حدَّد الدكتور حامد أبو أحمد تصنيفاً دقيقاً، لعمله السَّردي (الشّهاب)، باعتباره (شهادة روائية)؛ والشَّهادةُ كما يذكر العلامة ابن منظور ( 630 711 ه) هي الإخبار بما شاهد ، وهي شهادة (روائية)؛ لأنّها تتضمّن عناصرَ بنائية روائية، ويمكننا كذلك إدراج هذه الشّهادة الروائية، ضمن أدب (الأتوبيوجرافي)،وهو ما يُعرف أحياناً بأدب السّيرة الذاتية ؛ هذا النّوعُ الأدبيُّ الذي تأسست معالمه الشَّكليةُ بجهود كثيرين؛ في طليعتهم: جان جاك روسوّ وفولتير وتولستوي وهيرمان هسَّه وسارتر وميشيل ليريس ورولان بارت (في: رولان بارت بقلم رولان بارت) وآلان روب جرييه ( في: روائيات)، ويُضاف إلي جهود هؤلاء جهود: طه حسين وأحمد أمين و أحمد لطفي السّيد وشكري عيَّاد ولويس عوض وإدوارد سعيد ( في:خارج المكان) . . يبدأ الدكتور حامد أبو أحمد شهادته / سيرته، انطلاقاً من عام 1983، وهو العام الذي عاد فيه من مدريد، حاصلاً علي درجة الدكتوراه منها، ويمضي السَّاردُ حتَّي الأسبوع الأخير في عام 2010، وعبْر هذه المساحة الزّمنية تحدث ارتدادات متوالية، تكشف جوانبَ عديدةً من سيرة الدكتور حامد، في مرحلة ما قبل التَّعليم الجامعي، وتكشف تحديداً شهادة الدكتور حامد علي عصر مبارك، بتفاصيلَ سرديةِ معيشةِ شديدة الدلالة . . يتشكّل نصّ (الشّهاب) من أربعةَ عشرَ فصلاً، يتقَّدم كلّ فصلِ منها ثلاثُ عتباتِ نصيّةِ دالةِ لكُتاَّب منهم: عبد الرحمن الكواكبي (من كتابه: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ومونتسكيو ( من كتابه: روح القوانين) ومحمد عبده (من كتابه: الإسلام بين العلم والمدنية) ومحمد الغزالي (من كتابه: الإسلام والاستبداد السّياسّي). ويتقدَّم الفصول إهداء دالًّ :» إلي الذين يبحثون عن الحرية والعدالة«. . ومنذ بداية النَّصَّ يتكشّفُ جوَّ كابوسيّ خائفُ، عبْرَ صورٍ عديدةٍ للفساد، الذي يُوجد في كلّ مكان، بأشكالٍ شتَّي؛ ولهذا فإنّ السَّاردَ كثيراً ما يربط هذا الفساد بمثيله، في فتراتٍ سابقةٍ، وأماكن أخري، غير أنَّ ما يتَّضحُ بجلاء، أنّ الفساد، في عهد مبارك قد صار أشدّ تغولاً وكابوسيةً وقهراً . . والنَّصُّ بهذا وثيقةَّ أدبية، تاريخيةً، حاشدةُ بالتّفاصيل الفادحة، والمواقف الدالة، وهو نصّ أدبيّ بامتيازٍ؛ رغم احتشاده بالتفاصيل التّاريخية، التي تذكّرنا في تدفُّقها التَّقريريَّ بشكل المقال، وتتحقَّق أدبيته من شكل سرد شفاهيّ، يخلو من الزّخارف، ويتَّسم بالتَّدفق والحيوية، كما يُساعد علي تحقيق جمالية السَّرد، حركةُ الزمن السَّرديَّ، في تدفُقها الحرَّ، بين ارتداداتٍ واستباقات، دائمةٍ، ثم عودةٍ إلي الزمن الحاضر، حركة الزمن السَّرديّ، هنا، تُغاير حركة الزّمن الفيزيقيّ في تتابعه وتراتُبه . . كما تحقّق الأدبيةُ من استحضار شخصيةٍ تاريخيةٍ، علي طريقة بورخيس، هي شخصية ( الصّلادم)؛ شاعر الجنّ، الذي ذكره أبو زيد القُرشيُّ، في ( جمهرة أشعار العرب)، وهو ما يُعطي للسَّرد درامية، ويُبعده عن تقريرية المقال، في أحيان كثيرة . . ومن آليات أدبية النَّص، كذلك، اعتماد بنية المفارقة، كثيراً؛ لكشف التَّناقضات الغرائبية الدالة، وتحمل هذه الشَّهادة أهميةً تاريخيةً كبيرةً باعتبارها وثيقةً تاريخيةً، كما أنَّها أهمُّ طلقةٍ سرديةٍ صريحةٍ سبقت الثَّورة بشهرٍ واحدٍ، وستبقي وثيقةً تاريخيةً وفنيَّةً شديدة الأهمية ، علي هذه المرحلة التّاريخية الحاسمة من تاريخ مصرَ المعاصر . . إنّها شهادةُ صادقةُ، ويُشِيرُ السَّاردُ إلي هذا الصّدق بقوله: »والحقّ أني عشتُ حياتي كلها هكذا، لم أتردّد أبداً في أن أجهر بكلمة الحق، ولم أُنافق أو أُراوغ أو أقول لنفسي إن الموقف يستدعي أن أُناور أو ألفّ حول الموضوع، أو أتصنَّع عدم الفهم، أو غير ذلك «. ويعمد النَّصُّ بكلَّ إصرارٍ إلي كشف عورة الفساد، الذي ضرب أطنابه علي أنحاء الخريطة المصرية؛ لنري أن ما فعله النَّظام السَّابق بأذرعه الأخطبوطية المدَّمرة، يتعدَّي ما فعله المماليكُ في أحلك الأوقات في التَّاريخ المصريَّ، ولا أدلّ علي هذا من كمية الملايين التي استولي عليها نزلاءُ طُرةَ وإخوانُهم الهاربون لقد كانت كتابة هذا النَّصَّ، ونشره، مغامرةً، بكلَّ ما تعنيه الكلمة من معانٍ، في ظلَّّ نظامٍ من أعتي النُّظم الديكتاتورية. إنَّ الجميع يدّعون البطولة الآن، وأنهّم، جميعاً، كانوا ضدَّ النَّظام السَّابق، ولكن مَن جرؤ، منهم، علي كتابة هذه التَّفاصيل والتنديد بإجرام النَّظام السَّابق، علي هذا النّحو، قبل 25 يناير 2011م. إنّ الدكتور حامد أبو أحمد، في هذا العمل السَّرديَّ، يقترب، كثيراً، من كُتَّاب أمريكا اللاتينية، الذين جعلوا قضية الديكتاتورية قضيتَهم المركزية . . إنَّ السَّارد، هنا، جبرتي، بمعني من المعاني، ومن ذلك رصده لمقدَّمات اختيار السَّادات، حسني مبارك، نائباً له، علي هذا النَّحو: كنا ونحن في أسبانيا نُتابع ما يجري في مصر، وكأنّنا موجودون داخل البلد، لأن الجرائد كانت تصل إلينا عن طريق السّفارات، تابعنا محادثات الكيلو 101 واتفاقيات كامب ديفيد ورحلات وزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر إلي القاهرة وتل أبيب، وكنّا نشعر أنّ الرئيس المصري أنور السّادات يُجهض انتصار السّادس من أكتوبر 1973 بالتّنازلات الكثيرة التي يُقدَّمها، وهذه التّنازلات كانت واضحةً في محادثات كامب ديفيد، ولهذا استقال وزراء الخارجية واحداً بعد الآخر، محمود رياض، وإسماعيل فهمي، ومحمد إبراهيم كامل. وكان هذا آخر العهد بالاستقالات السّياسية. كان السَّادات يتذرّع دائماً بأنّه يُريد استرداد أرض سيناء، وكان يُبشَّر النَّاس بأن عهد الرَّخاء قادمُ لا محالة، وأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب . . »ولكي تكتمل مأساة الشَّعب المصري أقدم أنور السَّادات ؛ بوصفه حاكماً فرداً علي خطوةٍ مازال الشَّعب المصري يعاني من آثارها إلي الآن؛ فقد قرَّر أن يختار نائباً له،ولم يقع بصره إلاَّ علي شخصٍ كان بعيداً جداً عن كلّ ما يخصّ شئون الحكم والسّياسة، وهو حسني مبارك، الذي كان قائداً لسلاح الطيران في حرب أكتوبر.» وسرعان ما يلج السَّارد إلي لحظة وصول مبارك إلي سُدَّة الحكم في مصر: » ولم تمض إلاَّّ فترة قليلة حتّي وقع حادث المنصّة أثناء الاحتفال بحرب أكتوبر في عام 1981، وقُتل السَّادات في ذلك اليوم، واتُّخذت الإجراءات المعروفة في مثل هذا الموقف، وأصبح حسني مبارك رئيساً للجمهورية، وقد بدأ بإخراج المعتقلين السَّياسيين الذين وضعهم السَّادات في السّجن، وأدلي ببعض التَّصريحات ومن بينها أنه لن يحكم أكثر من مدتين، وأن الكفن ليس به جيوب، وقد أثبتت الأيام بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً أن الحاكم لا يُمكن أن يترك الحكم طواعيةً، أما الكفن فقد ثبت أيضاً أنه ملئ بالجيوب، ومن يُشكّك في ذلك عليه أن يطالب حسني مبارك بتقديم ذِمَّته المالية وذِمَّة أفراد أسرته، لنري ماذا تملك هذه الأسرة الآن؟ » ومعروف أنَّ حسني مبارك لا يختلف في شيءٍ عن الشَّعب المصري؛ فهو قادمُ من قاع السُّلم الاجتماعي، وأسرته معروفة في كفر المصيلحة القريبة من شبين الكوم، ووالده وإخوته كانوا معروفين للكافة، فكيف تحوّل حسني مبارك في غضون سنوات قليلة إلي شخص واسع الثَّراء ؟» ويكشف لنا عن أكذوبة نزاهة الانتخابات، من خلال موقف إنساني بسيط ومعروف، حيث وصل إلي لجنة الانتخابات، ووجد الموظفين الموجودين بها يقولون له: » خلاص يا دكتور ! -إيه يعني خلاص ؟ -يعني صوتك وصل إلي الصّندوق .« ويذكر مصير الذين تجرّؤا وخاضوا الانتخابات الرئاسية في عام 2005؛ فقد كان نصيب نُعمان جمعة أن « عاني من الاضطرابات والقلاقل داخل الحزب إلي أن اختير بديل له وهو محمود أباظة، وأيمن نور دخل السَّجن بتُهمة التَّزوير، وإذا كانت تهمة التَّزوير تضع المرء داخل القضبان فإن نظام حسني مبارك بكل أفراده مطلوب للمحاكمة بتهمة تزوير إرادة المصريين علي مدي ثلاثين عاماً تقريباً.». ويكشف لنا خُطَّة سياسة مبارك التَّخريبية: » كانت الخُطَّة هي ألا يظهر زعماء حقيقيون لهذا الشَّعب، ولا شكّ أن هذه الخّطة قد نجحت، فلم يعد في مصر زعماء من أمثال أحمد عرابي ومصطفي كامل وسعد زغلول ومصطفي النَّحاس ومحمود فهمي النُّقراشي وأحمد ماهر وسواهم علي المستوي السَّياسيّ، ولا زعماء دينيين أو ثقافيين من أمثال أحمد لطفي السّيد وعبَّاس محمود العقّاد وطه حسين وغيرهم.«. يتجاورُ، في هذا النَّصَّ الخاصُّ بالعام، حيث لا انفصال بين الشَّخصَّي والتَّاريخي، هكذا يضع الدكتور حامد أبو أحمد شهادته الجامعةَ علي عصر مبارك، عصر انهارت فيه الحياةُ المصرية علي شتي المستويات ووصل الفساد، فيه إلي أقصي تحققاته، مما حدا بالشعب المصري، بمختلف طوائفه، وأعماره، وبدون زعامة مُعلنة ومُحددة، أن يخرج مُصراً علي اقتلاع النظام من جذوره»، أدلي الدكتور حامد بهذه الشهادة الوثيقة، قبيل هذا الانفجار الجماعي المبارك، ببصيرة المثقف، وضمير العالم، وجسارة المبدع، وحصافة الناقد . . في جديلة واحدة، يتواشح التاريخ العام والتاريخ الخاص، مؤكداً علي الهيمنة الكاسحة للفساد، ومن التاريخ الشخصي الدال، يُورد الدكتور حامد واقعة التحقيق معه، في مباحث أمن الدولة بلاظوغلي، في يوم السبت أول يوليه 1989؛ في أعقاب دعوته إلي إصلاح التعليم بالأزهر، مع بعض زملائه من أساتذة جامعة الأزهر، ولقائهم برئيس جامعة الأزهر؛ د. عبد الفتاح الشَّيخ، ثم بالإمام الأكبر الشَّيخ جاد الحق، ومن المدهش أن يُحقق معهم في تفاصيل ما دار في اجتماعهم بالإمام الأكبر! ؛ فالشيخ الإمام لا يعدو أن يكون موظفاً، وجزءاً في نظام الدولة البوليسية؛ التي يُهيمنُ فيها الأمن علي كل شيء، ويكتشف الدكتور حامد عقب هذا اللقاء أن الأمن هو الذي يُدير الجامعات؛ لا رؤساؤها ولا عمداؤها. وفي الفصل الحادي عشر يكشف لنا كيف يُدير أمن الدّولة قيادات الجامعة، وكيف يختار ضابط صغير عميد كلية، أو رئيس جامعة، وكيف يخضع هؤلاء، جميعاً، لآليات الدَّولة البوليسية. ويفضح المشهد الثقافي، في ظلَّ هذا الفساد المدمَّر؛ فالمثقفون، في معظمهم، أتباع، والقلة المظنون بها خيراً تُمسك العصا من المنتصف، ولا تتخطي الخطوط الحمراء، أما البقية الباقية منهم، التي آثرت المقاومة فقد نالت جزاءها، ومنها: الصّحافي عيد الحليم قنديل، الذي اقتيد إلي العراء ليلاً، وجُرَّد من ملابسه إمعاناً في إذلاله وعُذب، بينما استُبعد كل من: سلامة أحمد سلامة وفهمي هويدي من الأهرام، لتجاوزهما الخطوط الحمراء. يكشف كذلك فساد وزارة الثقافة، والحياة الثقافية، ودور فاروق حسني في هذا الفساد، ودور رَجُله البارز جابر عصفور في هذا الشأن. .