كانت رحلة بالغة السوء كنت قد قررت أن أغير من رتم حياتي المملة فما لبثت أن قبلت دعوة صديقي للسفر إلي لبنان لتمضية ثلاثة أيام بمنزله في الجبل، حيث صفاء الجو ونقاؤه وكان يلح في ذلك الأمر منذ فترة طويلة. لم نكد نصل المنزل في أعلي الجبل ورأيته يلامس السحاب، فأحسست أني سوف أمضي ثلاثة أيام في الجنة.. ولكني استيقظت من أفكاري فجأة علي صوت صديقي يصيح.. - حقيبتي.. لقد استبدلت بأخري.. ماذا أفعل.. أدويتي .. ملابسي .. أوراقي.. بدأ الأمر يتضح أمامي.. هذه هي بداية الرحلة.. اتصل بشركة الطيران.. أخبروه أن يحضر في اليوم التالي.. ضاع اليوم الأول في الحديث عن.. كيف لم تلحظ الفرق بين حقيبتك والحقيبة الأخري المجهولة.. - لا أدري.. فهي تبدو مثلها تماما.. - كيف لم تلحظ ثقلها الشديد بالمقارنة مع حقيبتك.. - لا أدري.. ظللت متيقظاً طوال الليل.. رفض النوم أن يغلب جفوني.. أمضيت الوقت في التفكير.. هل هذه اشارة من السماء بأن تلك الرحلة مشئومة.. بعد ساعات من الحيرة بدأ ضوء الفجر يتسرب من نافذة الغرفة التي وضعني بها صديقي.. فتحت النافذة.. بدأ السحاب من هذا العلو الشاهق يخترقني.. لوحة رائعة رسمها الخالق في السماء لا يستطيع أن يضاهيها أعظم فناني الكون.. سرحت ببصري.. نسيت كل شيء.. أحسست أني بمفردي وسط السحاب.. ظننتني طائراً في الفضاء.. تمنيت لو أن لي جناحين أفردهما وانطلق إلي أقصي نقطة رؤية ولا أعود ثانية.. هل يمكن أن أعيش حياتي حراً كالطائر بدون حدود أو قيود.. أفعل ما شئت وقت أريد.. هل أستطيع ذلك مرة واحدة في حياتي.. حياتي التي تسير مثل الساعة.. كل شيء ولو صغير بحساب.. كل شيء مخطط.. أعيش مثل الإنسان الآلي مجرد تأدية أمور تافهة.. كل يوم مثل اليوم الذي يسبقه أو يليه.. ليس هناك من جديد.. سوي المشاكل اليومية العارضة التي أتصدي لحلها.. لا أشعر أني أعيش حياتي.. لا أستطيع الاستمتاع بأي شيء.. حتي الطعام.. حتي.. - خرجت من أحلامي علي صوت صديقي يدعوني للتحرك إلي المطار لتسليم الحقيبة والبحث عن حقيبته.. انطلقنا إلي المطار وظللنا هناك حوالي خمسة ساعات حتي أسترد حقيبته وبعدها ذهبنا للعشاء وأخبرني بأنه يجب أن يعود للمنزل ليتناول أدويته ويغير ملابسه.. وهكذا أنتهي اليوم الثاني.. عندما أويت لفراشي ذلك المساء.. أقسمت أني لن أضيع اليوم الثالث والأخير بدون أن استمتع قدر ما استطيع، وأغلقت عيني وأنا أكرر.. لن أضيع هذا اليوم.. لن أضيع هذا اليوم.. لن أضيع هذا اليوم.. غمر ضوء الفجر الغرفة فصحوت علي الفور وبدأت أستعد.. توجهت علي الفور إلي الحمام واغتسلت.. ارتديت ملابسي وجهزت الكاميرا.. بهدوء نظرت إلي غرفة صديقي فوجدته يغط في نوم عميق.. هززت رأسي وقررت أن أتركه يكمل نومه.. أمسكت بالهاتف واتصلت بشركة تأجير السيارات، وطلبت سيارة ليوم كامل.. بعد نصف ساعة كانت السيارة تنتظر أمام المنزل.. وضعت النظارة السوداء علي عيناي وركبت السيارة.. طلبت من السائق أن يتوجه إلي بيروت أولاً لأتناول طعام الإفطار وسط المدينة الجميلة.. بدأت أراجع التخطيط الذي أعددته لهذا اليوم.. بعد الافطار وجولة في المدينة أتوجه إلي مغارة جعيتا ثم أصعد إلي منطقة حريصة حيث أنزل من هناك بالتليفريك واتجه نحو مدينة زحلة لتناول الغذاء وبعدها العودة للمنزل بالجبل لتجهيز الحقيبة استعداداً للسفر إلي القاهرة في صباح الغد ... و صحوت من أفكاري علي صوت السائق.. - يا معلم.. سيارة معطلة علي الطريق وطالبين مساعدتنا.. نظرت فوجدت فتاة شقراء تقف بجانب السيارة المعطلة وتشير بيدها لنا.. بدون تفكير صرخت في السائق.. وقف.. وقف.. نزلت من السيارة وتوجهت ناحيتها.. عيون زرقاء لم استطع منع نفسي من النظر إليها.. وجدت نفسي اتحرك إليها وكأنني أسير نائما.. ظللت سائراً.. تنبهت فجأة قبل أن أصطدم بها.. نظرت لي.. رمقتني بنظرة تعجب وبادرتني قائلة.. - ممكن توصلني لبيروت معاك لأن سيارتي تعطلت؟ هززت رأسي بالموافقة.. لأن صوتي اختفي بداخلي.. أخذت حقيبتها ودخلت إلي السيارة.. جلست بجانبها وانطلق بنا السائق .. ظللت صامتا وبدأت هي في الكلام.. لم أفهم كثيراً من كلامها ولكني كنت مبهوراً بجمالها.. عيناي مثبتة عليها.. تلحظ كل حركاتها وتتابعها في اهتمام.. عند مدخل بيروت طلبت هي من السائق التوقف عند جانب الطريق.. نظرت لي.. برفق طلبت أن ننتظرها لتدخل دورة المياه.. برشاقة قفزت من السيارة.. ظللت أتابعها وهي تخطو بدلال حتي أختفت عن ناظري في أحد المباني.. مرت حوالي عشر دقائق.. بدأ القلق فجأة ينتابني.. لا أدري لماذا.. تلفت حولي.. وجدت حقيبتها بجواري تفحصتها بعيناي.. كبيرة الحجم علي فتاة مثلها.. صوت سارينة ينطلق.. يقترب.. جسدي ينتفض.. لا أدري لماذا.. يرتجف في عنف.. مجموعة من السيارات الفارهة تقترب وأمامها دراجة نارية تطلق سارينة.. اتلفت حولي.. لا أعرف ماذا يحدث.. الحقيبة بجواري يصدر منها صوت عجيب.. أنفاسي تتسارع.. عيناي تتحرك في كل اتجاه.. قلبي يكاد ينخلع من شدة ضرباته.. انفجار هائل.. أطير خارج السيارة.. ارتفع إلي السماء.. ألمس السحاب.. أشعر به يخترقني.. وحيداً وسط السحاب.. طائرا في الفضاء.. رأيت لي جناحين أفردهما.. وانطلق.. اسمع أصوات صراخ وعويل.. انطلق.. انطلق.. أشعر بحريتي.. لا حدود.. أنا حر.. أنا حر.. لن أعود.. لن أعود.