خلاصات كثيرة ومتعددة يمكن استنتاجها، بعد الاطلاع علي التقرير الطويل والمستفيض، الذي أنجزته منظمة الأغذية والزراعة ( الفاو )، بالتعاون مع منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسيف) وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، والذي رصد حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم –2018– واختير له عنوان »بناء القدرة علي الصمود في وجه تغير المناخ من أجل الأمن الغذائي والتغذية«، وهو التقرير الذي عمم علي الرأي العام الدولي خلال الأسبوع الأول من الشهر الجاري. مذهل أن يؤكد التقرير ارتفاع معدلات الجوع في العالم، بعد فترة جمود وركود امتدت لمدة طويلة، حيث أقر التقرير بارتفاع معدلات الجوع في العالم، وقدر عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص في التغذية سنة 2017 بما يقارب 821 مليون شخص، أي أن كل شخص من تسعة أشخاص في العالم يعاني من نقص أو سوء في التغذية، وفي تأكيد هذه الحقائق إقرار علني بالفشل الذريع، الذي لاحق وثيقة أهداف التنمية المستدامة وأهداف ما اصطلح عليه بخطة عام 2030، التي قيل إنها تتضمن استراتيجيات دولية للقضاء علي الفقر، وتحسين الصحة، والتعليم، والمساواة بين الجنسين، والحصول علي المياه النظيفة، وخدمات الصرف الصحي، والعمل اللائق، والحد من عدم المساواة، والسلام، والعدالة. ويتضح تدريجيا أن الأمر كان ولايزال يتعلق بمنظومة شعارات مستهلكة، يتم الترويج لها في سياق علاقات دولية لم تعد تعترف بالقيم الإنسانية بقدر اهتمامها بحماية المصالح الاقتصادية ومراكمة الأرباح المالية، وحينما يتم الإقرار من طرف منظمات تابعة للأمم المتحدة بارتفاع معدلات الجوع في العالم، فإن ذلك يعني الإعلان رسميا علي وأد الجهود الدولية التي يقال إنها تبذل للقضاء علي الجوع والفقر. يصعب الاتفاق مع مضامين التقرير، حينما يحصر أسباب ارتفاع معدلات الجوع بالعالم في زيادة النزاعات والعنف بالعديد من أصقاع المعمورة، وفي التقلبات والظواهر المناخية المتطرفة، وفي اتهام التغييرات المناخية بالتأثير في جودة المواد الغذائية، وفي التنوع الغذائي، وفي التأثير علي المياه والصرف الصحي، بما تحمله آثارها من أنماط مخاطر صحية، لأنها ببساطة لا يمكن أن تقدم تفسيرات وتبريرات مقنعة لارتفاع معدلات الجوع في عالم متطور، قادر علي إنتاج ما تحتاجه البشرية جمعاء من غذاء وكساء وخدمات اجتماعية لائقة، وفي ظل اقتصاديات قوية بمقدورها التجاوب الكامل مع متطلبات وحاجيات الأسواق، إذا ما تم ترشيد هذه الاقتصاديات في اتجاه خدمة البشرية جمعاء، وليس خدمة رءوس أموال معينة. فهذا العالم، الذي يقول التقرير إن عدد الذين لا يحصلون فيه علي الغذاء بالمعدلات المفروضة يصل إلي 821 مليون شخص، من الذين يمكن تصنيفهم ضمن الجياع، هو نفس العالم الذي يؤكد نفس التقرير أن عدد المصابين فيه بداء البدانة يصل إلي 672 مليون شخص، توجد غالبيتهم في دول شمال أمريكا، والبدانة ما هي في نهاية المطاف إلا داء يصيب الأشخاص، الذين لا يحسنون تدبير تغذيتهم، ويبالغون في تناول مواد معينة، وكثير من الحالات تعود إلي التخمة في التغذية، ولذلك تحدث وفيات بسبب علي الحصول علي الحد الأدني من التغذية، التي تضمن استمرار الحياة، وهناك من يواجه صعوبات صحية مستعصية بسبب وفرة كميات التغذية. لذلك، لم يكن مبررا بالنسبة لهيئة دولية متخصصة إنكار الاختلالات الكبيرة والفظيعة في توزيع عائدات الطبيعة، من غذاء وخدمات في ارتفاع معدلات الجوع في العالم، ونعلم – وهي الحقيقة التي يؤكدها التقرير نفسه – أن هذا الارتفاع حصل في مناطق معينة من العالم دون غيرها، خصوصا في القارة الإفريقية وفي منطقة أمريكا اللاتينية، بيد أن التقرير يشير إلي استمرار الحال كما كان عليه في السابق بآسيا، وليس من الصدف، ولا من الغرابة ألا تجد مظاهر الجوع وسوء التغذية أي موقع لها في القارة الأوروبية، وفي دول شمال أمريكا وفي دول من قبيل الصين واليابان وغيرهما، لأن الأمر يتعلق في هذه المناطق بالاقتصاديات العظمي في العالم، والتي تتسبب في مآسٍ كثيرة وخطيرة، لأنها لا تقاسم المنظمات الدولية قناعاتها الهادفة إلي تحقيق تدبير أمثل للموارد الطبيعية في العالم، بما يحقق تعميما فعليا وشاملا للاستفادة بالنسبة لجميع البشر بغض النظر عن مختلف العوامل. ومن الطبيعي ألا نشاطر المنظمة الدولية طبيعة اقتراحات الحلول، التي تقدمها كوصفة للقضاء علي الجوع في العالم، فهي تقترح «تسريع وتيرة الإجراءات والنهوض بها، من أجل تعزيز قدرة النظم الغذائية وسبل كسب العيش والتغذية علي الصمود، لمواجهة التقلبات والظواهر المناخية المتطرفة والتكيف معها» و»زيادة الشراكات والتمويل متعدد السنوات وواسع النطاق للبرامج المتكاملة وذات المدي القصير والمتوسط والطويل الآجال للحد من مخاطر الكوارث وإدارتها» لأنه قد تكون هذه الاقتراحات جزءا بسيطا مما يجب القيام به علي وجه السرعة، لكن الأسباب الحقيقية تكمن في الاختلالات الفظيعة والكبيرة في بنية النظام الاقتصادي العالمي السائد، الذي يمكن القوي من مراكمة أسباب القوة ويزيد الضعيف تكديس مختلف مظاهر وأشكال الضعف، وهي الحقيقة التي تبرزها بوضوح طبيعة العلاقات الاقتصادية السائدة، في عالم يرضخ فيه الفقير لمختلف مظاهر الابتزاز والسرقة من طرف الغني، لذلك، فإن المدخل الرئيسي للقضاء علي الجوع في العالم، وتمكين جميع البشر من نفس كمية الغذاء يكمن في خطة عالمية مستعجلة، لتمكين الدول الفقيرة من اللحاق بركب الدول القوية بما يشبه خطة ( مارشال )، التي انتشلت القارة العجوز من براثن التخلف ونقلتها إلي مصاف الدول المتقدمة والمزدهرة، ناهيك عن وضع حد نهائي لجميع أشكال استنزاف خيرات الدول الفقيرة وتحريرها من أغلال الديون، التي تكبل أياديها وتمكن الدول الدائنة لها من استمرار استعبادها.