قرأت أخيراً السيرة الذاتية للدكتور محمود إسماعيل (جلال الأنا والآخر) باستمتاع لاشك فيه، وهذا الاستمتاع له مبرراته المتعددة بدون جدال.. و(الاستمتاع) بالمناسبة لا يعني أنك توافق الكاتب في كل ما ذهب إليه موافقة تامة.. أو أنه ليس لديك تحفظات قليلة أو كثيرة، كبيرة أو صغيرة، علي منهجه وطرائقه وأسلوبه في كتابة سيرته.. إلي غير ذلك. ولكن يبقي الاستمتاع برغم كل ذلك، قائماً ومائلاً بقوة أثناء فعل القراءة.. وفي بحثي المبدئي عن أسباب هذا الاستمتاع، برغم كل تحفظاتي، لم أجد سبباً أقوي من هذا الصدق اللافت الذي كتبت به هذه السطور.. والعاطفية الظاهرة بقوة، ليس بأي معني مبتذل أو سطحي، وإنما (العاطفية) هنا.. بمعني هذا الفيض من الحب وتلك الطاقة الهائلة علي العطاء للآخر، والذي هو لدهشتنا برغم العنوان الخادع بفردية هذا الآخر (جدل الأنا والآخر).. إلا أن رحلتنا مع السيرة تجعلنا نتأكد أن هذا الآخر هو باستمرار (الجماعة).. الجماعة/ الأهل، الجماعة/ الطلاب، الجماعة/ الزملاء، وأخيراً الجماعة/ المجتمع.. والمجتمع هنا بدوره، في هذه السيرة ينطلق من قرية الكاتب.. ربما ليستشرف مصر بأكملها، وينطلق من مصر ليشمل الأمة العربية بتمامها.. وينطلق من التاريخ (كميدان للدرس الأكاديمي والمنجز العلمي) ليقرأ الراهن به، ثم يعاود قراءة التاريخ بعيون هذا الراهن ومناظيره ومناهجه وكشوفه العلمية الواعية، ليضيف إلي دقة المنهج العلمي استبصارات خاصة، ورؤي واعية، ولماحية مبدعة، وخصوصية لاشك فيها في الوعي والاستيعاب والنظر، قدرة علي اختراق حجب الأزمنة مسلحة بالعلم النافذ، والوعي الثاقب، لترتيب الأحداث وقراءتها ببصيرة ناجزة ترتب لمنطقها في النظر ترتيباً له ما يبرره منهجياً.. وتجمع نثار الجزئيات والتفاصيل المفرقة و(المبعزقة) في إطار رؤية خاصة وكاشفة، تقرأ الحدث في إطاره السياسي والاجتماعي والثقافي والجغرافي والتاريخي.. باختصار.. بكل مكوناته الأيديولوجية والعقائدية والفكرية.. إلخ.. قراءة جديدة ومبدعة بدون شك. ولأننا لسنا في سياق الحديث عن منجز الدكتور محمود إسماعيل العلمي والفكري، فهذا حديث آخر، وإنما نحن في سياق هذا الكتاب الجميل في سيرته الذاتية، أو بعبارة أخري تأمل تلك الخلفيات والكواليس- وأحياناً الكوابيس- التي ظاهرت وواكبت الحدث العلمي، والمنجز الأكاديمي، والجهاز البحثي، ورحلة التطور الدراسية والعلمية والمجتمعية والثقافية.. إلخ. ومن ثم، فسنلتزم في هذا السياق بالوقوف عند هذه السيرة الجميلة لنبدي بعض الملاحظات العابرة التي لا أظنها تنال بحال من جمال هذا العمل، وإن قصدت- أو تمنيت- أن يضيف الكاتب إليه المزيد من الصفحات والوقفات والتفصيلات.
أول هذه الملاحظات، ما استشعرته من أن الكاتب دخل إلي كتابة هذه السيرة بمنطق تلغرافي.. أقصد أنه يمر علي كثير من المسائل مرور الكرام، ويختصر مساحات هائلة من الزمن في بضع صفحات قليلة.. وطبعاً أنا لا أقصد إلي التزايد والفضول والرغي.. وإنما- تحديداً- هذا الحد الملائم الضروري من الوقائع والتفاصيل والأحداث الذي لابد منه طالما أنني أكتب (سيرة ذاتية) والذي من دونه تختل فكرة (السيرة) ذاتها، ويعتز بها الكثير من النقص والابتسار.. لا أدري لماذا شعرت أن كاتب السيرة كان يتحمس أحياناً للكتابة، ويسترسل في بعض المواقف استرسالاً جميلاً ومشوقاً وممتعاً.. ثم سرعان ما يعتريه (الزهق) ربما.. أو (الاكتئاب) فتشعر وكأن الكتابة تبهظه وتثقل عليه، فيسارع إلي التخلص من هذا العبء بالمرور البرقي علي أحداث وأزمان ومراحل بأكملها من العمر والحياة والتجربة.. كنت تود أن تتأملها مع الكاتب تأملاً أوسع وأكثر غني بالتأكيد، لو أعطاك هو الفرصة لذلك.. ولكنه لم يفعل! وربما ظننت أحياناً أن الكاتب يربأ بهذا الأسلوب البرقي، من الحديث الطويل عن الذات، ويتجاوز عن ذلك، حتي لا يقع في فخ الذاتية أو النرجسية أو الحديث عن النفس أو التفاخر بها مثلاً.. ولكن (السيرة) مليئة في الحقيقة بمثل هذا التفاخر (المقبول) غالباً، ومفعمة بالحديث (المعقول) عن النفس في معظم الأوقات، وغير المعقول أحياناً، والذي لعلني أعذر الكاتب فيه برغم ذلك، لما عاني ويعاني، هو وأمثاله من نابهي هذا الوطن، من إهمال ظالم، وتجاهل جائر، وتهوين بَيِّن من مواطنيه ووطنه.. لعله المسئول عن مرض الاكتئاب الذي ألمّ بالكاتب في بعض محطات الرحلة، وعوّق اندفاعه لفترات متباينة في القصر والطول، وإن كان هو أسعد حالاً من غيره من النابهين في هذا الوطن، الذين لم يحصلوا علي فرصة، ولو من خارج وطنهم- كما حدث معه عدة مرات- للتكريم والاحتفاء والتقدير.. في المغرب أو الكويت أو غيرهما.
لا تخلو السيرة من جوانب أخري، أقل ما يقال فيها إنها مدهشة، من هذا المفكر العلمي المادي الجدلي الماركسي، الذي يلمح- ولعله يصرح بأنه في بعض حالات اكتئابه، والذي يكاد يقول- إن لم يقل فعلاً- إنه بسبب (أعمال!) سحرية عُملت له كيداً وحسداً.. ليصاب في (مخه) بالذات! من هذه أو تلك من حبيباته أو زوجاته أو ما شابه! وهي تصريحات وتلميحات مدهشة في رأيي، بل والأعجب إقراره بأنه- أحياناً- كان يجد العلاج والشفاء والبرء مما هو فيه لدي أناس آخرين من غير العلماء والأطباء والمختصين، وتشعر وكأنه يشير إلي أناس من أهل الخطوة أو الحظوة أو متصوفة، بمعني من المعاني (بتوع ربنا) أو ما شابه! وبقدر ما أثارت عجبي مثل هذه الإشارات، وهي سريعة ومبتسرة وتلمح ولا تصرح، بقدر ما أثارت إعجابي هذه الشجاعة والأمانة في الاعتراف والبوح، برغم ما قد تشير إليه من تناقض بين العقلية العلمية المادية الجدلية، وبين هذا الإيمان الصوفي الغفل من المادية أساساً.. جدلية أو غير جدلية، ومن العقل بالمعني المنطقي الاستقرائي التجريبي القائم علي البينة الملموسة والبرهان المحسوس. أيضاً استغربت قليلاً لوقفات الزهور والتفاخر بالدون جوانية، وتأثير المؤلف المباشر والسريع المفعول في البنات والحسناوات، وقدرته المدهشة علي استمالتهن- لا أريد أن أقول والإيقاع بهن- في سرعة برقية تستثير الغيرة والحسد من أمثالي الذين لم يفلحوا أبداً في تحقيق مثل هذه النتائج المبهرة، أو علي الأقل بهذه السرعة مع الجنس اللطيف! وبغض النظر عن هذه الجوانب اللطيفة والفكهة من سيرة محمود إسماعيل.. فهي كذلك، لا تخلو من وقفات تحليلية جادة لأوضاع ورؤي وأفكار وتيارات، وطبيعة علاقات وتقاطعات تحكم افاق التماس بين المشرق والمغرب العربيين، وتتأمل بعمق أحياناً أبعاد هذه التماسات.. المهم، وحتي لا أطيل عليكم، تنتهي قراءة هذه السيرة الجميلة اللافتة.. لتشعر في نهايتها بأنها (بروڤة) لكتاب أشمل عن سيرة الرجل لم يكتب بعد، أو أن هذه السيرة هي ملخص من تلك الملخصات التي يقدمونها أحياناً لأعمال روائية كبيرة وضخمة.. فتتلفت حولك بعد الصفحة الأخيرة باحثاً عن العمل الأصلي الذي أخذت عنه هذه السيرة لكي تمدد استمتاعك بهذا الملخص الفاجع بقراءة الأصل الكامل والواسع والشامل لهذه السيرة الجميلة! .. فهل سيوافينا محمود إسماعيل بهذا الأصل الذي نحلم به؟!