لم تكن خديجة تحب شيئاً في الحياة قدر حبها لبيتها ومتعلقات بيتها وكانت شديدة التعلق بالثلاجة والبوتاجاز والغسالة الفول أوتوماتيك والستائر ذات النقوش المزركشة وأدوات المطبخ المرتب بعناية وكثيراً ما كانت تتباهي أمام الجيران بسيراميك الحمام وألوانه الفيروزية المشرقة، خديجة سباحة ماهرة تجيد لغة البحر والتعامل مع أمواجه المتقلبة لكنها لم تكن تجيد مصاحبة نفسها. قلت لها ونحن نتراشق بمياه البحر الدافئة مازحا: ستقومين بإهدائي الثلاجة الصغيرة لأضعها في مكتبي، أليس كذلك؟ انتفضت كالقطة ثم وقفت علي قدميها وراحت تسبح نحوي برشاقة في محاولة لإغراقي - أنا الذي لايجيد السباحة مثلها - وفي غرفة الإنعاش قلت لها مازحاً كعادتي معها بعد أن استفاقت وأدركت من حولها: سنذهب غداً للبحر وسأقوم بإغراقك هذه المرة. ابتسمت خديجة بإعياء وهزت إصبعها في اتجاهين متضادين وكأنها تقول: لن تستطيع. لم تعد الأدوية الكثيرة المتنوعة ولا أنابيب الجلوكوز قادرة علي شفاء خديجة الطيبة التي راحت تتألم بشدة فطافت بشفتي فجأة ابتسامة غريبة أدركت بعدها أن الابتسامة التي تفتح القلب وتنير الشفاه هي نفس الابتسامة التي تشق القلب إلي نصفين وتجلب لصاحبها التعاسة، لم أعد أسعد بضحكات خديجة المدوية الساحرة ولم تعد هي قادرة علي احتمال مداعباتي الثقيلة أحيانا فنصحها الأطباء بضرورة السفر لقضاء بقية أيامها بين أهلها وحينئذ طلبت مني مفتاح بيتها الكبير وقالت: حتي لا تأخذ الثلاجة الصغيرة التي تحلم باقتنائها، أعرف أنك راغب فيها لكنني سأعود قريباً ولن أجعلك تنعم بها. انتظرت عودتها بشغف شديد لكن تليفون الرابعة فجراً أكد لي أنها لن تعود أبداً. كانت الصناديق الكرتونية بمختلف أحجامها تملأ الحجرتين والصالة الفسيحة وما هي إلا لحظات قليلة حتي صارت الصناديق معبأة بمقتنيات البيت الكبير وراح بقية إخوتها يتسابقون في ربطها بالحبال حتي جاءت الشاحنة واكتظت بالصناديق الكرتونية والأثاث. لم تكن خديجة تدري أن أشياءها الثمينة سوف تخرج في يوم ما إلي بيوت إخوتها الذين كانوا يستعجلون الرحيل، هل هو الخوف من عودة مفاجأة لخديجة يعود بعدها كل شيء إلي ما كان عليه؟؟ أم هو الإحساس بالملكية الذي لايعرف الشبع؟؟ وهل كان بالإمكان أن تعود خديجة؟! رحلت الشاحنة ورحل معها الأخوة فرحين بمقتنياتهم وآه خديجة لو كنت تعلمين أن التابوت الخشبي المستطيل لا يتسع سوي لصاحبه؟!! تركوا لي المفتاح عند جارتها الحاجة فاطمة ضاربة الودع، كانت خديجة الجميلة تحب الحاجة فاطمة وتعشق رؤية الودع كل يوم وقراءة الفنجان كلما سنحت الفرصة وكانت تتهمني بالجهل حين أسخر منها ومن الحاجة فاطمة التي كانت تبادلها نفس الحب، كانت خديجة وحيدة إلا من مقتنياتها وضاربة للودع وكانت الحاجة فاطمة وحيدة إلا من خديجة وبيع الأوهام وكانتا تقتلان وحدتهما بتبادل الحكايات. في اليوم التالي صباحا دخلت الحاجة فاطمة معي لتنظيف بيت خديجة قبل إغلاقه نهائياً وعرضه للبيع ثم قالت وهي تشير بدهشة إلي أوراق الصحف المنتشرة وأكياس النايلون والعلب الفارغة وبقايا الحبال والتراب: ألم يكن لديهم القليل من الوقت لإزالة وتنظيف كل هذا؟ قلت لها وقد لمحت صورة مقلوبة وسط كوم من الزبالة: كان لابد أن يرحلوا قبل أن يحل الظلام. مصمصت ضاربة الودع شفتيها بصوت مسموع ثم هزت رأسها وقالت: سأقوم أنا بتنظيف كل شيء أما أنت فعليك فقط بإلقاء كل ما أعطيك إياه في صندوق القمامة بالخارج. انحنيت لالتقاط الصورة المقلوبة المغطاة بالأتربة فلم تكن سوي صورة خديجة، تسربت إلي روحي قشعريرة غريبة اهتز علي إثرها كل جسدي النحيل ولم أعد قادراً علي التحكم في دموعي المؤجلة التي راحت تنساب غزيرة حتي تبللت الصورة عن آخرها ولم يعد بالإمكان تجفيفها. قلت للحاجة فاطمة: أقرئي لي طالعي. كانت قد رأت دموعي من منابعها فألقت بالمكنسة بعيداً ثم أخرجت الودع من جلبابها الأسود القديم وطوحت به فوق الأرض وقالت وهي تحبس دموعها: لأول مرة لا أستطيع أن أري شيئاً سوي أن أختك الجميلة لن تعود أبداً وأن التابوت الخشبي المستطيل لايتسع سوي لصاحبه؟!