صباح الخير «هفالو». هفالو يعني صديقي بالكورديّة. الوقت متأخر «الثانية فجراً» أرجو ألّا تكون نائماً. فعندي حكاية أو ورقة خريف ليس أكثر. أحبُّ أن أحكيها لكَ قبل النوم. هل أنت قادر أن تسمع من كل هذا الوجع حكايةً. هل تحبّ الحكايات قبل النوم؟ وحدها أنفاسي اللاهثة خلف الكاميرا... التي تَقَمّصْتُ دورَ خَيّالٍ كرديّ لها... تعلمُ كَمْ كان الخوف ورقةً راعِشةً أمام ما انتابني أثناء تصوير مشاهد في «حمص- بابا عمرو»... رعشة الأصابع كما لو كان دبيبُ كلِّ نَمْلِ الكون يسكنها... وَحْدَهُ يَعْلمُ وحدهُ الثلج علي أطراف أصابعي يعلمْ. حكاية أنني من شعب يَعْرفُ معني الظلم جيداً. إنه الشعب الكوردي... وجَعُ الله علي الأرض وأحلي مَخَاضاتِ السماء. وأني باسمك شعبي، أحببت أن أرسم لوحة لهذه الثورة العظيمة. ولصلاةٍ صارَتْ مدينةً من بشر وشجر وحجر... اسمها حمص. بعد شهر من مُحاولةِ تأمين مُصَوّرٍ مُخْتَّصٍ أدركت أنني لن أفلح بذلك... وبدأت أجزم بأنني من سيقوم بهذه المهمة. الكاميرا سلاحُ الجريمة. كانَ عليّ أن أقطع حوالي ال500 كلم لأُهرِّبَها في «...» وأدخلها حمص. لتتخفي من مكان إلي مكان مصابة بالرعب حين أري الجيش علي أبواب البنايات حيث تنام الكاميرا. فأخفيهافي مكان آخر... فآخرَ. فآخرَ. إلي أنْ تستيقظ في بابا عمرو... فتكون خيط الدخان الأبيض لي لأبدأ مهمتي. رتَّبْتُ كلَّ شئ كأنيْ لن أعود. وحدَها دُمُوعي في وجه أمي... لم أستطع ترتيبها. وبشغب ولدٍ صغير بعثرتُ كلَّ المعاني. قبل أن تصيح بي العتبة لا تخرجي. هذي هي حمص. كل شيء يبكيك لو كنت ستخرج بعد العتبة. عتبة الدار أو الروح أو الحلم. لأن «القنَّاص» لم يَعُدْ يترك لدمعك عيناً بعد بابِكَ المخلوع منذ أول مداهمة. لا أدري كيف وكم قطعنا. ولا كيف ومَن قَطّعنا لأجد نفسي بعد الحاجز اللئيم داخِلَ بابا عمرو المُحَرّرَة إلا قليلاً. كان عليَّ أن أبدأ فوراً. بلا أي تردد... لأن الدقيقة القادمة قد تطفئ الحلم... دفء الحلم. طويتُ أنوثتي في جيبي إلي حينْ. كانوا كلهم ظلالاً لمعاندة قدر ظالم. لم يكونوا مجرد رجال وشباب. في جيبي طويتُ أنوثتي ورتبتُ لي ظلاً كظلهم ومضيت. كان ركضاً هستيرياً أحياناً وربما زحفاً علي الركب. ولم أكن ألتمس سوي الوصول إلي المعني مجسداً في صورة تهرب إلي كاميرتي الصغيرة. بدأت من منزل بلا كهرباء يُلْجِئُ عائلاتٍ وبكيت معهم. وضممت أرواح المكان في شموعِ قصصهن المفجعة. ثمَّ شارع ورصيف وحارة مهجورة وبناء شبع القصف منه وما ارتوي كيدُ رُماته. بين خوفي وجبروت الحلم. تَيَبّسَ الدمُ في عروقي وأنا أتسلق الجدارَ لأصِلَ ثقباً أعلاه... يخفيني عن القناصة وأن اأصور الدبابة التي لم تترك للصلح مطرحاً. بين صورة الدبابة من ثقبها في جدار وبين صراخ الشباب المرافقين «ارجعييييييي». وصوت الرصاص... مسافاتٌ من لُهاثٍ وموتٍ يتقَمّصُ الحياة. صحراء الرمل في أكياس الرمل ردَّت عني جواب البقاء لأولي رصاصاتهم. صدري صارَ أنبوب اختبار لزمرة دمي الغريب عن البشر كما بدا لي وهم يمطروننا بكل ذاك القصف. ولم أرجع إلا وقد صوّرت البناء المحترق... وتبّاً لمن عاد ولم يظفر بما جاء به إلي هذا الموت. هل كان كل هذا الدمار بانتظاري لأنزفكلَّ خوفي علي مدارات قنَّاصَةٍ يحرسون ما دَمّرُوه؟ كنت أزرع الأسئلة وسط كل ما مَرَرْتُبه من أنقاض علَّ جواباً يُثْمِرُ بينها ذات مَرَّة. الليل الذي لم يترك لي سوي كتل اللحم الدافئة الصغيرة المندسة بين بعضها كقطط الحارات وطفل بقي بينهم لم يعلن انتماءه إلي السلطان ولا عرف النعاس منذ 9 أشهر. نظر إليّ في الليل وقال... لا أخاف الرصاص ولا العسكر. لم يكن طفلاً من دمع. كان طفلاً من صنوبر... وعلي جنبات القلب والليل تدحرجت ألف آهة من باب الغرفة تترحم كلٌّ علي عائلتها. وكلّ آهة هي الناجي الوحيد. عتمةُ حمص وشرارات حقدهم وجدران من البرد القاتل. وآه يا برد حمص. ربما غفوت قليلاً. وعدت لأكمل بين ضلوع الصبح ما بدأتُه البارحة. تلك المُقْفرة انسلَّتْ إلي الكاميرا. والشمس أفضت إلي أطفال يزرعون أحجار البيوت المهدمة فوق بعضها بعضاً. وحين تتلعثم لهم وأنت تخفي حيْرَتَكَ «ماذا تزرعون؟». يصدمون ضعفك... «نُعَمِّرُ بيتنا». أطفال بابا عمرو جبال من شرايين وبقايا لحم... وكثير من ياسمين. الحياة تزدرد القبور. المقبرةُ تلبس قبورها الجديدة الفارغة. المقبرةُ تُرَتِّلُ أغاني قاطنيها القادمين. إنهم في بابا عمرو يُعِدُّون لموتِهم كما نُعِدّ لحياتنا... يا ألف آه تشقّ صدرك حينها وترتمي علي صوتك خرساء. والبلبل الشهيد وأمه المشدوهة وأبوه والكل في بابا عمرو شهداء... أنت تتنقل بين الشهداء... لا حيّ باقٍ هنا يا صديق. وتظاهرة المساء... وجدتني أصرخ بها بلُغَتِيْ ولغتهم وأغصّ أمام رهبة الموت. يتجلّي بكل ما فيهم من حياة. وماذا أحكي... لم يعد لكل ما يقصف به أولئك المارقون معني. كل شيء هنا يقولها... أصوات الثكالي وشعارات الجدران وتظاهرة الجمعة واللافتات والأطفال وبقايا العرائش والشوارع المقفرة وأكوام القمامة التي عاقبوهم بها. والقبور والشجر والسكة الحديد الممتدة علي جسد بابا عمرو بغنج. ماذا أحكي لك؟ عن الأطفال يهتفون لي من رأس كل شارع ب «الكرديّة» ويضحكون فتبتسم كل شوارع حمص هنا علي جروحهم الصغيرة وتنتفض ألف صلاة. وتلغي القنابلُ تظاهرة المساء فيودّون لو صاروا عصافير تتظاهر في السماء. كيف بقيت لا أدري وأين وماذا؟ كل اللغات والقواعد هنا في «بابا عمرو» تتساقط منك وتصير أنت ابنها «عمرو». يتثاءبُ في دمك شهداؤها فتخرج صباحاً وتحرص كما يُطلب منكَ ألا تلتفت وتركض أسرعَ منكَ لتقطع الحاجز بسلام. تصبح خارج حدودها... ويبقي قلبُك مُعلقاً علي صباحها. لا أدري كيف الآن أجدني خارجها ولاأبكي؟ ويبدأ التعب من جديد... لتحمل كل ماصوّرتَهُ «500 كلم» لتؤمّن لصورتها الهواء والسلام. وتعود من دون أن تعود. الآن... وبصوتي. بسيناريو بسيط جداً لفيلم بسيط جداً أودّ أن أقول لك... من تحت ركام أضلاع حمص. أسعد الله مساءَك. اليوم انتهي الفيلم وبدأ الترقبّ. لست خائفة مهما حصل. أرواح من ذهبوا... وأخي المعتقل وابن عمي وجاري وألف حرّ بكل أرواحهم التي تتعذب الآن... لن تكون أغلي من روحي أبداً. سأموت حرة كما عشت يا صديقي... لن أهرب... أسكن بين «دمشق» و«عامودا». أناكوردية. اسمي الكوردي «سيماف» أحبه. ومعناه ماء الفضَّة. الفيلم أنا باسم شعبي «الكورديّ» هديةً للثورة السورية ولحمص الصامدة. أسم الفيلم الحركي «سيماف» ومعناه «ماءُالفضَّة». لكَ روحي يا صديقي. لأنني أعرف أن ما بها سيلزمك. وسط كل هذا الشوك هل تذكر «حنظلة الحومصي» الذي كتب لك مرةً؟ هو أيضاً شخصية اخترعتها ليكون ابن وجع حمص. و«ناجي الكوردي»... والله حين أكتب بلسانه أبكي. و«عمّو أبو دبابة» و«عمو أبو قصيفة» و«عمو الصبح». الفيلم بأمان. خارج الحدود. أرجو أن تشاهدهُ. قريباً. قريباً جداً... العرضَ القادم Soon كما يقولون أسامة: هل تسمحي لي بنشر هذه الرسالة.في «الحياة»؟... ماء الفضّة: لك الحريَّة بما صارملكك. أسامة: لكِ الشوقُ والشكرُ والحياةْ.