د. خليل فاضل في إطار أطروحات ومصطلحات مربكة مثل (مختل عقلياً) تعشقها الصحافة وقراؤها من العامة والخاصة تطرح تساؤلات مهمة جداً عن المرض النفسي وتوابعه الاجتماعية. أنا ما با كلش مشابك ولا بامشي ع الحبل كلمات صاحت بها امرأة وهي تعاود الطبيب النفسي بحثاً عن حل لمشكلاتها الزوجية. تعمدت إثبات أنها (مش مجنونة) حتي لا يمسك عليها الزوج ذلّةّ، وعلي الرغم من أن (الجنون) مصطلح فني، أدبي، درامي، صحفي، دارج، إلاّ أنه يحمل وصمة المرض وعار المصيبة، يحمل الخوف من التهور والقتل والرقص عارياً في الطريق العام يحمل غموض وغرابة عمقها الموروث الشعبي، والجهل بطبيعة الاضطرابات النفسية. الجنون ..أمر لا نناقش وجوده من عدمه، لكن نحاول تقديم تفسير له ورصد لاختلافه في حالتنا نحن كمصريين، ماهيته من خلال وضعنا الاقتصادي السياسي والاجتماعي، الحروب التي مررنا بها. جو الإرهاب والعنف السياسي الذي عشناه سابقاً، التقلبات التي طالت المال الخاص والعام بدءاً من مافيا توظيف الأموال وانتهاء بالهاربين بمليارات مصر، مروراً بمشكلات التعليم، الهجرة، التوترات الدينية، وما إليه، كل ذلك كوّن هشاشة للكرب وقابلية للانجراح. نحن لا نناقش أصول الاضطراب النفسي الكيميائية أو أعراضه العامة التي يكاد يشترك فيها البشر أجمعين إذا ما أصيبوا، لكننا- هنا- محددون في قضية التفاعل بين البيئة المحيطة (كافة الظروف الاجتماعية) وبين تلك الهشاشة، وكأنها تلك الخلطة السحرية بين حياتنا اليومية وما يسمي (الكيمياء العصبية) التي تقيم أود حياتنا وكياننا ووجداننا، تفكيرنا وعقلنا، وتحفظنا من الخلل والانهيار، تلك التي تشبه زيت المحرك (الموتور) وهي في الغالب مجموعة من المواد تشبه الهرمونات أهمها (الدوبامين، السيرتونين، والنورأدرينالين)، وكأنها تلك الكيمياء العصيبة تعجن الضغوط، الجينات، تربية الوالدين، الأسرة، طبيعة المدرسة، الجوّ العام، الازدحام، التلوث، الإحباط والفشل، لتشكل عجينة عجيبة تكوّن شكلاً ما من أشكال الاضطراب النفسي تتراوح صورته ما بين الضيق، القلق، التوتر، الاكتئاب، الخوف من فقدان السيطرة علي العقل، إلي الهوس، الهلوسات (تخيل أشياء، سماع أصوات ورؤية أمور دون واقع حقيقي لها)، فقدان الصلة بالواقع، اضطراب التفكير، محاولات الانتحار ... إلي آخر تلك القائمة من عدم الاتزان وعدم الثبات والخلل العام الذي يصيب إدراك الإنسان، فيختل ويتفكك وينهار ومن هنا جاءت الدعوة المعروفة والمتداولة عند الأزمات (يا رب. يا مثبت العقل والدين). ما بين فصام العقل (الشيزوفرينيا والأصح نطقاً السكيدزوفرينيا والذي دائماً ما يخلطه الناس عامة ومثقفون بازدواج الشخصية أو انفصامها وهو أمر آخر يتعلق بتركيبة الإنسان وتفكيره وليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بمرض (فصام العقل)، والمرض الآخر الأكثر شهرة هو (هوس الاكتئاب الدوري أو اضطراب المزاج ثنائي القطبين). وهو تلك الحالة التي تنتاب المريض فيها دورات حادة من الاكتئاب المرض الشديد والفرحة والهوس غير الطبيعيين مما يحتاج إلي مثبتات للمزاج ومعقلات لضبط الكيمياء العصبية المختلة. هذا من ناحية، من ناحية أخري هناك حالات مهمة جداً تنتشر في برّ مصر نتيجة الضغوط الاجتماعية الحادة (البطالة، الفقر، العنوسة، العنف، الفساد) تؤدي إلي ما يسميّ ب (الجنون الكاذب) أي أن أصوله الكيميائية البيولوجية العصبية ضعيفة أو غير موجودة وأن أعراضه- المجنونة - تلك إنما هي نتيجة عوامل نفسية واجتماعية وشخصية قاهرة، فإذا أخذنا حالة عمر (وهذا بالطبع ليس اسمه الحقيقي) يبلغ من العمر (25 عاماً) ولد علي ثلاث بنات أخوات (في كثير من الأحوال يكون الولد علي البنات مشكلة نظراً للتوقعات الهائلة منه، والضغوط الكبيرة عليه في مجتمع صارخ الذكورة، والداه علي خلاف دائم ومنفصلان يعيشان تحت سقف واحد، دخل إلي معهد خاص للكومبيوتر بعد الثانوية العامة وخرج منه صفر اليدين بعد ثلاث سنوات، ظهرت عليه الأعراض في صورة الجلوس في البلكونة كل ليلة وكل نهار، يتحدث مع نفسه بصوت عال معظم الوقت، يسب ويلعن الدنيا والظروف والحال المايل، انتقل بعد أن كلف والده الكثير من المال إلي جامعة خاصة، ظهرت عليه علامات اكتئاب حادة، عاني من بطء في التفكير، انخفاض في درجة التركيز وضعف في الذاكرة، ذكر أن مشكلته وقتذاك هي والدته، وقتها وصفها بأنها من النوع المتكبر والمتعجرف وأنها حادة وعنيفة جداً مع والده وعاد بعد ذلك واتهم أباه بالبخل والسلبية ولما خف تذكر والديه بالحسني. يشكو من أن الاهتمام يتركز علي البنات لأنهن شاطرات في دراستهن يصف الشقة التي يسكنون بها بأنها ضيقة، ولما ساءت الأمور واشتكي الناس في الشارع من كثرة سبابه في الشرفة انتقل إلي مصحة نفسية دخلها طائعاً وقال عند دخوله (أنا جيت هنا مش عشان أنا تعبان، لكن عشان أستريح، نوع من أنواع النقاهة يعني، لكل إنسان طاقة وأنا محتاج شوية راحة وطاقة يا جماعة)- هنا هو يعني ويدرك فهو ليس مجنوناً بالمعني الطبي النفسي ( لكنه يبدو للناس كذلك) وبمعني أصح هرب من جحيم الحياة المرهقة إلي (الجنون) فالأسهل للاوعي عنده أن يضحك لنفسه (وهي صفة يتشارك فيها كثير من المرضي نظراً لاختلاقهم خيالات وأفكارا وصورا معينة تضحكهم وتسليهم فيتلهون بها عن الواقع وينصرفون عنه) فها هو واقف في البلكونة يضحك ويكركر من الضحك، يثرثر وإذا دخل عليه أحد من المعالجين، يخرج من عالمه بسرعة يدخل إلي الواقع بسلاسة مما يدل- مرة أخري- علي انعدام المرض العقلي الحقيقي ووجود صورة كاذبة له.