يبدو حسن داوود، في رواياته، وكأنّه يستعيد البناء السردي، المؤسِّس والمختلف، في فن الرواية. إذ يُقرأ، في هذا المستوي، أظنّ أن الكثير من ملامح التميّز ستتكشّف في هذه التجربة. لا يعني هذا القول أننا أمام مشروع سردي واحد في بنائه وتمفصلاته، بل أمام تأسيس اختباري لفن الرواية الحديث في السردية العربية التي لم تحمل ذاكرتها المعاصرة سوي القليل منه. وهو تأسيس إذ يقوم علي الحوار مع المنجز السردي العالمي، فإنّه يقدّم، كما يبدو لي، إمكانية وجود سرد له فضاؤه الخاص، في منحاه المكاني والزماني، وبنائته الفنية. في هذا المنحي لا يبدو لي أنه يمكن قراءة روايته الأولي "بناية ماتيلد" الصادرة عام 1983، كقراءة "أيام زائدة" الصادرة في 1990. كما أنه لا يمكن قراءة "غناء البطريق" أو "ماكياج خفيف لهذه الليلة"2005، كقراءة "مئة وثمانون غروباً"، 2009. كيف يمكن مثلاً أن نقارب تلك الجمل القصيرة، الانسيابية، اللافتة في "ماكياج..." مع عبارات "مئة وثمانون غروبا" المتداخلة في تنوعها حينا، والمؤصَّلة، في أحايين كثيرة ، من خلال ترابط مفرداتها وأحكام أشكالها. ألا يمكن هنا الحديث عن سرد في الكتابة، وسرد مكتوب. لا يجد حسن داوود مشكلة في ذلك، أن تذهب لغته الأدبية إلي شخوص رواياته. لهذا، ربّما، ظلت بعض جمله كتابة في السرد. في رواياته نتكشّف الكثير من لبنان الآخر، الذي قد نجده سطحاَ وأليفاً، في تفاصيل ملحوظة، أو كأنّها كذلك، إلاّ أن القراءة، المترقبة لحركة الشخوص ستذهب بنا بعيدا، حيث يمكن قول الكثير، ليس في مستوي التفاصيل التي يظن البعض أنها ملمح غير دراماتيكي أو حدثي، بل بما يمكن أن نسميه، ما وراء التفاصيل. هكذا سنقرأ الزهرانية، في الغروب، وكأنّها رموز معاشة، حركة الشخوص المكررة في السيارات، وحيوانات أبي تيسير، بيته المليئة بالخردة كالأبواب المنزوعة "من السيارات وهياكل غسالات وبرادات وماكينات كبيرة يعمل منها مصنوعات" لم تُشاهد منها شيئاً. ونقرأ رفاق وليد يصفون المكان فيشبهونه بشيء يعرفونه "إنه مثل تلك القواعد التي تبنيها العصابات الكبيرة تحت الأرض لتصنع فيها صاروخاً يدمر العالم". وهذا السور المبني جاء "تحسباً لكونه أتي ليعيش في مكان سبق لغيره أن أقام فيه"، و"لابد فكر بأن السور ذاك لا يحميه من أولئك الناس الذين سبقوه فقط، بل أنه يطمئنهم إلي أنّه قاعد فيه، في داخله، هناك وراء بوابته المقفلة". هناك أيضاً قفص العصافير التي تناولته الأيدي من تيسير ولعبت به إلي أن دهسته السيارة، لتبدو الحادثة كأنها منعطف، بعد نزول أبو تيسير بصوته الراعد وكلامه "الذي كان قد هيأه في نزوله، من قبل أن تقع الحادثة التي تستحق كلاماً أقسي"، ومن ثم حجزه لميلاد.ألم يكن قتل تيسير لميخا بداية عاصفة جلبت المسلحين. لهذا تحمل التفاصيل إشارات، كأنّها ذهبت بعيدا، إلي ما يمكن القول أنه جذر حروب، وبدء صراعات لا تنتهي، كأن ليس هناك من طارئ سوي هم، سوي (نحن)، تلك التفاصيل التي تشكلت لتصبح الصورة التي لم يكن يظنها أحد، تفاصيل هي الهيئة كلّها، الإطار والشكل. لا يكتب حسن داوود تاريخ لبنان وتحولاته، بل، ربّما يكتب ما قبل هذه التحولات، وما بعدها، يترصد الهامش ليتكشّفه متنا وغاية. مع كل سطر وجملة، مع كل فقرة من سرديات حسن داوود نتلّمس حرفية فنّان خبر الكتابة ومضي فيها إلي غاية نظن، كل مرّة، أنها صارت في القرب، متاحة الكشف، مع أن كل قراءة هي أخري.