوص قبل ذلك في القاهرة، وقبل سفري الفعلي إلي باريس، وحالت ظروف مختلفة دون ذلك، ومن ثم كان عليّ أن أحتشد في نهار هذا اليوم الجمعة - التالي لوصولي مباشرة - لقراءة ما يصل إلي أربعين قصيدة لثلاثة عشر متسابقا تقدم كل منهم بثلاث قصائد كحد أدني، وكما تحدد شروط المسابقة.. ثم التحديد الدقيق والأمين والموضوعي للفائز الأول الذي سيحظي وحده بالمكافأة المالية (1000 يورو) والتي تعادل تقريبا عشرة آلاف جنيه مصري والمقدمة من رئيس جمعية (مصر اليوم) الأستاذ فتحي عبدالفتاح هلالي الصحفي المقيم في باريس منذ ثلاثين عاما، وصاحب قصة نجاح تدعو إلي الاعتزاز والفخر في فرنسا، لعلنا نحكيها في مقال آخر.. لما لها من قيمة ودلالة علي إرادة المصري وعزيمته في مواجهة صعاب مستحيلة، وإصراره علي النجاح والتفوق برغم ذلك.