العام الهجري الجديد.. فضائل شهر محرم وأسباب تسميته بهذا الاسم؟    وزير خارجية إيران يدين تصريحات ترامب تجاه خامنئي ويصفها بالمهينة    موعد مباراة بالميراس ضد بوتافوجو والقنوات الناقلة مباشر في كأس العالم للأندية    «عنده ميزة واحدة».. أول رد من الزمالك بشأن مفاوضات محمد شريف    فاجعة جديدة في المنوفية.. مصرع 3 من أسرة واحدة في حادث على كوبري قويسنا    استشهاد 11 فلسطينيا في قصف للاحتلال استهدف خيم النازحين بحى الرمال غربى غزة    رسميًا.. موعد صيام يوم عاشوراء 2025 وأفضل الأدعية المستحبة لمحو ذنوب عام كامل    دون فلتر.. طريقة تنقية مياه الشرب داخل المنزل    قانون العمل الجديد يصدر تنظيمات صارمة لأجهزة السلامة والصحة المهنية    رئيس الجمعية الطبية المصرية: دعم استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج    ستوري نجوم كرة القدم.. مناسبة لإمام عاشور.. تهنئة شيكابالا لعضو إدارة الزمالك.. رسائل لعبدالشافي    «ملوش علاقة بأداء الأهلي في كأس العالم للأندية».. إكرامي يكشف مفاجأة عن ريبيرو    عمرها 16 عاماً ووالديها منفصلين.. إحباط زواج قاصر في قنا    انتداب المعمل الجنائى لفحص حريق بمول شهير في العبور    أسماء أبو اليزيد: الضرب في «فات الميعاد» مش حقيقي    استمرار تدريبات خطة النشاط الصيفي بمراكز الشباب في سيناء    واشنطن تؤكد لمجلس الأمن: استهدفنا قدرات إيران النووية دفاعًا عن النفس    أحمد كريمة ينفعل بسبب روبوت يقوم بالحمل ورعاية الطفل خلال ال9 أشهر| فيديو    الخارجية الأردنية تعزى مصر فى ضحايا حادث التصادم فى المنوفية    جامعة الازهر تشارك في المؤتمر الطبي الأفريقي Africa Health ExCon 2025    عراقجي: إسرائيل اضطرت للجوء إلى الولايات المتحدة لتجنب قصفنا الصاروخي    جيش الاحتلال يصيب 4 فلسطينيين بالضفة    ترامب: من الممكن التوصل إلى وقف لإطلاق النار بغزة خلال أسبوع    شيخ الأزهر ينعى فتيات قرية كفر السنابسة بالمنوفية ضحايا حادث الطريق الإقليمي    حسام الغمري: «الاختيار» حطم صورة الإخوان أمام العالم (فيديو)    طفرة فى منظومة التعليم العالى خلال 11 عامًا    أسعار الفراخ البيضاء والبلدى وكرتونة البيض في الأسواق اليوم السبت 28 يونيو 2025    أسعار الذهب اليوم وعيار 21 الآن عقب آخر تراجع ببداية تعاملات السبت 28 يونيو 2025    عبداللطيف: الزمالك يحتاج إلى التدعيم في هذه المراكز    عمرو أديب: الهلال السعودي شرَّف العرب بمونديال الأندية حقا وصدقا    نجم الزمالك السابق: الأهلي يرفع سقف طموحات الأندية المصرية    رافينيا يوجه رسالة إلى ويليامز بعد اقترابه من الانضمام إلى برشلونة    فصل الكهرباء عن قرية العلامية بكفر الشيخ وتوابعها اليوم لصيانة المُغذى    تريلات وقلابات الموت.. لماذا ندفع ثمن جشع سماسرة النقل الثقيل؟!    التعليم تكشف تفاصيل جديدة بشأن امتحان الفيزياء بالثانوية العامة    مقتل شاب على يد ابن عمه بسبب الميراث    شيماء طالبة بالهندسة.. خرجت لتدبير مصروف دراستها فعادت جثة على الطريق الإقليمي    حزب الجبهة يقدّم 100 ألف جنيه لأسرة كل متوفى و50 ألفا لكل مصاب بحادث المنوفية    استمرار الأجواء الحارة والرطبة.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم والشبورة صباحًا    مصرع صياد وابنه غرقا في نهر النيل بالمنيا    «الزراعة»: ملتزمون بالتعاون مع إفريقيا وأوروبا لبناء سلاسل أكثر كفاءة    هدير.. طالبة التمريض التي ودّعت حلمها على الطريق الإقليمي    عماد الدين حسين: إيران وحدها من تملك الحقيقة الكاملة بشأن ضرب المنشآت النووية    عمرو أديب عن حادث المنوفية: «فقدوا أرواحهم بسبب 130 جنيه يا جدعان» (فيديو)    ستجد نفسك في قلب الأحداث.. توقعات برج الجدي اليوم 28 يونيو    الصحف المصرية: قانون الإيجار القديم يصل إلى محطته الأخيرة أمام «النواب»    لحظة إيثار النفس    «زي النهارده».. وفاة الشاعر محمد عفيفي مطر 28 يونيو 2010    مصر تفوز بعضوية مجلس الإدارة ولجنة إدارة المواصفات بالمنظمة الأفريقية للتقييس ARSO    مدارس البترول 2025 بعد الإعدادية.. المصروفات والشروط والأوراق المطلوبة    برئاسة خالد فهمي.. «الجبهة الوطنية» يعلن تشكيل أمانة البيئة والتنمية المستدامة    لماذا صامه النبي؟.. تعرف على قصة يوم عاشوراء    بعنوان "الحكمة تنادي".. تنظيم لقاء للمرأة في التعليم اللاهوتي 8 يوليو المقبل    أمانة الحماية الاجتماعية ب«الجبهة الوطنية»: خطة شاملة بأفكار لتعزيز العدالة الاجتماعية والتمكين الاقتصادي    فنانة شهيرة تصاب ب انقطاع في شبكية العين.. أعراض وأسباب مرض قد ينتهي ب العمى    اعرف فوائد الكركم وطرق إضافتة إلي الطعام    15 نقطة تبرع وماراثون توعوي.. مطروح تحتفل باليوم العالمي للتبرع بالدم بشعار تبرعك يساوي حياة    ماذا نقول عند قول المؤذن في أذان الفجر: «الصلاة خير من النوم»؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معاناة الشعر وأشواقه في »معراج لسماء تحترق«
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 04 - 2013

»معراج لسماء تحترق«، هو الديوان الأول للشاعرة تقي المرسي والصادر عن دار سندباد للنشر والإعلام ويقع في حوالي تسعين صفحة من القطع المتوسط، وأول ما يلفت النظر إليه في هيئته ومحتوياته الخارجية، هو تلك المنتجات النصية التي تقدم للديوان وتمهد لتجربته الشعرية، وتعكس في تقديمها ما حظي به الديوان من مخطط ذهني وشعوري، يترجم جهدا ملموسا في الترتيب والتنسيق مع حسن تنضيد للقصائد وما تندرج تحته من عناوين جانبية. وكل هذا يقدم لنا منتجات نصية هي جزء لا يتجزأ من النص الكلي، وهذه المنتجات تتكون من : غلاف، عنوان، إهداء، مفتتحين، وتفصيلها علي النحو التالي :
ويغلبُ عليه اللونان الأصفر والأخضر، يتصدر منتصفه جسم فتاة ترتدي ثوبا شفافا، ورأس الفتاة بملامحها لا تظهر، بل تغطيها ألسنة النيران تماما وتمتد هذه الألسنة إلي منتصف الجسد، وأمام جسد الفتاة الذي يحترق تبدو حواليها أجساد أخري تحتويها النيران ولون النيران ليس الأحمر المعهود ولكنه أصفر داكن .
العنوان : (معراج لسماء تحترق)
الإهداء : وتهديه الشاعرة إلي : قناديل الروح .. رفيق العمر .. حبات الفؤاد والملاحظ في الإهداء أن التقدير والاحتفاء فيه، يجمع بين الروحي المعنوي (قناديل الروح)، والمادي الحميم (حبات القلب)، والاثنان هما أجمل ما في الكائن الإنساني الحي . وأزعم أن تأخير جملة رفيق العمر- يجعل الإهداء أكثر تشويقا للقارئ والمتلقي .
المفتتحان : الأول، تقول فيه: أسميَك شدو الرباب الحزين وبوح القرنفل والياسمين أسميك طلا ونخلا وظلا يجوب الفيافي كنهري حنين أسميك وردا وشجوا ووجدا نسبت مجازا لماء وطين 1 والمفتتح يفيض عذوبة ورقة وعطرا، وكأنه سلسال ينساب بردا وخيرا وسلاما، وبغض النظر عمن تهدي إليه الشاعرة الديوان، فإن وصف شدو الرباب بالحزين، غير موفق وسط هذا الأفق العذب البهيج .
أما المفتتح الآخر، فتقول فيه : حين يكون الحزن كثيفا أفتح بابا في عتمة عينيك فأري مدنا... وسقوفا ودعها الأزرق شجرا مسلوب الخضرة وطنا يزحف في ثوب القهر وأنا طائر... لا يعرف إلا الهجرة ! 1 وربما يهيئ لنا من معطيات البنية السطحية للمفتتح، أن دلالته قد تكون في حالة مقابلة مع مشاعر البهجة والجمال في المفتتح الأول، إلا أن بنيته العميقة وبقليل من التأمل تؤكد مشاعر التلاحم والتعاطف والحميمية مع المهدي إليه، في كل ظروفه وتقلبات أحواله.
محاولة للولوج
وعودة إلي عنوان الديوان ومع دلالاته المعُجمية واللغوية (معراج لسماء تحترق) . جاء في المعجم الوجيز في مادة (عرج) : ( عرج) في السًُلم وعليه عروجا : ارتفع وعلا، و(المعراج) المصعد والسلم وأيضا ما عَرجَ عليه النبي صلي الله عليه وسلم ليلة الإسراء، و(العروج) مصدر (عرج) والمعراج (اسم آلة) علي وزن مفعال وهو الأداة التي يُعرج عليها . (لسماء)، (السماءُ)، ما يقابل الأرض، وكل ما علاك وأظلك والجمع : سماءات وسماوات. (تحترق) : جاء في مختار الصحاح في مادة (حَرق)، ( الحَرَق) : بفتحتين، النار، وهو أيضا (احتراق) و (أحرقة ) بالنار و(حرقه) تشديد للكثرة و (تحرّق ) الشئ بالنار (احترق ) والاسم منه ( الحرُقة) و( الحريق) .
ويُلاحظ في العنوان ما حُمٌل به من دلالة العلو والسمو المتصلة بمادتي (عرج) و(سمو)، ثم دلالة أخري مغايرة لطبيعة غايات السمو وهي : الحرق، والحريق، والاحتراق، وهو ما يعني توظيف الدلالة التراثية لحادث الإسراء والمعراج، وذلك بنقلها من إطارها الديني والروحي العام إلي حدود التجربة الذاتية، فهو إذن عروج ومعراج من نوع خاص يتصل بطبيعة التجربة وذاتيتها .
وملاحظة أخري
وهي أن العنوان، وهو المؤشر الإعلامي للنص الكلي، مركب من جملة اسمية تتكون من : خبر نكرة لمبتدأ محذوف . يليه جار ومجرور نكرة وهما ( موصوف ) ثم جملة فعلية ( صفة ) في محل جر، وإن جاز لنا أن نؤول للمبتدأ المحذوف، لقلنا : »هذا معراجُُ لسماء تحترق« واسم الإشارة يفيد الحضور والمثول، وحذفه إنما كان لحضوره هذا ومثوله المعلوم، وهو يعود علي التجربة / الديوان، وكأني بالشاعرة تقول : تجربتي معراج لسماء تحترق، أو ديواني معراج لسماء تحترق، أو شعري معراج لسماء تحترق . أي أنها وبداية بعتبات الديوان الأول، تلج بنا تخوم التجربة / الديوان ونحن نتهيأ ونستعد، فالعروج والترقي ليس بالأمر الهين اليسير، وإنما هو أمر ذو شأن عسير والمتطلب لرياضات شاقة، خاصة إذا كان عروجا غايته الاحتراق . وتوضيحا للأمر، فإن الاحتراق إنما هو احتراق مجازي يتعلق بالنفسي والمعنوي .
بعد هذه التهيئة، نكون قراء ومتلقين، إزاء ميدان عمليات العروج، وهو ميدان تؤلفه ست وعشرون قصيدة، ثم قصيدة أخيرة، السابعة والعشرون وجاءت »خاتمة« ومشهدا أخيرا بعد عمليات العروج والاحتراق . وقد نضدت الشاعرة القصائد الخمس الأولي تحت عنوان »طقوس ما قبل الاحتراق« ، أما بقية القصائد والبالغة إحدي وعشرون، فقد نضدتها تحت عنوان »طقوس الاحتراق« وهو نوع من التنظيم والتصنيف المرحلي من جهة، وينطوي من جهة أخري علي إيحاءات وأجواء من القدسية ؛ إذ أننا بصدد الولوج إلي ساحة الشعر (وفق تأويلنا لعنوان الديوان)، والساحة هنا يثري قدسيتها كونها للعروج والترقي . والدخول إليها ليس بالدخول المجاني العشوائي وإنما هو دخول في حاجة إلي إجراءات وطقوس، وهي أشبه بطقوس يمارسها الناسك الداخل إلي معبده .
إن ساحة الشعر وحرمته لهي من ساحات الخلود، وإن مركب الشعر لصعب، وإن مرتقاه لعسير، ووجب أن يكون تلقيه علي درجة من التهيؤ والحضور، تتناسب مع ما في تعاطيه وإبداعه، من احتراق ومعاناة وما في صياغاته، من مكابدات تراكيب ومجازا وإيقاعات.
3- إجراءات و »طقوس ما قبل الاحتراق« :
وقصائد هذا القسم الأول وضعت الشاعرة لها عنوانا جانبيا تصنيفيا وهو »نثريات« وذلك بالرغم من شعرية قصائده البادية وتراكيبه الصوتية الواضحة . فهل ثمة علاقة بين موضوع القصائد العام »طقوس ما قبل الاحتراق« ونوعية قالبها الشعري الذي ارتضته الشاعرة بوصفة »نثريات«؟ .
إن قسم الطقوس يضم القصائد الآتية : اختزال، قطاف الشجن، ومضات، ملتقي الحزنين، رحيل المرايا وقد أشرنا إلي أن ممارسة الطقوس ومزاولة التهيؤ، إنما هي مرحلة ما قبل الاحتراق والمكابدة، وبالتالي لا تصل في انصهارها ومعاناتها إلي مستوي مرحلة »الاحتراق« نفسها لا كما ولا كيفا، وبالتالي فقد اقتصرت علي هذه القصائد النثرية الخمس، في حين أن قصائد القسم الثاني أشد معاناة وأطول امتدادا وبذلك نفسر كثرتها وارتقاء شعريتها المنصهرة بالمعاناة . وإن ما يؤيد محدودية مرحلة ما قبل الاحتراق، دلالات عناوينها الداخلية فهي ( اختزال، ومضات، مرايا الرحيل، حزنان )، وإنها دلالات أكثر سرعة وأقل معاناة .
وتأتي قصيدة »اختزال« لحثا مكثفا مختزلا لفضاء واسع من الحزن . تقول الشاعر في مقطع القصيدة الأول : رحلة الفقد ما زالت تحتوي سفني أعبرها من الوريد إلي الوريد وأعلق أمنيتي في أعلي النبض تتصاعد أنواء الهزيمة والتخاذل فأتسلق أشرعة الوهم 1 إن الشاعرة تمارس طقوس ما قبل الاحتراق في سفن احتواها الفقد وسط أنواء من الخيبة والهزيمة، وإذا حاولت أن تنجو من الأنواء وتسلقت الأشرعة، فلن تجد إلا الوهم والخداع . وهكذا تتوالي الألفاظ ونتاج التراكيب في حقول من الألم والخوف والوجع الذي لا يشفيه »الصبر والملح«، وتتضافر التشبيهات والصور الاستعارية معمقة لتلك الحقول، محلقة بها في فضاء الحزن ؛ فللبحر »طقوس« من الرهبة والخوف و«الخيانات أسواط تجلد الذاكرة« وزمننا »زمن المنذورين للوجع و الانكسار«، وتأتي لفظه »المنذورين« موفقة في تعميق حالة المعاناة والألم، فوجعنا ليس مؤقتا أو مرحليا و إنما كأنه نذر مكتوب وقدر مصاحب .
أما قصيدة »قطاف الشجن« فتأتي في شكل أربع دفعات
شعرية مرقمة هي : شباك، نهر الخوف، صوت، أمل . والشباك مفتوح في انتظار أمل لا يأتي، أما دفقة »نهر الخوف« فهي أشد وطأة وأثقل حملا . فالوطن ناء وضفافه تتشقق قهرا، والحزن مغروس في جذوع النخل، واختصارا فالوطن» نرتديه قيظا وخريفا وموتا عميقا «. أما مقطوعات قصيدة »ومضات« وهي خمس، فإنها تومُض بين بريقين ؛ بريقُ الألم وهو أكثر حضورا وبريق الأمل وهو أقل التماعا، ويبقي الليل وصوتك يُشعلان وحدتي بانتظارك فأسُمًيك حلما ... وأغفو!!! أما القصيدة الرابعة »ملتقي الحزنين« فيبدو عنواُنها مستوح باستلهام أثرين ؛ أولهما : أثر قرآني وهو قوله تعالي« حتي أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ، والثاني : أثر بيئي من وحي منطقة »اللسان«في رأس البر، حيث تنتمي الشاعرة لمحافظة دمياط . وهي إذ تبحر وسط أمواج من أحزان الوطن وآلامه، تأتي مشاعرها هذه، لتصيغ ملامح عالمها الوجداني الذي يحيل مُلتقي البحر والنهر إلي مكان للحزن والوجع . تقول القصيدة :
في ملتقي البحر والنهر
يدورُ الحزنُ يزرع شوك المنافي
نسلا في جذوع الراحلين
وتتوالي مفردات »معجم البحر« في القصيدة وقد وظفتها الشاعرة لإتمام مشهد الألم والمعاناة بإطاره المحزن، فالهم »يمشط جدائل الموج« و«الغيمات تشتعل، والوجع مسافر »والوطن« هاجرته المواسموالأغنيات سُرقت من »فم الريح« وصوت الصغار »انطفأت نجماته«، وأخيرا، »ليس في الأفق مرسي ولا منتهي«.
ثم تأتي ثلاثة أسطر من الفراغات الكتابية التي تمتدد معها حالة المجهول والعدم، بل حالةٌ التيه والضباب .
وفي تراكيب القصيدة صور وتعبيرات، تتألق بالجدة وحضور الإيحاء مثل قول الشاعرة :
مَن أغمض الشمس وأطفأ النجمات في صوت الصغار
أو التعبير الاستعاري التشخيصي الممتد في قولها :
«يدور الحزن يزرع شوك المنافي يمشط بالهم جدائل الموج«
وتعلن قصيدة »رحيل المرايا« عن انتهاء طقوس ما قبل الاحتراق، وتأتي القصيدةٌ مٌشبعة بروح درامية متنامية، ومما يزيدها وقعا وتأثيرا، خاتمتها المٌسدلة علي مشهد حزين. فالمرايا التي كانت تحيط بالشاعرة وتتوقع أن تري فيها جمالها وبريق فتنتها، ياللعجب، تهشمت! : وخبت الجميلة ٌ بين الحطام! وهناك وجدت كل المرايا في ذبول تسعي للرحيل تهالكت في القلب غصة ودعتها لم تعد المرايا ترضيني !!
4- »طقوس الاحتراق «:
وتفتتح الشاعرة قصائد هذا القسم بقصيدة »أرمم وجه النهار«، وتبدو الشاعرة في القصيدة في مشهد وصفت نفسها فيه بأنها »قد علقتها غيمة للغياب«علي شٌرفة »غافلتها العيون »علي مدخل مدن واهنة، وقد سكنها »نهر حزن«. وهنا ومع مثل هذا المشهد المشعر بالخواء والخراب، تتحرق أشواقها تنشد بصيصا من أمل، وتهفو روحها الظمأي لقطرة تبلل قيظ الروح، لذا تتوالي الأساليب الإنشائية في آخر القصيدة، ملحة بغرض التمني والرجاء :
فهل للبلاد طقوسٌ ترممٌ وجه النهار
تبلل أرواحنا اللينة ؟
وتمسح دمعتنا المزمنة !
وهل للجداول أن تستعيد اخضرارا مضي ... في ذبول ...
طوته رحي قسوة خائنة لعل الفصول التي أخطأتنا تعود بأحلامنا الممكنة !
تعود بأحلامنا الآمنة !
وإذا كانت مفردات الشاعرة وتراكيبها قد نجحت في كثير من قصائد الديوان ووفقت في التعبير عن حالة تواصلها مع المتلقي، إلا أننا نلاحظ في المقطع السابق بعض المواضع كانت في حاجة إلي المزيد من الدقة، مثل قولها »تبلل أرواحنا اللينة«، والمفترض أن لفظة »تبلل«، تؤدي وظيفتها الدلالية بمزيد من الفاعلية إذا جاءت في سياق مقابل من المعاني كالظمأ مثلا أو العطش أو الصدي، أما »اللينة« فلا تحقق هذه الفاعلية . وفي قولها »تمسح دمعتنا المزمنة »كان الأوفق في هذا السياق، أن تستخدم صيغة الجمع وذلك تعبيرا عن الغزارة والكثرة، فتقول »دموعنا«أو »أدمعنا«. أما قولها »طوته رحي قسوة خائنة«، فلفظ خائنة قد تبدو ظلالها هنا غير ملائمة للرحي وقسوتها وكان يمكن أن يوافقها لفظ »الطاحنة«. وتختتم الشاعرة القصيدة بتكرار لتمن، يفيد التوكيد في قولها :
تعود بأحلامنا الممكنة ! تعود بأحلامنا الآمنة ! 1
ووصف »الأحلام «في السطر المكرر بقولها »الآمنة «قد لا يضيف جديدا للأحلام، وربما كان تكرار السطر بنفس ألفاظه أوفق وأجدي وذلك للتأكيد علي إمكانية تحقيق الأحلام . ضف إلي ذلك أن ثمة إحساسا قد يخالج وجدان المتلقي بأن لفظ الآمنة مجلوب لمجرد الإيقاع .
وفي قصيدتي »حكايا الحريق«و »لماذا ... ؟ «، تجسد الشاعرة وطنها »أما«في الأولي و«حبيبا »في الثانية، وهي تسأله وقد احتواها الألم كما احتوت النيران جسد فتاة الغلاف ... تقول :
سألتُ وأنت احتراق السؤال
وأنت الشديدُ البعيدُ المنال
وأنت السحيقُ ...................
........ لماذا ... ؟ لماذا ...
أنادي أصمٌ فشاب ندائي
ولا رد
- يا سيد الصمت آت
وتأكيد أداة الاستفهام »لماذا «بالتكرار، يضاعف مشاعر المرارة والخيبة المُحبطة التي ينوء بها القلب ويكتوي بها الوجدان، كما أن الجملة الاعتراضية يا سيد الصمت أدت دورا موفقا مُثريا ومعمقا للحالة الشعورية .
وتتوالي قصائد الاحتراق هذا الاحتراق الأليم الذي كانت مصدره، عذاب الوطن وكانت جمرات شرره ونيرانه، متقدة من معاناته وشقائه .
وتتردد معاني الحريق ودلالات الإحراق ومشتقاتهما وما يتصل بهذه المادة من مشتقات ونواتج أكثر من ثلاثين مرة، فتحن في »طقوس الاحتراق «بإزاء : جمرة، جمر، جمار، جمرات، حرائق، احتراق، إحراق، نار قيظ، وقدة، لهيب وهج رماد ... إلخ، مما يؤكد تعدد وتنوع صور شقاء الوطن ومشاهد آلامه وانعكاس ذلك علي الذات الشاعرة، إلا أن الذات الشاعرة تبدو أقل صمودا وتجلدا، فهذه الابتلاءات وتلك المحن تتطلب المزيد من التحمل والصلابة والعناد، وكان مفترضا أن تتجاوز بموقفها الشعري موقف الإدانة والشكوي وتتعداه إلي الرفض والمقاومة، فالوطن في أشد الحاجة إلي الحفز وإعادة الروح .
وإذا كانت الحقول اللغوية لمادتي »الأمل«و »الحلم«قد ترددت كثيرا فإنها تأتي في إطار التمنيوليست في مجال الرفض والإصرار . إن حالة الإحباط والشعور العميق بخيبة الأمل كانت كبيرة وبدا ظلام اليأس مهيمنا، حاضرا . ويتم إحصاء أكثر من ستة وأربعين موضعا تعبر عن التشوق أملا والانعتاق تطلعا، تعبر عنها مفردات مثل : السماء، القمر، النور، الروح، الطيف، الظل، الندي، النخل، القمام، النهر، الوصال، الشجر، المطر، الصبح ... إلخ، مما يعبر عن أشواق عارمة وفي نفس الوقت سيطرة شعور بالعجز عن الفعل والحركة في وطن وصفته الشاعرة بأنه ( سيد الصمت) .
وننتقل من القصائد المكتواة بلظي نيران الوطن إلي قصائد وجدانية ذاتية تدور في إطار تجارب الذات الشاعرة وعواطفها، مثل : حنين، قدر، يلومون شعري، الليل وطيفك، عشرون عاما، أنشودة الوجع، وتختتم هذه القصائد بالقصيدة الأخيرة »خاتمة »لتكون ستارا يسُدل علي مشاهد الألم والوحدة والفقد، سواء علي مستوي تداعيات هموم الوطن أو علي مستوي دوائر الذاتية الخاصة وفي هذه الخاتمة تقول :
في العام الماضي كنا اثنين
وكان لنا ظل واحد في هذا العام صرت
وحيدا
تتبعني بقايا ظلين
وتوزيع الشاعرة حروف لفظ »وحيدا« في خط رأسي، ما يعني امتداد هذه الوحدة وقسوتها، ومثل هذا الشكل الطباعي للأحرف، رأيناه في القصيدة قبلها بعنوان »أنشودة الوجع«، وتكررت هذه الظاهرة أيضا في قصيدة »جمر السؤال«و«في شرق الليل »ويكاد يكون الموقف الشعري في هذه المجموعة من القصائد الذاتية الخالصة موقفا رومانسيا أسيفا مفعما بحزن تنشره إيحاءات الألفاظ وأجواء القصائد الدامعة فنجد ألفاظ مثل : بؤسي - أدماني مأتمي ... إلخ، ويتصل بهذه التوجه الرومانسي كثرة تشخيصات الشاعرة للطبيعة ومفرداتها وتوظيف هذه المفردات، تعميقا للمعطي الوجداني وترسيخا لأجوائه الحزينة . وتبدو الشاعرة عبر رحلة قصائدها في الديوان واعية بتراثها الشعري قديمة وجديدة، وذلك باستدعاء مقولات شعرية شهيرة، ضمنتها بعض قصائد أو انطوت علي معانيها بغية تأكيد حضور الفكرة وتكثيف العاطفة، مثل قولها :
رويدك لا يخدعنك ابتسامي ...
فتحت الرماد، لهيب تباكي
وفيه تأثر بقول أبي القاسم الشابي :
حذاري فتحت الرماد اللهيب
ومن يبذر الشوك يجن الجراح
ومثل معارضتها لقصيدة الحصر القيرواني »يا ليل الصب . متي غده ؟ »بقصيدتها »الليل وطيفك «وفيها تقول :
الليلُ وطيفٌك أنشده
ياليت الليلة موعدُه
ما بال الفكر يمانعُني
والجفن يطول تسهده
وفي موضع آخر تقول الشاعرة :
لا تعذلوا الطير الحزين بشدوه
إن جاء رقصا ساحة الإعدام
وفيه متأثرة بقول الشاعر:
لا تحسبن رقصي بينكم طربا
كالطير يرقص مذبوحا من الألم وأخيرا، فقد طبع الحس الرومانسي الشفيف، لغة الشاعرة فجاءت الألفاظ كسائر معجم الرومانسية سهلة، عذبه، شفيفة، وأحيانا محلقة . وتراكيب الشاعرة وعلاقات ألفاظها النحوية تنبئ عن حساسية واهتمام بسلامة اللغة، وبالرغم من كون هذا الديوان هو التجربة الطباعية الأولي للشاعرة المتواجدة بحضور في العديد من المواقع الإلكترونية الأدبية، إلا أنها تجربة تنبئ وتعلن عن صوت واعد ننتظر منه المزيد من الإيقاعات الجميلة والشدو البديع تقدمه بلغتها الشعرية الموحية ومجازاتها ذات الجدة والطرافة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.