من أين يأتي الشعر، وكيف للمخيلة أن تجد مكاناً يستحق صخبها، وجنونها، وللذات أن تسطع علي مسافة ما منها، وللأني أن ينبت من شجرة تسمي الماضي؟. وهل يمكن لما اعتدناه حكياً أن يثمر بالشعر، إنها الألعاب المدهشة التي قدمها «محمود قرني» في ديوانه «لعنات مشرقية» حيث تتجلي الذات المراوغة برغم كل الأقنعة، ويتشكل ما هو سردي حتماً- أو هكذا ظنناه - كقطع من الطين الصلصال في يد خزاف ماهر، وفي إنسيابية تناسب قصيدة الحساسية الجديدة يعيد تشكيل العالم انه يبدأ من الأسطوري ليكشف زيف المعاش، والبؤس، وسادية مجتمع نعيش داخله.. فمن مواجهة القمع الموروث داخل متاهة «ألف ليلة وليلة» يبدأ كمقدمة في صدر الديوان (أخذوني في جملة الغنائم... كنت صغيرا فقطعوا احليلي وها أنا علي حالي بعد أن باعوني خادماً من هذه المأسوية التي لاتنتهي بصورها وتحولاتها يكشف قسوة اللحظة في شفافية (النوافذ المفتوحة كانت مليئة بالجواسيس والشرطي في نهاية الشارع كان يفعص أفكارا يقول إنها ممنوعة ويجرجرها بقوة شكيمته إلي المخفر). وكذا... (ولقد سرق قلبي في حادث سطو) وليست القسوة المادية وحدها مايواجهها داخل نص جمالي في جوهره، وإنما قسوة الاستسلام ، والتبعية للخرافة دون وجود شهوة للعقل في الخروج للهواء الطلق (أصرّ علي تحطيم غرفته السرية توجد منحوتات هائلة لطيور خرافية تسقط علي رأس ملوك «توليدو» ويواصل المقطع الذي ينتهي... (ثم تعثر في كتب العرافين الأوائل الذين بشروا من يفتح غرفة السر بالموت علي يد الغزاة) أو ،..... (حسب الروايات المتواترة عن جدتنا ورد الأكمام ربي، وبكل أسف، لايستطيع المرء إحصاء من ناموا معها) وهكذا يواصل من خلال السرد الشعري كشف جوهر عالم شرس وشديد البشاعة مستخدماً العديد من الألعاب السردية التي لاتكشف سوي عن ذات تتوحد إلي الخلاص انه يبدأ من الثابت، والمدون لينطلق في فضاءاته مرفرفاً بعيداً داخل مقاطع الديوان التي بلغت 43 مقطعاً تشكل وحدة واحدة تعلن رفضها، وتمردها، وتقدم اعترافات يبوح بها بلا ضجيج، وبقسوة شديدة النعومة دون أن يفرط في السرد ليخرج به عن السياق الشعري، أو يستسلم لما هو مجاني، وعادي كالنماذج المصطنعة التي تتداول داخل المشهد الشعري فلا يحفل بالمقولات السابقة حول القصيدة، أو النماذج المتاحة، والتي يسعي الشعراء غالباً بعد إنجاز عدد من الدواوين أو المجموعات الشعرية إلي الاتكاء عليها بدعوي التراكم دون محاولة للتجديد، والعثور علي موسيقي أخري أو تفاصيل جديدة من أجل خلاص النص... وهذا الديوان القصيدة الذي يعد تجربة جديدة نجح خلالها محمود قرني في استنبات الشعر من داخل الحكي، وإعادة انتاج مساحة من التراث دون الوقوع في غوايته أو التيه بين دروبه -شأن شعراء جيل سابق- بل قدم نصا موازيا، وجنسا أدبيا مختلفا هو القصيدة في القالب الذي تم تصنيفه دائما بالنثر مؤكدا قدرة قصيدة النثر علي احتواء الكثير، وإعادة تشكيله، وصياغته ليقدم نصا مراوغاً قد يبدو لأول وهلة ذهنياً، ولكنها واحدة من الحيل والألاعيب التي يرقص من خلالها بين مقطع، وآخر علي إيقاعات من الألم، والتمرد علي الذات، وما هو كائن، ويختم الديوان القصيدة في براعة شديدة حيث اختصار حياتنا نحن المهمشين بين ميلاد، وموت وإن استسلم لقدرية مجحفة في النهاية -أو هكذا بدا لي... (أيها الشرق الحزين لم يسعك العالم الفاني فنم قريرا في غسق الأبدية) وهكذا، ومن رحم الأسطورة التي لم تكن سوي غلالة رقيقة يمتعنا بشاعرية جديدة يقدم من خلالها رؤية مغايرة علي مستوي الوعيين المعرفي، والجمالي ودون إعادة الحديث حول آليات السرد، أو التداخل بين الأجناس الأدبية، والتناص بينها فنحن أمام نص شعري يحفل بالصور الكلية واستخدام التمثيل والتجسيم بما يثري النص جماليا فنجد التجسيم والذي عادة مايتداخل مع الصور الكلية المركبة مثل (وعندما أفلت البحر من بين أصابعهم وتحولوا باتجاه الجنوب اشتري الفلاحون عكازاً ونظارة سوداء وقالوا: هذا من أجل المعلم) 1، (بتلك الهيئة انتزعت قلبها وضعته الي جوار أزهار الحديقة ونادت).... 1، (من سيدع الماضي يمر عفو خاطرة دون أن يعض علي شفتيه المخدرتين وبحدق في حظوظه العاثرة علي زيل نجمة خرقاء؟) والتمثيل هنا لم يخرج عن المجاز بما احتواه من تشبيه وتمثيل وتصوير وتجسيم، وتكثيف الصور والتمثيل داخل النص ليكون المجاز صورة كلية لاجزئية وجميعها من الجماليات التي رصدها عبدالقاهر الجرجاني وان استخدمت بمستويات مغايرة لما هو مألوف، في الشعر العربي بشكله التقليدي فهذا لايجعلني ابحث أو أعيد بعض المصطلحات التي تتردد بلا تجديد أو معالم كمصطلح (المشهدية) فالصورة الكلية المركبة التي تعتمد علي التمثيل والتجسيم تجاوز فكرة المشهدية فالمشهد ربما يكون فارغا، أو مجانيا مثلما نجده لدي العديد ممن يزعمون كتابة اليومي، والمجاني.. وأجدني أخيرا اتوقف امام المقطع (22) والذي جاء أقل من كافة مقاطع الديوان نتيحة اللجوء إلي الفانتازيا، وإعادة تقديم نص تراثي بآلياته ذاتها.. اختلف العاشقان علي اختلاس اللذة فاحتكما إلي العضب). إلي آخر هذا المقطع الذي يتشابه مع حكاية وردت في كتاب (فاكهة الخلفاء ومناكهة الظرفاء) وقد اشار اليها في هوامش الديوان الذي قدم من خلاله اقتراحا شعريا مغايرا خارج الأطر، والقوالب يؤكد رسوخه ومكانته داخل المشهد الشعري وإن ظل السؤال صادماً لماذا صدر هذا الديوان في هدوء دون صخب إعلامي كالذي يصم آذاننا لنجوم زائفة تفسد - من خلال شبكة علاقاتها الاجتماعية- كل الحدائق فتحية للشعر ولشاعر يؤكد قدرته المستمرة علي التجديد والإبداع.