خُضنا في الحديث شرقًا وغربًا: ثقافة، سياسة، وحضارة. من ابن خلدون إلى نصر حامد أبوزيد، ثم توقف أمجد ليصنع انعطافة مفاجئة: تعرف يا عزت أننا نحتقركم؟ ابتسمت بدهشة، لأن معرفتي بالأمر كانت ناقصة حتى تلك اللحظة، إذ كنت أراه من الزاوية المعاكسة؛ فقال مؤكدًا: صدقًا؛ نحن نرى الفلاح شخصية خانعة، يشقى ستة أشهر في الاعتناء بزرعة، بينما يأتي البدوي ويخطف المحصول في ساعة! الفلاح يرى الخطف عارًا والبدوي يراه فروسية، والاحتقار متبادل، ولم يفتح أمجد الباب إلا على سبيل السخرية، من كل العصبيات الضيقة التي يجب التخلي عنها كشرط أساسي لصناعة المستقبل. غادر أمجد بدويته وجغرافيته الأردنية مبكرًا جدًا. ظهر هذا في اختياراته السياسية، في نصه، في علاقته بالحياة، وفي علاقته بالمرأة خصوصًا؛ في كل التفاصيل. لكنه لم يتخل عن التطرف حتى في العاطفة، ولم تتخل عنه شجاعة خوض المعارك الخاسرة سلفًا، بما فيها منازلته الأخيرة الأبية للموت. *** أكتب الآن صفة «الأبية» عامدًا؛ تلك الكلمة التي أصابها الصدأ في المعارك الوطنية المزيفة على مر السنين؛ حتى فقدت معناها. أعاد أمجد جلاء معنى الإباء والبسالة، وهو يطلب من ذلك الغامض أن يكشف عن نفسه وينازله رجلاً لرجل: ما أنت؟ ما مشكلتك معي إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد وجهاً لوجهٍ لسوف ألقنك مواثيق الرجال كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة *** منذ أشهر، عرفت أنه في محنة تتعلق بتطور مقلق يخص هند رفيقة عمره. وكان منذ سنوات طوال يتردد بصحبتها على المستشفى ثلاث مرات في الأسبوع من أجل الغسيل الكليوي. البسالة في الوفاء نفسها عايشتها في صديق آخر هو طلعت الشايب مع قرينة عمره. كانت هدية أمجد لهند منذ نحو سبع سنوات، دليلاً جديدًا على مغادرته البداوة؛ ففي البداوة الحقة يستبدل الرجلُ المرأةَ، ولا يهديها قطعة من لحمه هاتفت أمجد للاطمئنان، قال: «كليتي اللعينة تسرطنت في جسمها». في نبرته لوم كأنه يُحمَّل نفسه ذنب إهدائها كلية ملغومة. كانت هدية أمجد لهند منذ نحو سبع سنوات، دليلاً جديدًا على مغادرته البداوة؛ ففي البداوة الحقة يستبدل الرجلُ المرأةَ، ولا يهديها قطعة من لحمه ولا يعيش مرضها كأنه مرضه. وكنت أظن أن أمجد أخذ حصته من الألم في مرض رفيقته، وأنه آخر من تليق به تلك المعاملة القاسية من الحياة؛ القسوة القصوى، التي تجعل روحه حارسة لجسدين معطوبين. وكنت أتصور أن الحياة ملزمة بمعاملة أحبابها المخلصين برفق. هذا تصور ساذج بالطبع، لم أتخل عنه، رغم تكرار الحالات التي صدت فيها الحياة أحبابها بخشونة غير لائقة. في قلب انهماكه في محاصرة سرطان كليته في الجسد المجاور، أعلن ورم آخر عن نفسه في مخه هو، يافعًا معربدًا، ويبدو أنه أعطى إشارات في صداع متكرر لم يوله أمجد اعتبارًا. ظل واقفًا حتى سقط على الأرض فانكشف ما أسماه «الودة». حاولت على الهاتف أن أداري الصدمة، قلت كلامًا من قبيل إن ورم المخ هو الأقل خطورة، عددت له معارف استأصلوا الورم وعاشوا طويلاً. قال بتسليم «سنرى». لكن الآخر، واصل التسلل وإحراز الأهداف، وسريعًا واجه الأطباء أمجد بنتيجة المباراة! *** ما من كائن إلا ويمضي في طريقه نحو الموت من لحظة صرخة الميلاد. والمدى معروف بالتقريب، فيما يُسمى ب «متوسط الأعمار» للبشر ولكل نوع من الكائنات والزروع والأشجار، لكن وضع توقيت محدد شيء آخر. هذه القسوة يواجهها ملايين البشر، كنتيجة لأمراض ميؤوس منها أو أحكام إعدام. لا يعرف الأصحاء، أو من يظنون أنفسهم كذلك، ما يشعر به كل واحد من الملايين الذين ينظرون في عين الموت. ماذا يقولون له، وكيف يرون العالم من حولهم؟ كيف ينظرون إلى بستان، كيف هو طعم الشاي، كيف يتلقون خبرًا عن جولة مفاوضات في نشرة أخبار، أو استعدادات عرس في العائلة، كيف يرون تفجيرًا انتحاريًا قام به شخص صحيح الجسد ليحصد أجسادًا أخرى سليمة! وحدهم المبدعون يبوحون بمشاعرهم تحت وطأة الهول المطلق لموت حدد الأطباء أو القضاة ساعته. وليس كل المبدعين من يملك القدرة على ذلك. في ثقافتنا يحضرني الآن أمل دنقل، وسعد الله ونوس. لكن الذي قفز إلى ذهني في محنة أمجد كان دوستويفسكي، ربما لأن ما كتبه أمل وسعد الله كان أقرب إلى التسليم الصوفي، لكن ما أظهرة أمجد البدوي ليس سوى الغضب الذي رأيته عند دوستويفسكي. لم يكتف الكاتب الأعظم ب «ذكريات من منزل الأشباح» قصاصًا من سلب الحرية الذي يعانيه السجين كما يعانيه المريض، الكتاب الذي أبكى حتى القيصر، بل عاد في كتابات أخرى ليشدد على قسوة عقوبة الإعدام التي أُعفي من تنفيذها بعد أن وقف في طابور الإعدام، حيث جاء فارس من البعيد يحمل مرسومًا من القيصر بتخفيف الحكم، لكن هول المواجهة مع الموت لم يغادره إلا مع روحه. وقد كتب دوستويفسكي بعد إعفائه من هذا الحكم أعماله الكبيرة الخالدة، وربما كانت بسبب هذه التحديقة في عين الموت. محاكمة ديمتري كارامازوف هي المحاكمة الأكثر توترًا في تاريخ الكتابة. المتهم نفسه ومحبوه وحتى محاميه، كلهم يهذون أمام المحكمة بما ينفعه وما يضره على السواء! وفي رواية «الأبله» نرى الأمير ميشكين في القطار عائدًا من رحلة علاجه في سويسرا، وأول حوار يجريه مع شخص بعد مغادرة القطار كان حول قسوة عقوبة الإعدام مع خادم أسرة الجنرال أيبانتشن لحظة وصوله إلى بيتهم. لا علاقة لعقوبة الإعدام مع موضوع الرواية، ولا مع شخصية الأبله الشاب، الذي لم يمنعه عدم المعرفة المسبقة للخادم ولا الفارق الاجتماعي من التباسط معه حول قسوة حكم الإعدام. وعلى مدار الرواية يعود إلى الترافع في القضية ثلاث مرات، ولا يمكن لنا أن نرى علاقة السياق بهذه المرافعات أو علاقتها بشخصية الأبله، لكنه احتراق صانع الشخصية! في حدود علمي، أظن أن دوستويفسكي أول مناهض لحكم الإعدام، وقد أسس حكمه لا بدافع عاطفي بسبب مروره بالتجربة، بل بدافع عقلاني، فهو يعتبره عقوبة تفوق الجرم، حتى لو كان المحكوم عليه مدانًا بالقتل. على لسان الأمير ميشكين، يرى دوستويفسكي أن المجني عليه في جريمة القتل يكون معلقًا بأمل النجاة أو مشغولاً عن الهول بالدفاع عن نفسه، لكن المحكوم يقبع ضعيفًا عاجزًا في زنزانته تُفزعه كل حركة بالجوار. وما السرطان غير هذا الفزع، غير هذا السلب للحرية. تضيق الدنيا لتصبح زنزانة، وما من أمل في الفرار، وما من قدرة على المساعدة من المحبين مهما كان عددهم. وأمجد لم يفزع، لكن أغضبه سلوك الغيلة المنافي لأخلاق الفرسان، يبنما تخايله سعادات يعرف أن بوسعه عيشها، ونصوص تريده أن يُكملها. *** أفكر في الصديق الذي لم يحتفظ من البداوة إلا بأجمل ما فيها، بينما يحملني الغضب على الشك في جدوى نصوص نكتبها أو لحظات سعادة عابرة نعيشها ثم نفقدها. ما الذي سيأخذه فلاح يزرع أو بدوي يخطف؟! أتساءل؛ حقيقة لكننا لا نفهم أنفسنا، ربما هو غضب المحبين ليس أكثر، فكلي أمل في رسول ينطلق على ظهر حصان، ملوحًا بمرسوم تخفيف الحكم على أمجد. كلي أمل في أن يأخذ فرصته كاملة للقصاص من صاحب الوجه المُقنَّع كما أخذها دوستويفسكي.