تختلف الأزمنة وتتبدل الظروف لكن يبقي المهرولون أكثر قدرة علي الاحتفاظ بطباعهم! والمهرولون ينتمون لفئة تتطوع لأداء مالم يطلب منها لنيل رضا السلطة رغم أن التاريخ يثبت أن من يجلس في الكرسي لا يعيرهم انتباها وإن كان يستفيد من الخدمات المجانية التي يقدمونها . تذكرت ذلك وأنا أقرأ خبرا نشرته جريدة " الأخبار " قبل أيام حول مومياء توت عنخ آمون ، حيث قررت اللجنة العليا للآثار المصرية تشكيل لجنة علمية للوقوف علي حالتها وتحديد مدي تأثرها نتيجة عرضها داخل الفاترينة الزجاجية التي تحفظ بها في مقبرته. لو أن الخبر توقف عند هذا الحد لتعاملت معه علي أنه أمر بالغ الإيجابية ، يثبت أن هناك جهات في هذا الوطن لا تزال مصرة علي القيام بمهامها العلمية وسط الأزمات المحيطة ، وهو أمر يبعث علي الاطمئنان ويبث روح التفاؤل ، خاصة إذا ما كانت هذه الجهات مسئولة في الأساس عن الحفاظ علي الهوية التي باتت مستهدفة حتي من الداخل . غير أن الخبر لا يلبث أن يستكمل بعبارة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام . العبارة أكدت أن اللجنة تعد تقريرا يوضح كل ما سبق ويحدد أيضا : " إمكانية إعادتها إلي التابوت الذي اكتشفت بداخله في قلب المقبرة ، والذي يمثل بيئتها الطبيعية والمكان الذي حفظت بداخله أكثر من ثلاثة آلاف عام "!! كلام خطير يحتاج ردا علميا من المتخصصين ، فالمومياء - حسب معلوماتي المتواضعة سبق أن نقلت من التابوت إلي الفاترينة في عام 2005 وبموافقة اللجنة العليا التي لم يختلف تشكيلها كثيرا . أتت عملية النقل في أعقاب فحصها بالأشعة الذي اعترضت عليه وقتها بحملة في أخبار الأدب، لكن التصريح الأخير يطرح سؤالا حول المبرر الحقيقي لإعادتها خاصة أن الفاترينة أكثر أمانا للمومياء لأنها مجهزة كما أنها تتعرض لمتابعة دورية تتيح فرصة تدارك أي خطر يهدد مابداخلها علي الفور . هنا يبقي احتمال وحيد يفسر ما سبق ، وهو أن اللجنة العليا تجاوزت صفتها العلمية وبدأت تفكر بأسلوب يمضي في ركب السياق السائد ، فهناك نسق فكري يتعامل مع المومياء بوصفها جثة يحرم عرضها شرعا ! وهو ما يعني ضرورة إعادتها من حيث أتت ! هذا إن لم تظهر فتوي تؤكد أن التوابيت بدورها محرمة وأن التعامل الوحيد الممكن مع المومياوات هو دفنها في التراب الذي سنعود إليه جميعا !! قد يبدو الاستنتاج السابق هزليا وغير وارد لدي من يقرأون هذه الكلمات ، لكن المشكلة أننا في زمان يولد فيه الجد من رحم الهزل ، كما أن هناك سابقة لا يعرفها الكثيرون ، وهي أن الرئيس السادات قام بإغلاق قاعة المومياوات بالمتحف المصري عندما صدرت من بعض الجماعات الإسلامية فتاوي تحرم عرض جثث الموتي ! وظلت القاعة مغلقة لسنوات قبل أن يعاد فتحها وتنضم إليها قاعة جديدة تضم مومياوات أخري . فإذا أضفنا إلي ما سبق بعض الفتاوي التي تصدر عن ضرورة هدم الأهرامات وأبي الهول باعتبارها أصناما لاكتشفنا أننا أمام كارثة محتملة ، وبدلا من مواجهة الخطر نكتفي بالسخرية منه رغم أنه تحول إلي واقع قبل سنوات في أفغانستان عندما تم هدم ( صنمي !! ) بوذا . الغريب أن الخبر مر في صمت ، ولم يتحرك أحد من علماء الآثار ليعترض . والأكثر غرابة أن وزارة الآثار بدأت - علي ما يبدو - في لعب دور يتناقض مع واجبها الأساسي الذي يتمثل في الدفاع عن الحضارة ، ورغم أنه كان يفترض بها أن تستنفر قواها كي تتصدي للخطر الواقف علي الأبواب ، إلا أنها قامت علي العكس - بفتح الباب له علي مصراعيه . وإذا كانت البداية مع مومياء الملك الشاب فإن الدور سيحل علي قاعتي المومياوات ، لتتوالي التوابع بعد ذلك بالجملة ، فالتماثيل أصنام والنقوش حرام وزيارة القبور ( في وادي الملوك وغيره ) مكروهة ! وهكذا يمكن أن نصحو يوما لنفاجأ بأن الوزارة انشغلت بتشكيل مئات اللجان تكون كل مهمتها هي إعادة الآثار إلي باطن الأرض " الذي يمثل بيئتها الطبيعية !! أنتظرتوضيحا من الأعضاء الذين احتفظوا بعضويتهم في اللجنة ويفكرون في إعادة المومياء إلي تابوتها بعد موافقتهم السابقة علي نقلها منه! وهو توضيح مهم لكي لا نفاجأ ذات صباح برأي (علمي ! ) يخرج علينا مؤكدا أن إكرام المومياء .. دفنها !