لا أظن أن للشعر الحق »وصفة« حتي وأنا أتكلم الآن عن الشعر، لا أقدم وصفات وإنما أنا أحاول - محاولات فاشلة في الغالب - الاقتراب من هذا »الكنه« الملغز الملغوم بالأسرار والمترع بالغرابة والمفعم بالمجهول..وحتي في هذا الاقتراب، أنا لا أقدم في النهاية، إلا ما وقر في ظني، ونمي لعلمي وصدقه الشعر من تجربتي، واستقر في يقيني (حتي الآن) من خبرتي الشخصية.. وفي كل الأحوال، فما أقدمه من تأملات في هذه التجربة، ومن أبعاد لهذه الخبرة، لايتجاوزني إلي تجربة شاعر آخر وخبرته.. ولعل الفائدة الوحيدة لهذه التأملات - إذا كان ثمة فائدة أصلا - هي إثراء معرفتنا بالشعر المتكثر المناحي، والمتعدد الأبعاد، والوافر الرؤي، واللا نهائي في خبراته.. ربما بعدد الشعراء.. ولذلك، فأنا لا أتحمس كثيرا لهذه الاتجاهات الشعرية ذات الأصول الأجنبية في الغالب التي تحاول أن تقول لنا ما هو الشعر!.. .. ربما أقبل مثل هذا - لحد ما - في النقد- وباشتراطات معينة، ولكنني لا أفهم مثل هذه اليقينيات في الشعر.. أو في تحديد ماهيته.. إلا في اطار حديث شاعر عن خبرته أو تجربته أو رحلته مع الشعر.. في ظل مواضعات هو شارطها الوحيد، وحدّها المفرد.. ذلك لأنني أتصور أن علي الإنسان - ومن باب أولي الشاعر - أن يعتني بحديقته الخاصة مهما صغرت مساحتها، وتواضعت أزهارها، وقلت تنويعاتها، وليس بإبدالها بحديقة أكبر منها في المساحة - مثلا - وأغني في الامكانيات، وأكثر تنوعا حتي.. ولكنها ليست ملكا له! الشاعر يكتشف أبعاد تجربته الروحية الخاصة التي من المفروض ألا لاتشابه أحدا، وأن يستجلي أبعاد عالمه الداخلي الخاص، ويضيء تلك الجوانب من روحه وروحانيته التي تباين مثيلاتها لدي الشعراء الآخرين مباينة كبيرة أو صغيرة.. هو لايقرأ عن الشعر (بل والشعر نفسه) لدي الآخرين.. ليترسم ويستهدي ويقيس ويماثل، ويوازي ويشابه.. الخ، وإنما ليثري تجاربه الخاصة، ويسلط أضواء مختلفة علي كشوفه النهائية، ويؤكد زواياه المميزة، ورؤاه الفارقة، ومناظيره المعنية.. ولذلك فأنا أتوجس من هؤلاء الذين يقدمون باستمرار وصفات للشعر الحق، هؤلاء الذين يرون - مثلا- انه لابد للشاعر الحداثي من ترك القصيدة التفعيلية والاتجاه إلي قصيدة النثر.. لأن الأخيرة تمثل التطور المحدث في الشعر باتجاه أنواع أخري من الحدوس والأبنية والإيقاع والخيال.. الخ، هي ألصق بلحظتنا التاريخية، وأقرب إلي روح الحداثة وما بعدها.. الخ.. الخ.. الخ.. وأنا أستريب - حقا - في مثل هذا الكلام، الذي يتصور (للروح) روح الحداثة أو ما بعدها (في الشعر) - علي حد قولهم - مقاييس معينة.. واشتراطات خاصة، ومعايير بعينها.. ولعل «الروح» من حيث هي هذا اللغز، المستعلي علي كل ذلك، والتي هي (من أمر ربي) بمعني استغلاقها التام.. لاعلاقة لها.. لا بمقاييس مهما كانت، ولا اشتراطات مهما بلغت من الأهمية، ولا بمعايير مهما بدا من وجاهتها في لحظة معينة.. كما أن هذا التضييق علي الشعر الذي يسمح لنفسه بأن يقدم مواصفات من هذا النوع، يغيب عنه التعدد الهائل والواسع والرائع للزوايا والحنايا والطرائق والرؤي والخبرات والتجارب والتنوع والتكثر والسعة والطرق المتباينة بغني شديد الإعجاز.. الذي يأتي منه الشعر.. فالشعر عديد ومتعدد كما دأب علي القول الصديق الشاعر حلمي سالم.. وثري، وواسع، وشاسع الأرجاء، ورحب النوافذ والمنافذ، بما يجعل من محاولة تضييقه علي مواصفات نقدية، أو معايرات حداثية، أو مقايسات ما بعد حداثية.. قصرا هائلا للنظر.. مهما بدا من الوجاهة النقدية، والمناسبة الفلسفية، والسرطان النظري المتحذلق.. وإذا كنا بإزاء الروح، وحديث الروح.. وهو الشعر، وإذا سلمنا بأن الروح دينيا وفلسفيا لايحاط بها.. ولايمسكها حد، ولايستوفيها بعد، ولايؤطرها قصد، ولايستنفدها عمد.. فكيف لنا أن نقدم (مواضعات) للقصيدة و (مواصفات) للشعر.. وهو من نبع هذه الروح يغترف، ومن بعض تجلياتها يمتح؟!.. وكيف ننظر إذا صدقنا هذه الدعاوي المؤطرة ولو للحداثة وما بعدها - لمسألة تطور الشعر إذن، وتباينه، واختلافه، وتعدده، وتكثره.. من جيل لجيل، ومن مرحلة لأخري!
يتحدثون باستمرار عن قاموس الشاعر، وألفاظه، ومفرداته، وصوره، وأخيلته، وتراكيبه، وجمله،.. و.. و.. الخ، وأنا أظن أن قاموس الشاعر ليس لغويا فقط - وان توسل بذلك - وليس مفردات وألفاظا فحسب، وان تقنعهما، قاموس الشاعر - هو بدرجة أهم وأكبر - كائنات هذا الوجود كلها.. الطبيعي منها والحيواني والنباتي وحتي الجماد.. ومن المفهوم أن كل هذه التفاصيل الوجودية لها مسمياتها اللغوية، وملفوظاتها الحروفية.. ولكنني عندما أشير إلي أن قاموس الشاعر هو الكون بكل ما فيه، وليس مجرد تلك الإشارات الاصطلاحية القاموسية إنما أعني انه بما أن الشعر استكناه لروح الكون، وجوهر الوجود، وكنه العالم.. والأهم، ما وراء الكون، وما خلف الوجود، وما بعد العالم.. فكذلك هي اللغة الموصلة إلي تلك الروح، وذاك الجوهر، وهذا الكنه.. لغة لايحملها القاموس، ولاتحملها المسميات، ولا تحققها الألفاظ والمفردات واللغة في مستواها الشائع.. وإنما هذه المعطيات جميعها حينما تتجاوز حدها الاستعمالي.. حدها القاموسي.. حدها الأبجدي.. تحققها.. فليست الزهرة، أو الغيمة، أو النهر، أو الجبل، أو البحر، أو الشمس، أو الضمائر، أو الوحش.. الخ.. إلا ما هي عليه من تداعيات أولي في الذهن نعرفها جميعا، إلا ما هي عليه بالحد القاموسي الإشاري لها.. أما هي في الشعر.. فذلك وغيره، هي الحد وما يتجاوزه، هي المعني القاموسي وما يفارقه، هي الشرط وما يعلو عليه، هي التعريف في الواقع.. وربما هي ما يضاده ويباينه فيما وراء الواقع.. ما لم تغادر المفردات في الشعر أفقها المألوف، وشرعيتها القاموسية، فستعجز عن الإشارة إلي عالم أكثر سعة، وتقصر عن الإيماءة إلي كون أكثر رحابة.. حتي وإن بدا أكثر غموضا في نفس الوقت ولكنه هذا الغموض الشفيف الشريف ما محاولات الشاعر إلا مكابدات مع اللغة يمارسها طيلة حياته، ويتفاوت نصيبها من النجاح والفشل باستمرار لإطلاعنا علي لمحات بارقة من هذا العالم وهو من ثقب ضيق جدا.. هو القصيدة!.. فالشاعر عبر هذه اللغة شديدة الأحادية والتحددية، شديدة المباشرة، شائعة الاستعمال، مبتذلة الاستخدام حتي، المجمع عليها بما يشبه قولنا (المغمي عليها).. هو مطالب بإعادة اكتشافها (بالشعر) وبشحنها بكهرباء جديدة، وبإعادة ارتعاشات الحياة إلي تثلجها وبرودتها، بل ومواتها المعجمي الساكن.. هو مطالب برغم مباشرتها وابتذالها وسكونها وأحديتها.. أن يصلنا - من خلالها - بعالم آخر.. أكثر غني وأكثر سعة وأكثر رحابة.. هو جوهرنا وحقيقتنا، ومن ثم فهو مطالب (الشاعر) بتجديد هذه اللغة وشحذها باستمرار - والمفارقة - وبها هي نفسها ليصلنا بهذا الجوهر من خلال عرضيتها، وبهذا المركز من خلال شتاتها وتشتتها، وبهذه البؤرة من خلال هذا الانفتاح القاموسي الواسع الأرجاء والانحاء والضيق جدا برغم ذلك.. كيف يعيد الاتساع إلي الضيق اللغوي، والرحابة إلي المحورية اللفظية واللامحدود واللانهائي عبر المحدود والنهائي.. هذه هي لعبة الشاعر، ومصيره، وارتفاعه وسقوطه، وقيمته.. نعم، الشاعر ينشد هذا الجوهر عبر اللغة، والذي، من المؤكد، انه لايعرفه بدقة، ولايدرك حدوده بالضبط، وربما نهائيا.. ولكنه يتجه إليه باستمرار.. يهمس له، ويهجس فيه، ويحدس به، ولايكاد يفارقه ليل نهار لأنه جزء من بنية الشاعر فيه.. من بنية وجوده ذاتها!
التجديد يساوي في ظني - هوية الشاعر، وما هية الشعر.. وإذا كنا اتفقنا في اللمحات السابقة علي ان مسعي الشعر هو استكناه هذا العالم الملغز والغامض، الذي هو ميدان الروح، وتوقها، وملعبها، وحضورها، وغيابها، فلا يمكن لنا أن نستكنه هذا المجهول بأدوات مستهلكة، ورؤي منتهكة، وتقنيات متحجرة جامدة، ومقولات جاهزة، وقوالب صماء، وحلول تم لوكها ومضغها من قبل، بل وحققت نتائج باهرة ربما في لحظة ما.. فالتجديد - إذن - بالنسبة للشاعر الحق، هو جزء أساسي من بوصلة الحركة نحو كشف هذا المجهول، أو محاولة ذلك علي الأقل، أو الموت دونه!.. ولايتعارض قولي هذا مع ما سبق أن شجبته من هؤلاء الذين يقدمون (وصفات) للحداثة الشعرية، أو ما بعد الحداثة في الشعر.. إذ ربما يقول قائل: وما اختلافك مع هؤلاء.. وهم لم يقولوا إلا ما تقوله الآن عن التجديد والتحديث والمغايرة.. الخ. ولمزيد من التوضيح - في هذه النقطة - أنا لا أقول.. إلا بالتجديد والتحديث والمغايرة والتطور.. فهذه ليست مجرد خصائص، وإنما هي في صلب بنية الشعر المستحق لاسمه.. نعم.. طبعا.. ولكنني ضد (الوصفات) حتي لو حداثية أو ما بعد حداثية.. حتي لو احتوت علي وجاهات نظرية، ولياقات نقدية، واعتبارات جمالية، وضرورات فلسفية.. كل هذا رائع في حد ذاته ولاغبار عليه.. ولكنه لاينسحب علي الشعر انسحابا أوتوماتيكيا، ولا يلزم عنه الشعر لزم النتيجة عن المقدمة، والعلة عن السبب، وإنما الشاعر الحق، هو القادر تماما علي اجتراح هذه الآفاق، وتقديم هذه الرؤي المجددة، وتطوير الشعر، والتماس مع روح الحداثة والتجديد، ربما من مداخل أخري، ومنافذ مختلفة، وأبواب مغايرة.. فالحداثة وما بعدها في الشعر - وفي كل فن آخر - روح تسري.. وليست تعليمات تتبع.. وجوهر يتغلغل في الشرايين وليست تنظيرات يرتبها العقل ويستفها المنطق.. وعلي سبيل المثال.. وحتي لايكون كلامنا مجردا.. كم من حركة محدثة بين ظهرانينا، تحدثت - مثلا - عن قصيدة النثر بالعامية.. وأنا لست ضد هذه القصيدة من حيث المبدأ.. ولكنهم (أصحابها) لم يغادروا الحديث التجريدي الذي يمتلك وجاهاته النظرية من ميادين شتي، ومرجعياته الجمالية، وأبعاده النقدية.. الخ، ولكنهم عجزوا عن تقديم النموذج المائز في قصيدة.. تمتلك مبرراتها في ذاتها.. لا من حديث نظري، ولا من كلام نقدي.. تمتلك شرعيتها الجمالية في مبناها، وفيما تقدمه من انجاز ينافح عن الطرح النظري (بالقصيدة).. ويدافع عن حق الوجود وشرعيته (بالفعل).. وليس بالكلام!!