لم أقرأ روايات حسن داوود فحسب بل حضرت ولادتها تقريباً واحدة تلو الأخري، هكذا تيسر لي أن ألاحظ كيف كانت عمارته الروائية ترتفع عملا بعد عمل بقدر من الضبط والتجريب المتأني والحفر البطيء، بحيث يمكن قياس كل رواية بالنسبة إلي سابقاتها ورؤيتها كحلقة دينامية داخل مشروع يتقدم عبر وحدات تتعلق ببعضها بمقدار ما توطد كل منها كيانها الخاص. ذلك ان حسن داوود منذ روايته الأولي بدا وكأنه يملك ذلك المشروع. كانت »بناية ماتيلد« بنفسها لكن أيضا بالأفق الذي رسمته لمستقبلها. منذ ذلك الحين تصنع رواية حسن داوود »تقاليدها« الخاصة وتتحرك داخلها وعلي حدودها وخارجها وأحيانا في مواجهتها لكن بحساب وضبط وحرفة بحيث ان التوليد والتجريب لهما قياساتهما داخل العمل نفسه بقدر ما لهما خارجه. يمكن القول لذلك إن رواية حسن داوود ولدت وهي تهجس بمستقبلها وفي ضميرها منذ البداية مثالها الروائي، الرواية الخفية الكاملة التي تتقدم في ظلها. من هنا يصح الكلام عن مشروع وعن تقاليد خاصة كما يصح القول أن رواية حسن داوود ليست فنه الروائي فحسب بل هي، علي نحو ما، نظريته في الرواية. حسن داوود، كما قد يحدس قارئ مثابر، لا يكتب روايته فحسب، بل يضع هكذا نموذجه الروائي وهو بالطبع دينامي ومتحرك لكنه ليس بلا أسس، انه بنيان منذ البداية بل يمكننا ومن الصفحات الأولي ان نلاحظ ان الرواية تنبني أولا، وليس علي غرار سابق، فهي تقريباً تتخلق وتتوسع كهيكل وكعمارة. تتراءي لمؤلفها منذ البداية كذلك ويكون فنه الأساسي »تعميرها«. من هنا نشعر أن شيئا كالرسوم التخطيطية سبق الرواية كما كان يفعل مخرجون معروفون. بل نشعر أن عمل المعماري الذي هو الروائي هنا هو أيضا يشبه »التفريغ«. أن الرواية هي تلك الهندسة الفراغية إذا جاز القول، ذلك يعني أن تناظر المسافات وعلاقاتها وحدودها هي الأساس. عمل الروائي هنا أبعد ما يكون عن المراكمة والتجميع والثرثرة والترسل بلا حساب، عمل حسن داوود الروائي هو تقريبا عكس ذلك، انه التفريد والحذف و»التفريغ«. كل ما سبق علي اللحظة الروائية يجري حذفه وإن ترك طبعته، كل جواذب السيولة والتفوه والفولكلور والحكواتية تصد بعناد. ما يبقي هو ما يندمج في الآن الروائي في اللحظة الروائية، ما يتكثف ويتبأر فيها، كل العناصر تشعشع في هذه اللحظة الموارة وتصدر عنها. لا يبقي من الخبرية أو الحدوتة إلا ذلك، لا يبقي من الشخصيات والوثيقة الاجتماعية أو التاريخية أو البسيكولوجية الا هذا، فاللحظة الروائية هي تحويل دينامي وضوئي لكل هذه الشوارد. لنقل ان الفن الروائي آنذاك هو تلك العجينة المشعة والخلاصات النابضة لمواد تعرضت »للمسّ« الروائي. يمكن ان نتكلم هنا عن »التحويل الروائي« كما نتكلم أحيانا عن التحويل الشعري. رواية حسن هي بدرجة أساسية صناعة لغة، ليس فقط لأن أدب حسن هو أيضا علاقته بالكلمات وموسيقاه الخاصة في اللغة وحيزه وشغفه اللغويان. بل لأن الروائي هو هنا صانع استعارات كبري. يتمتع قراء حسن الخبيرون بقدرته علي إيجاد معادلات مركبة وبصرية لمشاعر وأفكار، لكن قراءه الخبيرين أيضا يدركون أن رواياته هي سينوغرافيات ضخمة. إن أمكنته وشخصياته وأحداثه هي كذلك في »واقع« من صنعه وفي حياة من صنعه. انها كذلك وبالدرجة الأولي »صور« كما نقول في الشعر، لكنها، ومن الناحية نفسها، استعارات لا تنضب دلالاتها. عجوز »أيام زائدة« ومشوه »غناء البطريق« وأبله »مئة وثمانون غروباً« كائنات تبحث باستمرار عن نظائرها وتخترق عالمنا بلا تمهل وتقف بيننا وبين أنفسنا. حسن داوود بدقة جوهري وسمع طبيب، وبدون أي رطانة شعرية، يصنع من »واقع« صرف صوره وكائناته التي تعيد استفهام الواقع وأحيانا استفزازه. إنها أيضا فكرتنا عن الشعر. حسن داوود كذلك شاعر الرواية.