كان وسيظل موضوع المرأة في الأدب العربي محط اهتمام النقد الأدبي؛ إذ كثيراً ما يشي الأدب بصورة المرأة وكيف عبرت عن وجودها في ظل نظرة المجتمع . وتختلف وجهات النظر حول تقديم المرأة في الأدب ما بين النمطية والنظرة الثنائية الحادة للمرأة إمّا مقدسة أو مدنسة، بينما تقلّ المرأة المتمردة في الظهور علي الساحة. والكاتب الكبير إبراهيم أصلان ربّما ظهرت المرأة في أعماله كسلعة أو جسد يشتهي كما في بعض قصص مجموعتي »وردية ليل « و »يوسف والرداء«، ولكن هذه النظرة السطحية ينقصها التوغل إلي أعماق النصوص وفهم طبيعة القصة عند أصلان؛ فإن كتابة أصلان والتي قد تبدو للوهلة الأولي ذات قشرة صلبة، تحمل دلائل وإشارات تحتاج عيناً فاحصة تستنبط كيف يوظّف أدواته من أجل خدمة قضيته الرئيسة التي يتناولها في أغلب أعماله، ألا وهي تجسيد الواقع المُعاش بصورته القاتمة دون تزويق. المرأة في عالم أصلان تختلف عنها في عالم أي كاتب آخر؛ فلا يعمد إلي إبراز صورة المرأة أو النظرة الذكورية لها سواء بالسلب أو الإيجاب، فتلك المعاني صارت أكثر من مستهلكة، فأصلان يستخدم »المرأة« مثلها مثل سائر أدواته، تستوي معها في ذلك شخصيات الذكور والأماكن والأشياء المؤنسنة من أجل خدمة قضيته الكبري . ومجموعة »بحيرة المساء« تجسّد رؤية أصلان للمرأة، لاسيما عند مطالعة الثلاث قصص المتعاقبة :(الرغبة في البكاء وقت للكلام التحرر من العطش)، فيظهر فيها دور المرأة بشكل جلي أكثر من غيرها بسبب المساحة الكبيرة نسبياً التي أفردت لها. المرأة الأرض »الرغبة في البكاء« ، تدور أحداث القصة حول صديق قديم يرافق صديقه المتزوج الذي يشعر بحزن عظيم إثر تلقيه بعض التحليلات حول مرضه، وأمام تلك الإلحاحات يرافقه الصديق . لم تذكر القصة طبيعة المرض الذي أصيب به الزوج، إلا أنّه ربما يكون مرضاً جنسيّاً أو مرضاً آخر أثّر علي قدرته الجنسية، مما كان صادماً له للغاية، يقول: »الشيء الوحيد الذي يؤلمني هو أنني لم أكن أتوقع. لم أكن أتوقع أبداً«، لتأتي بعد ذلك زوجة الرجل المريض وتجلس معهما. المرأة في تلك القصة أداة وتقنية يستخدمها أصلان لإبراز قسوة المجتمع والواقع الذي ينبذ العاجز ولا يتيح له المتنفس بأي حال من الأحوال ولا الفرصة في حق من حقوقه .يقدّم أصلان المرأة الزوجة في هذه القصة رابطاً إياها بالأرض الخارجية التابعة للمنزل التي لم تبنَ بعد؛ فالمرأة : »مدت لي كفّاً صغيرة دافئة.. لاحظت أنّ الزواج لم يذبل ثدييها«. وكذلك الأرض:« وفي الخارج كانت هناك مربعات غير متساوية من الأرض التي أجري تقسيمها تمهيداً لبنائها". كما كان السؤال عن موعد بناء الأرض والبناء بالزوجة محرجاً للطرفين بنفس الوقع، يقول الصديق: »كنت أقول له إنكما ما زلتما صغيرين . التفت هو ناحيتي فوقعت السيجارة من يده . و »شعرت بها تصب عينيها في عيني مباشرة« وعن موعد بناء الأرض يسأل:« متي ستبني هذه الأرض ؟ / قال : أي أرض ؟ / قالت هي : »أنا لا أطيق التفكير في هذا الموضوع« ، فيلحظ المتلقي كيف أنّ البنائين مرفوضان من ناحية الزوجة، فبناء الأرض يسدّ الهواء، كما أنّ خصوبة الأرض أخذت تتناقص، ومن ثمّ تتماهي مع الزوجة التي تتبدد الخصوبة من جسدها تدريجياً بسبب زوجها المريض، بل غدا أكثر إيلاماً لاسيما بعد رؤيتها لمصدر خصوبة جديد أمامها أكثر ملائمة وهو صديق زوجها : ابتسمت وهي تلتفت إليّ: أتمني ألا يبنوها تطلّعت إليّ بعينين ضاحكتين وهزت رأسها »مجيبة علي تحيتي«. يطرح أصلان في القصة الواقع بتناقضاته المؤلمة ؛ فالمرأة والأرض يشتركان في كونهما مكان البذر، إلا أنّ الزارع لا يجيد الحرث، فانقلبت عليه الموازين ، فالأرض صارت قبيحة المنظر، والمجتمع يدينه وربما يتهمه بارتكاب عادات جنسية سيئة في الماضي بما يقضي علي حياته الزوجية »قال : ألا تصدق أنني لم أفعل هذا الشيء أبداً؟ أرجو أن تصدقني ولا تفعل مثلهم!«، ثم الزوجة التي تكتم أغلب مشاعرها ولا يظهر رد فعلها إلا عبر فلتات اللسان وتطلّعها إلي ذكر أكثر خصوبة ، وفي تلك الحالة لا يمكن أن يلومها المجتمع أو القانون . فلم تكن المرأة هنا الأرض الأم التي تحتضن الإنسان وتبثّ فيه الأمل وتصبر علي علاجه، وإنما هي الواقعية والعملية البحتة حتي في أشد المواقف إيلاماً وتحرّجاً للإنسان . ومن ثمّ تظهر الغربة المتأصلة في نفسية ذلك الزوج بفعل مرضه الداخلي مما أفقده ثقته بنفسه ورجولته أمام زوجته والمجتمع لأنه لا يمكن أن يثبت (كفاءته) كزوج ، ومن هنا يظهر أصلان الواقع ليس في مجرد كونه ظالماً وسريعاً في إلقاء التهم وإنما في عدم الرحمة بالمريض والمتألم بل يستمر في جلده حتي فقد الأعصاب . المرأة العربة تبرز قصة " وقت للكلام " الحياة الواقعية ذات الإيقاع السريع التي يحلّ فيها ما هو فعّال مكان ما فقد أهليته . فتسير الحياة كعربة مسرعة وما علي المرء إلا أن يتخيّر أيها أكثر ملائمة له حتي ولو خلّف الكثير وراءه. تدور أحداث القصة عن فتاة في مقتبل العمر تتناقش مع شابٍ حول أمر فتاها الذي انقلب حاله وصار يلزم الصمت، ثم ينتهي اللقاء بينهما برحيل كل منهما في عربة مختلفة . يقدّم أصلان من خلال القصة أنموذجاً مختلفاً لا ليطرح شكلاً جديداً للمرأة الشابة العاملة وإنما هو أسلوب أصلان في تصوير الواقع المعاصر؛ فيجسد الإيقاع السريع في الشابة الصغيرة ووقع تفكيرها وتخليها عن ما هو رتيب أو فاقد حيويته، وهي بذلك تشبه العربة في سرعتها وعدم انتظارها للمتردد أو المتلكئ. يضع أصلان أنموذج تلك الفتاة وفتاها الصامت في مقابلة مع أنموذج العجوزين اللذين دخلا المقهي واحداً تلو الآخر، يقول: »وستترك هي الليمون. لن تشربه حتي يحضر رجل آخر عجوز وينضم إليها.« والحياة العصرية رغم ذلك واهية منبوذة وسرعان ما تتقازم أمام الأنموذج القديم للحب والوفاء بين الرجل والمرأة، اللذين يشتركان في الطباع ويدور بينهما حديث صامت لا يحتاجان فيه إلي الكلام، بينما في الأنموذج العصري هناك اختلافات بين كل طرف وآخر، تقول الفتاة: " بمجرد أن نجلس كان يقول لي : إن المنظر بالخارج يشبه السينما الصامتة ويطلب مني أن نقوم، مع أني أحب هذا المكان . أحبه جداً "، فما كان من ذلك الفتي إلا أنّه التجأ إلي الانعزال والصمت هو الآخر . لم يظهر ذلك الفتي ظهوراً حقيقيّاً، وإنما كان موضوع حديث الشخوص ، فكانت السمة الرئيسة الملاصقة للفتي هي الغربة سواء الاختفاء الحقيقي من مسرح الأحداث أو الغربة المعنوية تجاه المجتمع ، وقد كانت المرأة أحد السبل في تدعيم ذلك الشعور لديه . لم تعد المرأة سكناً ومقر الطمأنينة ومكنون الرومانسية ، إذ فقدت احتوائها الرجل الإنسان ، لذا فكانت المرأة هنا تقنية جديدة لدي أصلان في إظهار دور الواقع المعاصر بما فيه واقعية المشاعر ودورها في زيادة فجوة التواصل بين البشر بل وزيادة غربتهم في الحياة ذاتها . إنّ الحياة المعاصرة أشبه بالعربة لا في طيشها وإنما في سرعتها وعدم الانتظار، إذ فُقدت معاني الصبر والعواطف الرقيقة ، فإما أن يجاريها الإنسان وإما يدهس تحت إطاراتها ، وإلا فيعتزل الطريق بأكمله ويظل منزوياً في جانب الطريق ويصبح غريباً . المرأة النافذة تعدّ قصة ُ »التحرر من العطش« أكثر قصة صادمة للمتلقي في مجموعة »بحيرة المساء« بأكملها ؛ بسبب نهايتها التي تخالف أفق توقع المتلقي، يقول: »وفي أقل من دقيقة واحدة كان قد تحرر من ثيابه كلها كانت تتطلّع إلي المرآة المستطيلة التي تعلو المكتب القديم .. استرخي وراءها علي الكنبة وأراح ظهره علي المسند الطري، عارياً كما ولدته أمه « .»فذلك الشاب الذي يبدو وديعاً هادئاً منذ بداية النص حتي قرب نهايته إلي حد الانطواء وعدم الخروج من البيت وعدم النوم بصورة مقلقة بل ومستنكرة، وخجله والبعد عن صخب المدن، ينقلب في النهاية ويظهر منه رد فعل أبعد ما يكون عن ذهن القارئ . عند استقراء المتلقي دور الفتاة في القصة، يمكن أن يستنبط كيفية توظيف المرأة ضمن العناصر والأدوات التي يستخدمها أصلان لخدمة فكرته الأساسية بلا تنميق أو مزايدة . الفتاة في هذه القصة تجسيد واضح للواقع المعاصر بمعني الكلمة كما لو كانت نافذة المجتمع التي يطلّ منها الشاب ليعرف مدي غربته ، بل وتجسيد حي يسير علي قدمين لرأي المجتمع في الحياة العصرية والانسياق في تيارها والنظر لمن يخرج عنها بالشذوذ. فالفتاة تمثل الحياة العصرية بنمطيّتها وقولبتها للآخرين، فيسير فيها الجميع كالقطعان، ورغم الحداثة والإيقاع السريع إلا أنه قد خلّف أناساً لا تعبأ إلا بالمظاهر والتقليد الأعمي، فالفتاة حتي في ملبسها نمطية ولا تفرق عن بقية الفتيات، يقول: »كانت ترتدي فانلة رقيقة من القطن الأبيض وشعرها أسود وملموم علي رأسها«، إنها ليست نمطية المرأة وإنما نمطية الحياة حتي عندما أخذت الفتاة تقصّ علي الشاب قصة الرجل الذي خلع ملابسه وأقام نفسه في حفرة وصار يحذّر أهل قريته من الخطر، فنُعِت بالمجنون وظل هكذا حتي مات من الخوف. إن تفسير المشهد الأخير من القصة حينما تجرّد الشاب من ملابسه يبدو غريباً ولكنه عميق الدلالة ، لرُبما أراد إثبات مخالفته للواقع، فبما أن تواريه عن المجتمع لا يروق الآخرين، فالتجأ إلي تلك الطريقة الفجة الأشبه بالصراخ في وجه المجتمع دون صوت، يقول: » وعندما استدارت اهتزّت مكانها ووضعت يدها علي فمها الذي ظلّ مفتوحاً وأمّا هو فلم تصدر عنه أية حركة . بل ظل عارياً وصامتاً كما هو ، وعيناه خاليتان من كل تعبير"، وربما كان تحرراً من العطش إلي ما يريد أمام الفتاة لاسيما وكان في أول القصة عاري الرجلين ، فكان قاب قوسين من ذلك المجنون في القصة، ولكن أراد حافزاً ليأخذ في التنفيذ . فكانت الفتاة في هذا النص داعمة لشعور الغربة الذي يسيطر علي الشاب لتنقلب في النهاية عليه وتتحرك برد فعل المجتمع برفض هذا الشاب ونبذه من الجماعة لينظر له كمجنون. وأخيراً ، يتجلي إبداع أصلان في استخدامه المرأة ضمن منظومته الكبيرة شديدة الترابط من أجل خدمة الثيمة الرئيسة، ولا يعدّ استخدام أصلان للمرأة بهذه الصورة استهجاناً لها أو تجسيداً لرؤيته الذاتية، وإنما هو يتعامل معها كنعصر من عناصر منظومته المركبة ، ولا شك فهو إبداع ورؤية فريدة من الكاتب الكبير بإسناد تلك الوظيفة الجديدة للمرأة في عالمه الأصلاني.