ولأن الأدائية مصطلح جديد،أود أن أتحدث قليلاً عن كيف تبلور هذا التعبير وما هي مقاصدي عندما فكرت بالمفردة.هذا ما يصرح به راؤول إيشلمان(الفيلسوف والناقد الأدبي والمُنظِّر الثقافي الألماني ذ أمريكي) في مقدمته لكتابه (نهاية ما بعد الحداثة:مقالات في الأدائية.. تطبيقات في السرد والسينما والفن)،والذي صدر مؤخراً عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر وأنجزت ترجمته المترجمة والباحثة الفلسطينية أماني أبو رحمة.بداية لا يصلح الكتاب للمتلقي العادي لما به من موضوعات متخصصة ومتعمقة في حقل الحداثة وما بعدها وفي البنيوية وما يتعلق بها.يري إيشلمان أن ما بعد الحداثة ترتبط بشكل وثيق جداً مع ما بعد البنيوية،وهذا يعني ارتباطها بكتابات المفكرين الفرنسيين اللامعين:لاكان..دريدا..فوكو.. دولوز..ليوتارد،وأتباعهم.كذلك يري أن نظريات ما بعد البنيوية معقدة للغاية،بل إنها تتناقض مع بعضها البعض في الحجج الفردية في كثير من الأحيان،غير أنها تشترك جميعاً في الافتراض نفسه عن الإشارات والأشياء.ويبسط إيشلمان هذا فيقول إن الافتراض هو أنه لا توجد علاقة طبيعية موحدة بين الأشياء والعلامات.هذا ويضيف إيشلمان أن نظرية ما بعد البنيوية أظهرت أن جميع المفاهيم التقليدية عن العلامة الموحدة هي محض أوهام تعتمد في نهاية المطاف علي علاقات القوة المدرجة في اللغة. فعل التجاوز مثلما يفترض غانس أن السلوك الإنساني قبل اللغة يستند علي التقليد والمحاكاة،فاللغة هي التي تفصل الإنسان عن الحيوان.وعن الأداء يقول إيشلمان إنه يشير إلي فعل التجاوز الذي هو في لب جميع التراكيب السردية بعد ما بعد الحداثية وفعل التجاوز يأخذ بالضرورة شكل الحدث أو الواقعة المدهشة،كما أنه يؤكد حقيقة أن هذه الأفعال التجاوزية تتجلي لنا من خلال أداء performan وهذا الجانب الأدائي هو الذي نتذكره ونقلده لاحقاً.هذا ويقول إيشلمان بعد أن يذكر قصة ظهور مصطلح الأدائية إنه يستطيع أن يَدَّعي وبكل فخر أن الأدائية قد حققت انتصاراً في اقتحام الدراسات الأدبية والثقافية منذ أن قدمها لأول مرة في العام 2000.لكن وعلي الرغم من وجود وعي عام أن الأمور تتغير في الثقافة وأن تقانات ما بعد الحداثة أصبحت مستنفدة ومرهقة ومتوقعة إلا أن الاهتمام الرسمي بمعالجة مواضيع الحقبة الجديدة التي ستحل محل ما بعد الحداثة،أو تحديد نظرية جديدة تحل محل ما بعد البنيوية كان ضئيلاً للغاية.ووفقما يري إيشلمان فإن السرديات الأدائية ذ بسبب موقفها الدوغمائي ذ تشكيلات معينة شاذة تقف ضد خلفية من تقانات الحكي ما بعد الحداثي والتقليدي.وأحد أكثر هذه الأدوات إثارة للفضول هو عملية سرد الشخص الأول / المؤلف وهي الأداة المستحيلة التي تسلح السارد بسلطات مشابهة للمؤلف الكليِّ العلمِ والسلطةِ الذي يفرض وجهة نظره التأليفية علينا بالقوة وبطريقة عادة ما تكون دائرية أو قسرية.وعن الزمن والتاريخ الأدائي يقول إيشلمان إن معظم المتخصصين والنقاد اليوم يتقبلون بسهولة فكرة أن الكتابة وصناعة الأفلام والفن والهندسة المعمارية تختلف اليوم عما كانت عليه سابقاً.كذلك يري إيشلمان أننا نعيش في عصر يسوده تشكيك عالٍ حول إمكانية حدوث تغيير تاريخي. سارد الحكي ورغم أن هناك شعوراً طاغياً بأن مفارقة ما بعد الحداثة قد غادرت الساحة وأن نظرية ما بعد البنيوية قد استنفدت مداها،إلا أن هناك اهتماماً ضئيلاً إن لم يكن غائباً تماماً بشأن ما إذا كانت الثقافة الحالية قد تتحول نحو صيغة جمالية جديدة وإن كانت غير محددة الملامح تحتاج إلي معالجة نظرية مغايرة بالكلية.كذلك يري إيشلمان أن نقاد ما بعد البنيوية البارزين مثل الأمريكي والتر بن مايكز والألماني بوريس غرويس لم يبذلا أية محاولة لرسم معالم الثقافة بعد نهاية ما بعد التاريخ.وفي هذا الاتجاه يكمل إيشلمان فيقول إن القاريء ما بعد الحداثي يأمل من سارد الحكي الأول أن يتفكك بسخرية مفارقة في سياق القصة ولكن أمله يذهب أدراج الرياح،إذ أن ما يحدث بمصطلحات علم السرد هو العكس تماماً:يكتسب سارد الحكي الأول خصائص المؤلف.هذا وأفضل طريقة لوصف التحول من بعد ما بعد الحداثة إلي الأدائية هي البدء مع مفهوم الإطار،الأقرب إلي مفهوم عالم الاجتماع الأمريكي ايرفنج غوفمان منه إلي مفهوم دريدا.أما في السينما فيحاول الفن الأدائي تأطير وخلق مَشَاهد أو هياكل يتماهي فيها المُشاهدين أو الشخصيات الطرفية مع الخبرة المركزية التي غالباً ما تتضمن تضحية من نوع ما. الواحدية الجديدة وكذلك يري أن الخروج من مما بعد الحداثة لن يحدث بواسطة تكثيف البحث عن المعني من خلال إدراج أشكال جديدة مدهشة أو من خلال العودة إلي منبع الأصالة،بل لابد وأن نسلك آلية منيعة تماماً ومستعصية علي نموذج التشظي والتفكيك والتضخم ما بعد الحداثي.هذه الآلية التي بدأنا نشعر بها مع القوة المتزايدة للأحداث الثقافية في السنوات القليلة الماضية،يمكن أن نفهم علي نحو أفضل بتوظيف فكرة الأداء أو الإنجاز.ويختتم إيشلمان كتابه هذا الذي أن يحتاج من قارئه أن يظل منبهاً تماماً حتي لا يشعر بعدم فهم ما يقرأ،قائلاً:الأدائية في الفن ليست حركة أو أسلوب برنامجي أو موقف أخلاقي.وهي لا تستمد شرعيتها من كون الحداثة سيئة أو غير أخلاقية أو تعسفية.لكن الأدائية تحدد تحولاً إيجابياً إلي الواحدية في كافة الوسائط المختلفة وفي الأعمال الفنية التي لا تمتلك فيما عدا ذلك أي شيء مشترك في الموضوع أو الثيمة أو التقنية.وما هو مطلوب الآن وتحديداً كما يقول إيشلمان ذ في عالم النقد الفني هو الخلط الغريب بين الفضائل النتشوية (نسبة إلي نيتشة) والوولفينية (نسبة إلي هنريش وولفلين):القدرة علي التفكير في الثنائيات التاريخية والمصيرية والشُّجاعة في مواجهة أنماط الخطاب المألوف واقتحام الشارع مرة أخري بواحدية جديدة.