أقف وحيدا في مفترق طرق مترامية. يعكر الجو من حولي خسوف الشمس وكسوف القمر وضبابية الظلام. صفير العاصفة يتردد بعيداً ويقترب عاوياً راعداً مزمجراً من كل الجهات.. يكتسح كل الأشياء .. ركام العراك وعفرة الأصوات وقذارة الألسن ويدور. ويدور. ويدور! يصادم رأسي ويغزوه في وقاحة. الفوضي والبلطجة والفلول واللهو الخفي والشرعية والحزبية والمهلبية وسخام البرك.. و.. و.. و.. أقتلع الرأس وألقيه بطول الذراع.. يتقافز مذعورا ينط ويدور عائدا منزوعا بين الكتفين بعيون محمومة شاخصة. أستجمع قوتي وأجري وأجري وأجري.. ساقاي متحفزتان في سرعة رهيبة.. في سرعة مستميتة.. الأقدام تتسابق وتتخابط.. تتخاطف الخطوات وتنغرس في نفس المكان.. في نفس المكان.. لاتتحرك خطوة واحدة! أغمض العين وأسوخ مستسلما لأنياب العاصفة. لا مفر.. بالتأكيد لا مفر! لا توجد هناك بارقة أمل.. مجرد بارقة أمل. أسنه العاصفة تخرقني في حلزونية دوارة.. وأراني اتفسخ لشيئين منفصلين متواجهين. أنظر أنا إلي الأنا الآخر الذي أمامي.. أتفزع من هذا الكائن ولا أطيق رؤيته. أتراجع فارا من شكله فيلاحقني بيدين كبيرتين. يقبض علي رقبتي ويضغط.. يضغط ويعتصر.. مناديا بصوت أجوف مكتوم. أصرخ بكل قوتي مستغيثا متخبطاً أستجمع ذاتي وانتزعها فأهب مذعورا في فراشي ولهاثي! أنتبه لصوتها يناديني ويدها تحنو علي كتفي. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. إيه مالك ؟ أترك الفراش وأقوم إلي الحمام. يلاحقني صوتها مشفقا.. مالك..؟ أين تذهب؟! أواصل طريقي في صمت. يلتمع الضوء فأجد أنا الآخر علي زجاج المرآة، مترصدا في ترقب. من أنت ؟ تركتك هناك في قاع الكابوس! أجاهد لأ ستفيق وأنظر جيداً. مازال يرمقني في تحفز. أتجاهله وأضع رأسي تحت الماء البارد. صوت طشطشة ساخنة تسري تحت الجلد وتثقب النافوج. يمتص النافوخ سرسوب الماء متلذذا. يتخدر الرأس وينفصل عن الرقبة ويكاد يقع في الحوض! في طريق عودتي للفراش أتوقف عند الشرفة. تجذبني أصوات متطايرة تعبث بسكينة الليل. وأراهم يجلسون علي «كبود» إحدي العربات المتراكمة علي جانبي الشارع. يتشابكون ويتشاتمون ويدخنون ويعربدون بالأفواه والأيدي والبذاءات. من هؤلاء ومن أين جاءوا؟ وجوه غريبة لا تبدو من شباب المنطقة. أحدهم منهمك في تجريح «دوكو» العربة يسن سيف لامع. بينما يصخب ويتراقص في انسجام خرافي. والثاني يقطع بمطواته ويحشو السجاير ويوزع. والآخران يصارعان الهوس امام شاشة مضاءة صاخبة. يطلقان أعيرة صوتية ويهتفان في لوث. الشعب يريد تفشيخ النظام.. الشعب يريد تفشيخ النظام! العربة المغتصبة تشبه عربتي. هي عربتي بالفعل.. نفس اللون والماركة ومكان الركن1 كل أهل المنطقة يحترمونني ويحترمون عربتي. هذه الأشكال ليست من سكان المنطقة.. من أين جاءوا وكيف يجرؤون ! أتأهب للزعيق فيرتفع صوت الكاسيت علي آخره.. كاسيت عربتي أنا! كيف فتحوا الباب وشغلوا الكاسيت؟ وسرت الحمية في عروقي.. فالمسألة زادت عن حدها ووجب النزول والتصرف معهم. أنا أعرف كيف أربي هذه الأشكال.. ولكن ألا ينبغي أن أعدل الدماغ بنفسين أولا وبعدها انطلق. أشعل السيجارة وأتحفز للمواجهة.. لا يهمني سيوفهم ولا مطاويهم ولا فجورهم.. فمن هم؟ وكيف يجرؤون؟ ثم هم أولا وأخيرا في دور أولادي ولن ينفلت عيارهم في مواجهتي! وأمتص من السيجارة طعم الشياط يملأ حلقي. ماذا لو نزلت وأنهيت المسألة فوراً؟ أشد نفسا آخر بكل قوتي فيدور رأسي. وأجدني اندفع إليهم منفعلا.. أقترب في ثبات ثم أتوقف مترددا أنظر إليهم.. ما هذا؟.. أليس هم فلان ابن فلان وفلان ابن فلان أبناء الجيران؟ هم بعينهم.. بالتأكيد هم.. أعرفهم جيدا وأعرف أهاليهم. أناس محترمون بكل المقاييس.. نتبادل معهم العلاقات الطيبة. ولكن ماذا جري لوجوههم؟ كيف تعكرت هكذا وركبتها ملامح العفرتة والشيطنة..؟ ماذا جري لها بالضبط؟ أتتغير هكذا بين يوم وليلة؟ أحاول أن أتماسك ولا أنزلق للتهور. أقولها في ملاطفة ماذا تفعلون يا شباب ؟ أنتم يا شباب ماذا تفعلون عندكم؟ شيء غريب يحدث.. لا يعبئون لكلامي ولا لتواجدي! وكأنني لا شيء بالنسبة لهم. يا شباب.. أنتم يا شباب.. ياكباتن ألا تعرفونني؟ أنا فلان.. جاركم فلان. وهذه عربتي.. ألا تعرفونها أيضاً؟ وأري السيف يضوي مقتربا من رقبتي.. تخايله عيون ملتاثه تقدح شرراً.. تتصادم بوجهي في وقاحة. وأصيح فيهم.. ماذا جري ياشباب الثورة.. أنا معكم.. أنا معكم.. أنا معكم يمسكون أطرافي وينفضونني في عنف.. وتتسع أفواههم علي آخرها. الشعب يريد تفشيخ النظام.. الشعب يريد تفشيخ النظام! يلتصق وجهي بزجاج العربة وهم يضغطونه بقوة. الزجاج البارد يلوي أنفي ويزم فمي ويحطم وجهي. أري عظامه تتساقط بداخل العربة دامية مرتعشة. ماذا يحدث؟.. ولماذا.. ومن أنا؟ وأري البنت مكومة علي المقعد الخلفي. عيونا مصلوبة وعريا متهتكا وأنفساً متداعية؟ وأنين الشفاه يتماوت مبحوحا متخاطفا..! أكلوني.. أكلوني! أعرف هذه الملامح.. من هي؟! أليست هي؟ بالتأكيد هي بالفعل.. الملامح الطفولية الآسرة.. هي بعينها ابنة ضابط الشرطة جارنا. آخذها في صدري وأحنو عليها.. تنصهر في عواء مبحوح. أستمر نصل السيف يخترق صدري ويفور الدم متدفقاً أمامي علي أرضية العربة. وأراني محبوساً مع البنت في زنزانة العربة. وأري ضابط الشرطة جارنا واقفا عند آخر الشارع. يساعد جنوده في خلع ملابسهم وغسلها في ماء النيل. أزعق إلي من خلف زجاج العربة وألوح له بوجه ابنته لكي يراه.. يخلع ضابط الشرطة جارنا ملابسه ويقفز في النيل. يطفو ويغطس ويطفو ويغطس. تتخاطف أنفاس البنت في شهقات متلاحقة. أحاول مع الأبواب والزجاج والسقف فينقبض جوف العربة علينا ويعتصرنا. يعاود السيف اختراق صدري، وصدر البنت في طعنة واحدة فانتفض مذعورا من الألم وانتبه لعقب السيجارة يلسع أصابعي. ماذا يحدث بالضبط.؟ أتحسس صدري ووجههي في استطلاع. مازلت واقفا في الشرفة. ومازال الشباب هناك حول العربة. يتشابكون ويتشاتمون ويعربدون بالأفواه.. والأيدي والبذاءات.. لا أحد هناك عند آخر الشارع. أقول في نفسي لاداعي للنزول الآن. أسحب نفسي متجها إلي الفراش. هل أذهب إلي الفراش.؟ أم أذهب إلي الحمام؟ أم أذهب إلي الشرفة؟ وأتوقف في منتصف الصالة متجمداً..!