ألح في دعوتنا، وعاتبنا عن تأخرنا كل ذلك الوقت، فهو في انتظارنا مذ وصلنا كوالالمبور. فقمت وبعض زملائي بالتوجه لمطعمه مساءً، وجلسنا في حضرته. تناولنا طعام العشاء وازدردنا الأحاديث حول غزة وآرائنا بماليزيا مع كل لقمة دخلت أفواهنا، إلي أن بدأ يتحدث عن تجربته الماليزية. لحظتها توقف الزمن، وتوقفنا عن تناول الطعام، كأننا في حلم. كأنه يهذي أو يصطنع الحكايا. أو كأنه يقرأ جزءاً من ألف ليلة وليلة. فقررت أن أعود وحكايته معي في دفتري. قال والوجوم يلفنا: كانت غزة قد انقلبت رأساً علي عقب، واشتد الحصار في كل الربوع، ولا يوجد فرصة للعمل، فقررت السفر انطلاقاً نحو مشروع هجرة إلي أوروبا. وفعلت، عانيت ما لا يمكن تخيله حتي أدخل الأراضي المصرية، ثم انطلقت منها إلي أوكرانيا، حيث أمتلك إقامة للعيش هناك فزوجتي تحمل جنسية الدولة ذاتها، وقد كانت الاضطرابات قد وصلت أوكرانيا أيضاً، فأوقفوني في المطار وتم التعامل معي وزملائي كخطر قادم للغرب، رغم أن جميع الوثائق والإقامات رسمية، فأعادونا ثانية إلي القاهرة. وهناك احتجزونا بغرفة الترحيلات في المطار لمدة أسبوعين في انتظار فتح معبر رفح، والأوضاع تضطرم، والنزلاء يكثرون في غرفتنا، حتي جلس إلي جانبي ذات مرة عجوز وأثناء حديثنا سألني: لماذا لا تذهب إلي ماليزيا؟ فأجبته بأنني لا أمتلك فيزا لتلك الدولة، وكانت إجابة الرجل بأنه لا حاجة لذلك، حيث يسمح للفلسطينيين التوجه لماليزيا دون الفيزا. وحينها لم أتردد فطلبت من الشرطة أن تحجز لي أي طائرة متوجهة إلي كوالالمبور، ووصلت، وهناك مكثت عدة أيام متنقلاً بين الفنادق والمال ينفذ وينفذ، حتي التقيت ذلك الجزائري الذي ساعدني بالنزول في غرفة عند أحد الهنود بمبلغ زهيد، وكان قد قام بتسريح أحد موظفيه، فطلبت منه أن يبيعني عربة الفلافل التي يملكها، واشتريتها، وبدأت أتعلم وأسأل كيف أصنع الفلافل حتي نجحت فانتقلت لمكان أكبر وآخر أكبر إلي عمل أكثر ربحاً، وصار اسمي معروفاً في كوالالمبور كأحد أكبر المطاعم الفلسطينية، والحمد لله افتتحت قبل أيام مقراً جديداً في بوتراجايا. القصة تطول، وتفاصيلها كثيرة، لكنها حيوية، مدهشة، وأكثر ما أثارني فيها، أنه رغم كل المال الذي ورثه صاحبنا في غزة، قرر ألا يعيش في جلباب أبيه، فاستثمر اللحظة الصعبة وبحث عن ذاته في معترك الحياة ليصنع تجربة تستحق التقدير والاحترام. كاتب من فلسطين