في زيارة أخيرة لنيويورك سألني الصديق جوزيف مسعد، الأستاذ في جامعة كولومبيا، ونحن نتحدث علي هامش المؤتمر الذي شارك كلانا فيه، سؤالا أريد أن أشرك القارئ في تأمله ومحاولة الإجابة عليه. كان السؤال بالتحديد هو لماذا لم يحظ محمد البساطي بالشهرة والمكانة التي حظي بها كثير من أبناء جيله من الكتاب، برغم أنه كاتب بديع، يواصل الإضافة للقص العربي بشكل منتظم وعميق، وأن إسهامه الأدبي يفوق إسهام من هم أكثر منه شهرة، وأوسع انتشارا. وكان جوزيف مسعد يسألني هذا السؤال في معرض حديثنا عن جديد الواقع الثقافي المصري، وعما يدور فيه من خلل. وجاء السؤال حينما أخبرته عن رواية محمد البساطي الجديدة (غرف للإيجار). وأظن أنه طرح عليّ هذا السؤال لأنني من نفس الجيل، وقد صاحبت رحلة البساطي وتابعت كتابته منذ البداية، وثانيها أنه يريد أن يعرف طبيعة الحراك الثقافي المصري، وآليات صناعة المكانات الأدبية فيه. وقد دفعني هذا السؤال لتأمل واقع عايشته علي مد مايقرب من نصف قرن، كي أستطيع أن أقدم إجابة مقنعة علي سؤاله. فلم يكن كافيا التعلل بأن هناك الكثيرين الذين يقدرون عمل البساطي ويحتفون بإضافاته المستمرة للسرد العربي. فلم يكتب عن روايته الجميلة الجديدة تلك ربع ما يكتب عن أعمال أخري لاتصل لعشر مستواها. ولم يعد كافيا التعلل بأن البساطي يدفع ثمن محافظته علي استقلاله عن المؤسسة الفاسدة، وهو أمر حرص عليه علي مد مسيرته الأدبية الطويلة. فأصبح ضميرا حيا للحركة الأدبية، يسعي كثيرون من كتاب الجيل الجديد للاهتداء برؤاه وآرائه وأحكامه. والواقع أن هذا النوع من التعليل فيه الكثير من محاولة إراحة الضمير، والاستنامة لأن وجود من يقدرون المكانة الأدبية والإضافة الحقيقية للبعض، ينوب عن تحويل هذا التقدير إلي رأي سائد، يتحول بدوره إلي ما يسمي بالشهرة أو الانتشار الواسع، وهي عملية أدبية معقدة تنتمي لسوسيولوجيا الثقافة. كما أيقنت أن هذا التعليل ينطوي علي تصور مضمر، يسلم بأن الحركة الأدبية المصرية فقدت استقلالها وبوصلتها معا، ولم يعد في استطاعتها إنتاج آليات حراكها المستقل، واستسلمت لنتائج عملية الخلط والتخليط التي لا تستطيع فيها أن تميز بين الشهرة الناجمة عن تسخير أدوات السلطة التي تقدم للمثقف بعض مكاسب الذيوع واللمعان مقابل احتوائه واستخدامه في مشروعها الأيديولوجي، والذي يختلف كثيرا، بل يتناقض، مع مشروع المثقف المستقل القابض علي الجمر، والطامح لأن يكون ضمير وطنه وثقافته الذي يقوم كما يقول إدوار سعيد بطرح الحقيقة في مواجهة السلطة/ القوة. فقد كان في الثقافة العربية، علي مد مسيرتها الحديثة مثقفون تحتويهم المؤسسة وتضفي عليهم شيئا من جاهها ووجاهتها، وتغدق عليهم من أموالها وسلطانها، ومثقفون يحافظون علي استقلالهم عنها، ويدفعون ثمن هذا الاستقلال غاليا من حريتهم وقوتهم، ويحصلون مقابله علي رأسمال رمزي كبير، يضعهم في مكانة أسمي من مثقفي المؤسسة، وكلاب حراسة رؤاها ومشروعاتها المشبوهة. لكن هذا الفرز الذي استمر فاعلا في الثقافة العربية حتي مرحلة الستينات عاني من ضربة لواحق هزيمة يونيو الماحقة وما جري بعدها من تغيير في الخريطة البنيوية للثقافة المصرية والعربية من ورائها. وخاصة بعد ضرب مركزيها التاريخيين: القاهرة وبيروت، وبداية الصراع بين الهوامش علي ملء هذا الفراغ. وكان أخطر ما انتاب تلك البنية هو ضرب الدائرة أو الحاضنة العربية الأوسع للثقافة المصرية، بعدما أحكمت مؤسسات السلطة آليات الحصار، وأقامت الحدود والسدود الرقابية وغير الرقابية في وجه السلع الثقافية المختلفة، وفي مقدمتها الكتاب والمجلة والفيلم. واستحال كل بلد إلي ساحة ثقافية شبه مغلقة، أمكن فيها تعزيز قدرة المؤسسة علي تلميع رجالها وتوفير المنابر لهم، وتمكينهم من تحكيم الخلط والتخليط فيها، وتلميع البعض والتعتيم علي الآخرين، لا وفقا لمعايير القيمة، التي تتأسس بها المكانات الأدبية، وإنما استجابة لآليات الاحتواء ومتطلباته. ثم دخل عامل آخر في السنوات الأخيرة، وهو غواية الجوائز وتسخيرها لآلة الإعلام الصحفية الضخمة لترويج اختياراتها من جهة، وارتباط هذا كله بآليات أخري، كانت قد بدأت في لعب دور جهنمي مخلخل في الثقافة العربية، وهي آليات الترجمة للغات الأوروبية خاصة، وما يرتبط بها من عائد مادي ومعنوي. لهذا كله لم تعد القيمة هي الصانعة الأولي للشهرة والمكانة، وإنما دخل لاعبون كثيرون علي الخط يعمل كل منهم وفق أجندته الأيديولوجية الخاصة. وأصبح الحقل الثقافي أكثر تعقيدا مما كان عليه من قبل. وهو أمر يتطلب من النقد النزيه أن يعلب دورا أكبر في تخليق منابره، وتوسيع دائرة تأثيره، وطرح رؤي الحقيقة في مواجهة زيف المؤسسة وتخليطها كي تلقف ما يأفكون. وكي تصبح المكانة الأدبية ورأسمالها الرمزي أكثر فعالية وتأثيرا في الساحة الثقافية العربية الأوسع، من ألق الشهرة المصنوع والزائف.