لقطة قديمة بين الكاتبين يوسف الشارونى وعبدالعظيم مكاوى لن تسمعوا الليلة صوتي كما تتوقعون ، بل ستستمعون إلي صوت عبد الغفار مكاوي ، أحد أصدقاء العمر ، وهو يتحدث عن صداقتنا التي امتدت أكثر من ستة عقود ، وفيها تشهدون تواضع الكبار الذي هو صفة أصيلة من صفات نبل عبد الغفار. وهي كلمات مستوحاة معظمها مما ألقاه في اللقاء الذي أقامه المجلس الأعلي للثقافة احتفالاً بعيدي الماسي عام 1919. وهو يستهل كلمته بالاعتذار أنه لم يخلق رساماً أو نحاتاً أو موسيقياً لاستعادة ما يطلق عليه "آلاف النظرات الحنونة ، واللمسات الدافئة والابتسامات الطيبة والأسئلة الملهوفة عن الصحة والأحوال والأعمال. وليس أمامي في هذه العجالة إلا أن أرصد بعض ما يحضرني منها من الأحداث والمواقف والخواطر والذكريات . كانت أول مرة رأيت فيها عبد الغفار مكاوي في مكتبة جامعة القاهرة عند صديقنا المشترك بدر الدين الديب الذي كنا نتردد عليه في ذلك الزمن عام 1950 أو قبله أو بعده بقليل أثناء دراسة عبد الغفار الجامعية ولصداقتي المميزة مع بدر الديب بعد تخرجي عام 1945 وتخرجه في السنة التالية عام 1964 ، وربما كان من الحاضرين في هذه اللقاءات محمود أمين العالم الذي كان عبد الغفار قد تعرف عليه قبل ذلك في مكتبه قسم الجغرافيا حيث كان يعمل أمينا لها. ويعلق عبد الغفار علي اسم أمين العالم بقوله : ومن عجب أن الأمانة جزء لا يتجزأ من اسمه وسيرة حياته. ثم يتحدث عن نفسه كشأنه بتواضع معلنا حاجة التائه الحائر (هكذا يصف نفسه في هذه المرحلة العمرية) لليد الطيبة التي تدله علي الطريق وتظل ممسكة بيده حتي لا يقع أو ينكص أو يتوقف . وهو مشكوراً يعرّف السامعين بي : ريادة لقصيدة النثر "المساء الأخير". وكتابة القصة القصيرة ونشرها في مجلة الأديب اللبنانية وهو أحد قرائها ويخجلني حين أسمعه وأقرؤه يقول : لعلي كنت قد قرأت قصصه الأولي كدفاع منتصف الليل والوباء وغيرهما في تلك المجلة ، وتأثرت بهما تأثراً لا يقل عما فعله بي في ذلك الوقت كل من كافكا وألبير كامو . ثم يعلن حلقة من حلقات تواصلنا الأولي كنت قد نسيتها تماماً وذلك حين يقول : الأهم أن الراعي الطيب هكذا يلقبني مشكوراً طلب مني في ذلك الوقت إحدي قصصي وأرسلها بنفسه إلي مجلة الأديب اللبنانية لكي أفاجأ بنشرها وأتشجع علي مواصلة النشر فيها .. أعلم الآن أنها كانت قصة ساذجة وشديدة الارتباك والتواضع ربما أكثر من كل قصصي التي لا تخلو من هذه الصفات - نبرة تواضع يتسم بها معظم ما كتبه عن نفسه - ، والتي كنت واقعاً في تلك المرحلة تحت تأثير خليط مضطرب من أدباء الغرب وأدباء العرب. ثم يستطرد مشكوراً : لكنني أعتقد الآن أن تأثير القصة التي كان يكتبها الشاروني ظل متصلاً وفعالاً . ثم يواصل عبد الغفار سيرته الذاتية المبكرة قائلاً في نبرته المتواضعة - يسكن بدر الديب القديم أعلي عمارة في شارع مراد بالجيزة - في أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات ، تكرر اللقاء المؤثر مع يوسف الشاروني وعدد آخر من الأصدقاء الكبار في المقام والسن والمعرفة والخبرة في الكتابة والتجريب الذي شغل جيلهم وجيلنا كله بتغيير العالم بالكلمة التي تصوروا أنها نفسها فعل ثوري. ما أكثر ما عرفت في هذه اللقاءات وما أعظم ما تعلمت واستمتعت وتعذبت أيضاً.. كان معظم الحاضرين مع استثناءات قليلة من خريجي أقسام الفلسفة ومجربي الكتابة الطليعية واللامعقول ، ثم يتساءل : هل نبتت منذ ذلك الحين فكرة الكتاب الرائع ليوسف الشاروني عن أدب اللامعقول في مصر؟ هنا ترددت أسماء كثيرة سرق بعضها سنوات من عمري مثل كافكا وكامي اللذين سبق ذكرهما بجانب هيدجر وسارتر ورلكه وميترلنك والرومانسيين الألمان الذين كان لاستأذنا عبد الرحمن بدوي فضل تقديمهم في تلك السنوات إلي العربية. وهنا أيضاً شرح لي بدر الديب فلسفة سارتر بدقة وإيجاز شديدين. وأسمعنا بعض أقاصيصه الغريبة من كتاب حرف الحاء الذي لن ينشره إلا بعدها بعقود ثلاثة وبعض مسرحياته القصيرة ، وكان يدرّس المسرح اليوناني منتدبا في معهد الفنون المسرحية مما أغراني بعشق اليونان عموماً وبمسرحهم بوجه خاص وهنا أيضاً سمعنا بعض قصائد الشاروني التي نشرت بعد ذلك في "المساء الأخير" وربما سمعناه يقرأ بعض قصصه أو علي الأقل يكلمنا عنها وكم كان النقاش يحتدم حتي لتتحول الحجرة المحدودة إلي ميدان تتظاهر فيه وتتعارك شتي الاتجاهات التي تغلي بها ساحة الحياة العقلية والسياسية تتجاذبها الماركسية والوجودية والحماسة الملتهبة للحرية والوطنية والأدب والفن الجديد .. وهنا أخيراً لن أنسي أن المرحوم فتحي غانم الذي لم يتصل بعد ذلك أي خيط بيني وبينه كان يلعب الشطرنج بعد أن يعصبوا عينيه برباط سميك فيهزم كل من يتجرأ باللعب معه دون مجهود يذكر . اتصلت اللقاءات بعد انتقال الشاروني .. إلي المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب وبعد تعييني بفضل توفيق الحكيم رحمه الله وفي أيام إدارته بدار الكتب المصرية. وكان أن دعاني يوسف لزيارته وعرفت الطريق إلي بيته العامر بالحب والدفء والنظام والجمال والانسجام وأشهي ألوان الطعام بفضل رفيقة العمر التي ظللت وجوده ودعمته وحمته من رياح القلق والتوتر وهواجس الغبن والجحود. في هذا البيت العامر بالمعادي عرفت في تلك الفترة وبعدها بسنوات طويلة عدداً ممن أعتز بصداقتهم وألهج بفضلهم تحت سقف البيت المعطر بالحب والرضا والأنس والألفة. تعرفت إلي الشاعر والروائي والعالم والمهندس والمترجم الكبير محمد الحديدي الذي استحق بإنسانيته ووفائه ونبله أن يكون من أقرب الناس إلي قلب الشاروني إن لم يكن أقربهم إليه. كما أسعدني الحظ علي غير عادته معي! أن أتعرف أيضاً علي نهاد شريف ذلك الطائر الرقيق المحلق علي آفاق المستقبل وريادة أدب الخيال العلمي . في هذا البيت العامر أيضاً لقيت راعينا الأكبر يحيي حقي وكان في صحبة زوجته الفرنسية لا أذكر الآن متي كان ذلك ، ولا إن كان هذا اللقاء قد سبق انضمامي إلي أسرة تحرير المجلة تحت رئاسة صاحب العصا والقنديل رحمه الله أو لحقه لكنني أذكر تماماً كيف أن التأثر باللقاء لم يكن أقل من التأثر بأعمال هذا الأب العظيم والمعلم الكبير . وأقفز علي صهوة خيول الزمن لأصل إلي صيف سنة ألف وتسعمائة وستة وسبعين عندما تزاملنا في منحة للأدباء الأجانب من بلدية برلين بفضل أستاذي العظيم المستعرب فريتس شتيبات وتلميذه الصديق الرائع والناقد اللامع ناجي نجيب رحمه الله وعطر سيرته (من يتذكر الآن هذا المترجم القدير إلي اللغة الألمانية لعدد من روائع أدبنا القصصي؟!) أقمنا معاً في مسكن واحد حوالي ستة شهور بضاحية (فانزيه) في برلينالغربية آنذاك بفضل دليلنا الطيب ناجي نجيب واتصلت زيارتنا لبيت أستاذي وصديقي شتيبات شفاه الله وعافاه من مرضه الأخير ، وتعرفنا بفضله إلي عدد من أدباء المدينة وأديباتها ودارسي الأدب العربي فيها سواء في بيته في حي فريديناو أو في حلقة البحث التي أقامها عن تطور القصة العربية منذ ألف ليلة والمقامات إلي عصرنا الحاضر في معهد الدراسات الإسلامية الذي كان رئيسه وعميده. ثم يستأنف متواضعاً : نهض يوسف الشاروني بالعبء الأكبر في حلقة البحث هذه ولم أكن سوي "سنيد" يكتفي بالتعليق أو المشاركة في الشرح والترجمة ولم يفت يوسف الشاروني بحاسة التنظيم والترتيب المذهلة لديه أن يحضر إلي برلين وهو علي أتم استعداد لهذه الحلقة الدراسية ولغيرها من اللقاءات والندوات (التي كان من حظنا أن يشارك فيها عزيزنا المرحوم عبد الحكيم قاسم الذي كان يعيش أيامها في برلين قبل أن يقتنع أخيراً وبعد عشر سنوات من إقامته فيها ثم عودته النهائية إلي مصر أنه أديب مبدع قبل أن يكون دارساً أو ناقداً) . إن أنس فلن أنسي من ذكريات حياتنا وإقامتنا المشتركة في برلين أمرين تجدر الإشارة إليهما. فقد خطر لنا أن نترك وراءنا أثراً يدل علينا وربما ينجح في تقديم لمحة خاطفة عن ملامح أدبنا وذهبت للقاء أستاذ جامعي وشاعر مجدد وهو فالتر هولرر أسندت إليه الهيئة التي أعطتنا المنحة السابقة الذكر مهمة الإشراف علي سلسلة كتيبات بعنوان "كوللوكيوم" (حديث أو حوار مشترك) تنشر فيها نماذج مختارة من مؤلفات الأدباء الأجانب الذين تستضيفهم مدينة برلين عاماً بعد عام. حدثت الرجل عن فكرتنا ، وسلمته ترجمات بالألمانية لثلاث قصص هي رائعة يوسف الشاروني "الزحام" مع قصتين متواضعتين لي كان قد ترجم إحداهما صديقنا الحبيب ناجي نجيب. تعلل الرجل في شبه اعتذار فوري ونهائي عن صعوبة النشر وضيق الميزانية وضرورة انتظار رأي المحكمين .. إلي غير ذلك من التعليلات التي توهمت آنذاك أنها تشي بالاستعلاء الغربي أو المركزية الأوروبية المقيتة .. تركت له القصص وسلمت وشكرت وانصرفت وليس عندي أدني أمل .. وما هو إلا أن أيقظني صوت الهاتف في الصباح المبكر لليوم التالي مباشرة .. وإذا به صوت الأستاذ والشاعر الذي يلح علي حضورنا إليه في أسرع وقت ممكن لتوقيع العقد وأخذ صورة الغلاف التي كانت تلتقطها زوجته ، مع عتاب ضاحك لأن القصص حرمته النوم وشدته إليها من أول سطر فلم يتركها من يده إلا بعد أن انتهي من قراءة أخر سطر .. وما أسرع ما التقطت عدة صور ظهرت إحداها بعد ذلك علي الغلاف . كما تم نشر الكتيب نفسه مع التعقيب البديع بقلم أستاذنا وراعينا فريتس شتيبات ، في وقت قياسي . وهكذا امتدت علاقتنا حتي آخر لحظات حياته حيث كنا نلتقي أسبوعياً والسيدة الفاضلة قرينة الدكتور عبد الغفار الدكتورة عطيات أبو العينين (كما اقترنت ترجمتها لكتاب "رحلة مع اليوتوبيا" أو "المدينة الفاصلة عبر التاريخ" المنشور في سلسلة عالم المعرفة بالكويت عام 1999 بمراجعة الدكتور عبد الغفار مكاوي) أقول كنا نلتقي أسبوعياً في مقهي بشارع جامعة الدول العربية بالمهندسين مع أصدقاء مبدعين مثل الأستاذ فؤاد قنديل والدكتور أحمد إبراهيم الفقيه والشاعر عبد القادر حميدة والروائي محمد جبريل وزوجته الدكتورة زينب العسّال ، لنشارك مؤخراً في وداع جسده ، لكنه باقٍ معنا بإبداعه ومودته.