موضوع السرقات الأدبية واحد من أهم الموضوعات التي التفت إليها الأدب قديما وحديثا.. وخاض فيه الخائضون بدراية وعلم - أحيانا - وعن جهل وزيف أحيانا أخري..وكانت النظرات النقدية قديماً - تقف علي ما امتاز به شاعر في ابتداع صورة أو سبك عبارة لتبين مدي التفوق والعبقرية والقدرة علي الابداع ولذا كانت الموازنات النقدية القديمة، ومحاولة (تصيد) لفظ أو جملة أو صورة للحكم بالأخذ أو السرقة كما يقال أحياناً. والحق أن من يقترب من هذا اللون النقدي يحتاج إلي كثير من الفطنة والذكاء حتي لا يكون الحكم مبنياً علي رأي مبتور أو نظرة سطحية أو هوي: الذي هو آفة النفس البشرية. وكثير من الأعمال الابداعية- التي لها ضوابطها الفنية - تكون باعثة للإعجاب فتثير هوي المبدعين علي نحو قصة (أوديب) التي روتها الأساطير اليونانية منذ أبعد العصور، وألفها (هوميروس) في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد في النشيد الحادي عشر من ملحمة »الأوديسا« ثم عرض لها بعده ثلاثة من كبار شعراء اليونان في القرن الخامس قبل المسيح هم (اسخيلوس) و(سوفوكليس) و (يوريبيدس) كما عرض لها غيرهم من أوربا منذ القرن السادس عشر بعد الميلاد، فأعاد كثير منهم كتابة قصتها وتقديمها إلي المسرح. ومنهم الشاعر الانجليزي (دريدن) في القرن السابع عشر والشاعر الايطالي (الفييري) وكذلك صنع الفرنسيون وغيرهم. نخلص من هذا ان النفس الإنسانية مهما تتجدد حياتها وأساليب تفكيرها لم تستطع ان تتخلص من قراءاتها الماضية بشكل أو بآخر. وقديما سئل ابوعمرو بن العلاء، أرايت الشاعرين يتفقان في المعني ويتواردان في اللفظ. لم يلق واحد منهما صاحبه، ولم يسمع شعره؟ قال: تلك عقول رجال توافت علي ألسنتها! كما سئل ابوالطيب المتنبي عن مثل ذلك، فقال: الشعر جادة وربما وقع الحافر علي موضع الحافر. وأذكر أيضاً أن أبا هلال العسكري قال شعراً في صفة النساء فيه قوله: (سفرن بدورا وانتقين أهله) وظن أنه سبق إلي هذين التشبيهين في نصف بيت (شطر) إلي أن وجده بعينه ولفظه لبعض البغداديين فكثر تعجبه وعزم ألا يحكم علي المتأخر بالأخذ من المتقدم. فإذا كان هذا في الشعر الذي له أصوله وقواعده فما بالنا بتأويل هذا الشعر ونثر مفرداته. ألم يكن شرح الشعر وتأويله مما يقع فيه توارد الخاطره أو (الحافر علي الحافر) كما قال المتنبي ! لقد ساءني كثيرا ما ذكره بعض الأصدقاء من أن الدكتور شكري الطوانسي يدعي نقلي لنصوص من كتابه (مستويات البناء الشعري عند محمد إبراهيم أبي سنة - دراسة في بلاغة النص) وقد ضمنت ذلك كتابي (الإيقاع في شعر الحداثة دراسة تطبيقية علي دواوين فاروق شوشة.. إبراهيم أبوسنة - حسن طلب - رفعت سلام) والصادر عام 2008 علي الرغم من تباعد العنوانين واختلاف التناول والهدف! وما كان لمثلي ان يصنع ذلك وأنا المحقق والمدقق في ميدان التراث حيث صدر لي أكثر من تسعة أعمال تراثية 0 وهي مهنة كما يقول عبدالسلام هارون »مهنة تحتاج لصفتين تنوء بهما الجبال الرواسي (الصبر، والأمانة) تلك الصفة الأخيرة التي تقض مضجعي متصفحاً عشرات ومئات الصفحات لاثبات رواية أو دحض افتراء أو نسبة بيت لصاحبه أو ضبط بيت كما أورده قائله: ومن يقرأ كتبي المحققة - وهي متاحة للجميع - يدرك تلك الحقيقة التي أرجعت من خلالها الكثير من المسلمات التي اصحابها المجهولين. كما بحثت في تاريخنا الأدبي فأزحت النقاب عن كثير، فمنهم من كان له مخطوطات مازالت فوق أرفف المكتبات العامة والخاصة ومنهم من ضاعت مخطوطاته فعزمت علي صنعها بمفردي كما هو الحال في صناعتي لدواوين ابن مرج الكحل او التجيبي أو الزفيان السعدي أو غيرهم.. الأمر الذي جعلني أمينا علي نشر الاف الكتب ولم يصبني أي افتراء بالأخذ! أما بالنسبة للكتابين موضع الكلام فيمكننا الرد من خلال! أولا: كتاب الدكتور شكري (مستويات البناء) كتاب يختص بالتجربة الشعرية الخاصة لمحمد إبراهيم أبي سنة وقد تناولها من خلال أربعة محاور هي المستوي الصوتي/ مستويات النمو والتركيب/ الصورة الشعرية/ المعجم الشعري) وكل مستوي من هذه يمثل فصلا مستقلا بنفسه. اما دراستي المتواضعة فيحتل محمد إبراهيم أبوسنة فصلا واحداً منها فقط. مع ملاحظة أن الدراسة الخاصة به تناولت الإيقاع فقط ولم أتطرق إلي اللغة ولا إلي الصورة ولا إلي المعجم الشعري كما تعرض الطوانسي. وعلي هذا فنحن نتحدث عن نسبة 20٪ فقط من كتابي! ثانيا: المتأمل في هوامش هذا الفصل من كتابي يدرك أشياء كثيرة منها علي سبيل المثال لا الحصر. (أ) ذكرت كتاب الطوانسي في هامش ص 72.. كما ذكر الكتاب ضمن مراجعي ص 380 (ب) اعتمد الأستاذ الطوانسي علي المجموعة الشعرية الكاملة لمحمد أبي سنة بينما اعتمدت علي الدواوين المفردة - مما ينفي النقل وكان أولي نقل الاستشهادات منه مباشرة! (ج) اعتمدت علي مراجع ومصادر لم يذكرها الطوانسي مطلقا وربما لم يرها مثل كتاب (الايقاع في السجع العربي) لمحمود المسعدي، والايقاع في الشعر العربي الحديث) لخميس الورتاني.. وغيرهما كثير مما يضيق الكلام عنها.. وأحيانا يعتمد الطوانسي علي كتاب مترجم.. وأعتمد علي ترجمة اخري للكتاب نفسه.. كما في اعتماده علي كتاب (بنية اللغة الشعرية) لجان كوهين ترجمة محمد الولي.. بينما اعتمدت علي ترجمة د. أحمد درويش الصادرة بالقاهرة تحت عنوان (بناء لغة الشعر) وذلك قد يعطي انطباعا بالنقل. (د) كثيرا ما أوضحت رأيي وسجلته كما في هامش ص 69، 71، 74 ، 77 علي سبيل المثال لا الحصر وهذه الآراء خلت من كتابه، وكان الأولي ان يقف عندها.. وهو الذي يتعرض بشكل دقيق لشعر أبي سنة ! ثالثا: لو تأملنا متن الفصل لوجدنا الكثير أيضاً.. منها: (أ) خلو كتاب الأستاذ الطوانسي من نحو 152 سطرا شعريا قد استشهدت بها من شعر ابي سنة لم يذكرها الطوانسي مطلقا.. كما في صفحات 74، 75، 69، 73، 100 ، 102، 103 ، 104، 106 107. 110، الخ، ولست أدري كيف انقل نصوصاً لاستشهادات شعرية وتعليقات لم يذكرها الرجل! ليس معني هذا اننا لم نتفق 0 أحيانا - في التأويل.. بل أحيانا أتابعه فيه.. إما توارد خواطر وإما علق بالذاكرة من جراء قراءتي لكتابه وقد سبق أن استشهدت به وهو ضمن مراجعي. (ب) أشياء كثيرة ذكرها الطوانسي في كتابه ولم أعر لها بالا مطلقا كما هو الحال في استعمال أبي سنة لفنية (التدرج) أو (ما يلزم نهاية السطور) أو (تكرار جملة أو علي مسافات متباينة داخل القصيدة) هذه الأشياء وغيرها كثير لم ألتفت إليها مطلقا ومن ثم فكيف يكون النقل ؟! (ج) من الطريف المضحك أن ثمة أخطاء لا يمكن أن تكون طباعية وقعت في السطور الشعرية عند الطوانسي.. تدراكت تلك الاخطاء وصوبتها كما هو في ص 149، 156، من كتابه وهو ما يؤكد علي عدم النقل كما زعم.. اذ يقول ابو سنة: وهذا هو البدر يأتي من الشرق أخضر مثل اليمام الذي في الأساطير. أزرق مثل المياه التي في البحار. وأحمر كالحب، أصفر كالبدر في بلد لايريدك أبيض مثل النهار وصحة السطر الرابع كما ذكر ابوسنة. وأحمر كالحب.. اصفر كالموت في بلد لا يريدك فقد استبدل الطوانسي البدر بالموت في السطر الشعري!! مما يغير الدلالة. لكنه لا يغير الايقاع. (د) أورد الأستاذ الطوانسي نقولا من كتابي ومن كتابه، فيتوهم القارئ النقل، والمتأمل في معظم تلك النقول يدرك أننا - أحيانا- أخذنا نصا واحدا ورجعنا إليه معا كما في قوله: ويعد المستوي الصوتي.. وإذا كان الشعر يكتسب خصوصية بتشكيله الصوتي الذي يثير التلقي فإن معني القصيدة، إنما يثيره بناء الكلمات كأصوات اكثر مما يثيره بناء الكلمات كمعان، قال: الطوانسي. أخذت نصه (!) فالفقرة الأخيرة هي جملة معروفة ومشهورة لارشيبالد مكليش في كتابه الشعر والتجربة وهي ص 19 في طبعة هيئة قصور الثقافة التي اعتمدت عليها.. بينما اعتمد الطوانسي علي طبعة أخري فكانت العبارة في ص 23!! وهو أيضا ما صنعه في نموذجه الثاني حيث أورد نصا لي »يتكون النص الشعري من وحدات نغمية تتكرر بانتظام داخل السطر الشعري.. فبنية الشعر تتميز بتواز مستمر« فالجملة الأخيرة - أيضاً - عبارة معروفة ومشهورة لرومان ياكبسون في كتابه قضايا الشعرية.. وهو ما ذكرته وأوضحته في الهامش. ومن ذلك أيضاً قوله من كتابي »اعتمد الشعر علي التصريع والتقفية.. لكونهما من الوسائل المحققة للايقاع.. ويذهب الشعراء المطبوعون المجيدون إلي ذلك (التصريع) لأن بنية الشعر إنما هي التسجيع والتقفية، فكلما كان الشعر أكثر اشتمالا عليه كان أدخل له في باب الشعر وأخرج له عن مذهب النثر، الفقرة الأخيرة كاملة هي لقدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر، وأثبت ذلك بهامش الكتاب، وهي من الجمل المشهورة له، وقد أوردها الأستاذ الطوانسي موهما القارئ أنني أنقل منه. (ه) أثقل الطوانسي كتابه بالجداول المختلفة حتي وصلت لنحو يقارب المائة صفحة في حين انه تجاهل أشياء كثيرة كان أولي به ان يقف عليها كما وقفت في دراستي - وهي غير المعنية بأبي سنة علي وجه التحديد - كما في ظاهرة اسمية القوافي، ومحاولة ربط أبي سنة بالتراث العربي القديم مما يؤكد علي عدم النقل واختلاف التناول. (و) المتأهل في احصاءات الكتابين يدرك (مدي النقل المزعوم) وهو كمايلي: الاستاذ الطوانسي اعتمد في دراسته علي 9 دواوين لأبي سنة بأجمالي عدد 210 قصائد، وأعتمدت أنا علي عشرة دواوين باجمالي 222 قصيدة.. نالت نسبة بحر الرجز في دراسة الطوانسي 36.7٪ من تجربة أبي سنة، بينما النسبة لدي 34.6.٪ واذا كان المتدارك عند الطوانسي 32.9٪ فهو لدي 34.2.. الخ لتلك الاحصاءات الخاصة بالبحور الشعرية، وكذا حركة الروي وحروفه.. والتي تنفي تماماً النقل. رابعا: غريب امر هذا الرجل وطريف أيضاً أن يدعي النقل المباشر من كتابه.. ثم يقول وهو يتحدث عن القوافي: حيث يتبني سالمان العدد نفسه لأشكال القافية التي اقترحتها، ومعدلا من ثلاث تسميات منها، هي - في الحقيقة - تسميات غير دقيقة علميا وغير منسجمة مع شعر أبي سنة محيلا في الهامش إلي آخرين (متجاهلا تماماً ما جاء في كتابي في هذا الشأن).. ولست أدري هل أنا (متجاهل تماماً ) علي حد قوله - ما جاء بكتابه أن أنقل منه نقلا حرفيا؟!! أي الطوانسيين نصدق؟! ولن أناقشه فيما أدعي أنها تسميات غير علمية فلهذا شأن آخر.. وأنا علي يقين أن ما ذهب إليه من تسميات تنقصها الموضوعية فضلا عن العلمية التي ننشدها ! الأمر جلي بين يدي القارئ الحصيف.. علما بأن الفصل الخاص بايقاع شعر أبي سنة في دراستي يصل لنيف وسبعين صفحة بالجداول الملحقة.. وقد اتبعت المنهج نفسه في دراسة شعر فاروق شوشة وحسن طلب ورفعت سلام في الكتاب نفسه. وأقول أن طبيعة المادة (شعر أبي سنة) فضلا عن دراسة الايقاع بألفاظها الخاصة وثوابتها التي لاتتغير قد تكون سببا في توهم الأستاذ الطوانسي بالأخذ منه فما نقوله عن تصريع وقواف وجناس عند شاعر بعينه قد يقوله آخر دون ان يكون هناك شبهة أخذ ورد.. فهي من قبيل المسائل الحسابية الثابتة من 1 +1 =2 فلا يمكن لمدع أن يقول أن فلانا أخذها من فلان. وأخيراً إن ما هدفت إليه دراستي هو دراسة الايقاع في فترة زمنية تخللتها الحروب بانكساراتها وانتصاراتها.. وهل كان ذلك مؤثرا في ايقاع القصيدة؟ أما ماهدفت إليه دراسة الطوانسي هو إبراز الظواهر الفنية والجمالية في شعر أبي سنة ومحاولة لقراءة النص.. فالفرق واضح بين هدف الدراستين.. وماآلت إليه النتائج والاحصاءات. وأقول إن ما وصل إليه الأخ الطوانسي في دراسته لايقاع شعر أبي سنة لم يكن جديد ولا مبتكرة بل هو تكرار لما وصل إليه الكثيرون أمثال نازك الملائكة وعلي يونس وغيرهما.. فهل يمكننا القول بأن الطوانسي أخذ أفكارهم !؟.. لا يمكننا القول بذلك لكننا نقول إنه أكد علي تلك النتائج التي وصل إليها السابقون. وأخيرا فقد صدر لي نحو عشرين كتابا ما بين إبداع ودراسة وتحقيق.. أضمها جميعا في صفحة خاصة في نهاية كل كتاب يصدر لي.. وهي موجودة ومتاحة للقارئ المصري والعربي.. فليتفحصها الفاحصون ويتأملها المتأملون وأنا علي استعداد تام للرد علي أي فرية في أي زمان ومكان، وأراني أردد قول الفرزدق. أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا ما جمعتنا يا جرير المجامع وكذا قول المتنبي (وهو أيضاً ما اتهم بالأخذ من غيره) أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم وعلي الله قصد السبيل.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.