الخطابة علم يستطيع الخطيب بتطبيق قواعده ودعامة الملكة الراسخة في نفسه علي مشافهة المستمعين بفنون القول المختلفة، لحملهم علي مايراد منهم بإقناع العقل وإمتاع النفس، فالخطابة علم له أسسه وقواعده ومبادئه وأصوله الخاصة به. والخطابة تسير علي محورين أساسين : الإقناع المؤثر في عقول المستمعين، والإمتاع المؤثر في نفوسهم. يقول الجاحظ : (الإعراب عما في النفس وتوضيح مايريده المتكلم وحسن نقله إلي مستمعيه حتي يفهموا عنه كل مايريد، ثم يتأثروا بما يفهموه يجعل المستمعين يطيعونه فيما أمر وينتهون عما نهي). وللخطابة في حياتنا أهمية عظمي ومكانة عليا لأنها بجميع أنواعها (الدينية أو الاجتماعية أو السياسية أو القضائية أو الحربية) تدور في فلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن، وكفي بها شرفا وفضلا أنها وظيفة الأنبياء والمرسلين والتابعين لهم من الدعاة والمصلحين، وكفي بها شرفا وفضلا أنها تتعلق بنفس الإنسان وروحه وعقله وضميره. والخطابة كأي فن من الفنون تحتاج إلي مجموعة من عوامل تعين الراغب فيهاعلي السير في طريقها بقدم راسخة ونفس مطمئنة. أول هذه العوامل هو : الاستعداد الغريزي والفطرة المواتية والموهبة الطبيعية، فالخطابة ملكة معنوية فطرية توهب ولا تكتسب، وتمنح ولا تباع ولا تشتري، فهي تنبع من داخل الإنسان ولا تفرض عليه من خارجه. والعامل الثاني هو : دراسة الأصول النظرية لعلم الخطابة واستيعاب مسائله والإحاطة بقوانينه. فالموهبة الخطابية ودراسة علم الخطابة عاملان متلازمان، ولا يغني أحدهما عن الآخر حتي تحقق الخطابة هدفيها:إقناع العقل وإمتاع النفس. أما العامل الثالث فهو معاشرة الكتب ودوام القراءة وسعة الإطلاع في شتي ميادين المعرفة، فإن أهم ما يعين الراغب في الخطابة علي تحصيلها الاطلاع علي مصادر المعرفة والثقافة، ينهل منها بفكره، ويغترف منها بعقله. والعامل الرابع رباطة الجأش وضبط النفس والجرأة علي مواجهة الجماهير وذلك عن طريق اتصاف الخطيب بالعزيمة القوية التي تولد الثقة بالنفس والجرأة في القلب والشجاعة علي القول بالمشافهة. ولقد قيل لعبدالملك بن مروان : عجل إليك الشيب يا أمير المؤمنين فقال : وكيف لا يعجل عليَّ وأنا أعرض عقلي علي الناس في كل جمعة مرة أو مرتين؟!، أو قال : شيبني صعود المنابر والخوف من اللحن. وأخيرا المران والممارسة والاحتذاء، فالراغب في تحصيل الخطابة والوصول إلي ذروتها لابد له بالإضافة إلي ما سبق أن يقوم بتمرين نفسه علي الخطابة تحت إشراف المتخصصين في مجالها، وأن يقوم بممارستها عمليا بصعود المنابر وغشيان المحافل، ثم يحتذي ويقتبس من أساليب السابقين عليه والمبرزين في عالم الخطابة والبلاغة والأدب، لأن الاقتباس يبعث علي الجودة ويعين علي التحسين والإبداع، فاللسان وهو آلة الخطابة شأنه شأن أي عضو من أعضاء الجسم يقوي بالتمرين والممارسة. وصفوة القول في مجال تحصيل الخطابة أن الراغب فيها لا ينالها ولا يحصل عليها ولا يصل إلي ذروتها إلا إذا استعد لها بموهبته وفطرته، ودرس أصولها وقوانينها، ووسع دائرة اطلاعه وثقافته، واستطاع ضبط نفسه وتقوية قلبه، ثم مرن ودرب لسانه عليها أمام الجماهير وجموع المخاطبين.