الشيخ الشعراوي هناك أمور نظن أن الشر يأتي منها، لكنها تأتي بالخير، ولذلك يترك الحق فلتات في المجتمع حتي يتأكد الناس أن الله سبحانه وتعالي لايجري أمور الخير علي مقتضيات ومقاييس علم العباد، إنما يجري الحكم علي مقتضي ومقاييس وعلم رب العباد. يقول الحق سبحانه وتعالي: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَي أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَي أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)) إن كراهية القتال هي قضية فطرية يقولها الذي خلق الإنسان فهو سبحانه لا يعالج الأمر علاجا سوفسطائيا، بمعني أن يقول: وماذا في القتال؟ لا، إن الخالق يقول: أعلم أن القتال مكروه. وحتي إذا ما أصابك فيه ما تكره فأنت قد علمت أن الذي شرعه يُقدر ذلك. ولو لم يقل الحق إن القتال كره: لفهم الناس أن الله يصور لهم الأمر العسير يسيرا. والحق سبحانه وتعالي يقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) إنه سبحانه يقول لنا: أعلم أن القتال كره لكم ولكن أردت أن أشيع فيكم قضية، هذه القضية هي ألا تحكموا في القضايا الكبيرة في حدود علمكم؛ لأن علمكم دائما ناقص، بل خذوا القضايا من خلال علمي أنا؛ لأنني قد أشرع مكروها، ولكن يأتي منه الخير. وقد تَرَون حبا في شيء ويأتي منه الشر. ولذلك ينبهنا الحق إلي أن كثيراً من الأمور المحبوبة عندنا يأتي منها الشر، فيقول الواحد منا: (كنت أتوقع الخير من هذا الأمر، لكن الشر هو ما جاءني منه). وهناك أمور أخري نظن أن الشر يأتي منها، لكنها تأتي بالخير. ولذلك يترك الحق فلتات في المجتمع حتي يتأكد الناس أن الله سبحانه وتعالي لا يُجري أمور الخير علي مقتضيات ومقاييس علم العباد، إنما يُجري الحكم علي مقتضي ومقاييس وعلم رب العباد. ولننظر إلي ما رواه الحق مثلا للناس علي ذلك: (وَإِذْ قَالَ موسي لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتي أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَي الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا علي آثَارِهِمَا قَصَصاً) »الكهف: 60-64». إن موسي عليه السلام يسير مع فتاه إلي مجمع البحرين، ويقال: إنه ملتقي بحرين في جهة المشرق، وكان معهما طعام هو حوت مملوح يأكلان منه، لكن السفر والمشقة أنساهما الحوت وانطلق الحوت بآية من آيات الله إلي البحر، وعندما وصل موسي إلي مجمع البحرين طلب من فتاه أن يأتي بالطعام بعد طول التعب، لكن الفتي يقول لموسي: إنه نسي الحوت، ولم ينسه إياه إلا الشيطان. وإن الحوت اتخذ طريقه إلي البحر، فقال موسي: إن هذا ما كنا نطلبه علامة علي وصولنا إلي غايتنا وهي مجمع البحرين، أي أمر الحوت وفقده هو الذي نطلب، فإن الرجل الذي جئنا من أجله هناك في هذا المكان، وارتد موسي والغلام علي آثارهما مرة أخري. فما الذي يحدث؟ يلتقي موسي عليه السلام بالعبد الصالح الخضر، وهو ولي من أولياء الله، علمه الله العلم الرباني الذي يهبه الله لعباده المتقين كثمرة للإخلاص والتقوي. ويطلب موسي عليه السلام من العبد الرباني سيدنا الخضر عليه السلام أن يتعلم منه بعض الرشد. لكن العبد الرباني الذي وهبه الله من العلم ما يفوق استيعاب القدرة البشرية يقول لموسي عليه السلام: (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ علي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) »الكهف: 67-68». لقد كان موسي علي علم سابق بأن ضياع الحوت هو مسألة في ظاهرها شر لكن في باطنها خير؛ لأن ذلك هو السبيل والعلامة التي يعرف بها موسي كيف يلتقي بالعبد الصالح. ويستمر السياق نفسه في قصة موسي والعبد الصالح، قصة ظاهرها الشر وباطنها الخير، سواء في قصة السفينة التي خرقها أو الغلام الذي قتله، أو الجدار الذي أقامه.