"الفاجومي" فيلم عن سيرة حياة شاعر إلا أنه كعمل فني لم يفلح في الإيحاء بأي لمسة شاعرية.. فلا "الشاعر" "أدهم" بطل هذه التجربة السينمائية ولا صديقه وتوأم فنه الشيخ "همام" استطاعا أن يتركا أية متعة وجدانية في نفس المتفرج!! فالصور الخيالية المصطنعة في هذا العمل تقوم علي خيال مسخ خشن. والحقيقة التي حاول المؤلف أن يضيفها من خلال الشرائط التسجيلية المنزوعة من سياقها لم تلتحم عضويا بالسياق الروائي لحياة الشيخ همام والشاعر أدهم وهما الثنائي الشعبي الثائر شعرا وغناء فلا حلاوة ولا جمال ولا ثورية في حياة الرجلين كما صورهما "الفيلم" إذ ليس كافيا أن يكون كل منهما قد ولد في أعماق الفقر وعاني من شظف العيش وتربي في قاع الحياة الشعبية وعرف طعم الحرمان والبؤس. وقاوم كل ذلك حتي يصبح بطلا "جميلا" في عمل جماهيري مثل السينما لا حلاوة ولا جمال ولا ثورية وإنما سوقية وابتذال ولوازم صوتية. لا تليق بعمل جاد وطموح يؤرخ من خلال الاثنين -الشاعر والمغني- لثلاث حقب تاريخية انتهت بثورة جماهيرية كاسحة لفئات الشعب المصري كله فقرائه وأغنيائه دون أن يكون محركها هذا الثنائي كما حاول أن يوحي الفيلم في الدقيقة الأخيرة منه. طموح المخرج المؤلف صور له أن بإمكانه بعث 52 سنة في تاريخ مصر الحديث "1959-2011" شهدت ثورات وحروب واحتجاجات وديكتاتوريات زلزلت ليس فقط الأرض وإنما الإنسان أيضا جعلته يخرج بالملايين لانتزاع كرامته في عمل " قص ولزق". فالموضوع أكبر جدا من حياة صعلوكين لم ينجح المؤلف علي مستوي التشخيص في اقناعنا بأنهما جديران بهذا الاحترام والتمجيد الزائد الذي يفرض مقارنة بين الشاعر أدهم "خالد الصاوي" بطل الفيلم وبين صلاح جاهين وفؤاد حداد!! وبين المغني الملحن الشيخ همام "صلاح عبدالله" وبين سيد درويش. حسنا فعل أحسن المؤلف صنعا عندما اختار لأبطاله أسماء مستعارة مع أنه ذكر في بداية الفيلم أنه مأخوذ من مذكرات أحمد فؤاد نجم أو ربما تعمد ذلك حتي نتحرر من أي مقارنة بين الأصل والصورة بين الشاعر المعروف شكلا وهيئة وبين خالد الصاوي كما ظهر علي الشاشة ذلك لأن المقارنة في هذه الحالة سوف تنسف عنصر الإيهام وبالمناسبة لقد غاب هذا العنصر أيضا وبذلك لم يتحقق تأثيره وشاهدنا الفيلم ونحن مدركون أن الهوة واسعة بين الأصل والصورة وامتد هذا الانطباع نفسه إلي المضمون فشخصية الشاعر ليست بالجاذبية الإنسانية التي تجعل امرأتان مثقفتان ومتعلمتان ومن أسر محترمة "ماهيتاب- ومنه" يهيمان به حبا ويقبلان الزواج منه وتجاهد كل واحدة منها للاحتفاظ به وحدها دون وجود الأخري في حين أنه رجل معدم وحشاش "وبتاع نسوان" ومزور ورد سجون. وفي نفس الوقت شاعر وممثل ورجل يهوي الاستعراض وثورجي و... والدور أتاح للممثل أن يستعرض جوانب من قدراته التمثيلية ولكن الصاوي "بعثرها" في مشاهد تشهد علي أدائه "كصنايعي" وليس كممثل مبدع يشد الناس ويحرك مشاعرهم. بنفس المنطق يمكن أن نتعامل مع أداء صلاح عبدالله في تجسيده للشيخ "همام" الذي بدا أقرب إلي شيوخ الموالد منه إلي فنان ضرير عرف طعم الألم والقهر. الفوارق بعيدة جدا علي أي حال بين كنده علوش التي لعبت شخصية الزوجة الأولي وفقدت من ثم رصيدها في "أهل كايرو" الدور الذي كان بمثابة اكتشافنا الأول لموهبتها وهي خسارة علي أي حال أكثر دراماتيكية من خسارة الصاوي في نفس المسلسل لأن الأخير سرعان ما سوف يقوم بتعويض هذه الخسارة في بورصة التمثيل لأن لديه رصيدًا يسمح بالخسارة أحيانا. الواقع والخيال إن مشكلة الأعمال السينمائية التي تدور حول سيرة حياة شخصيات مازالت حية ترزق ومعروفة وحاضرة في ذاكرة الكثيرين أنها تفرض مقارنة حتمية بين الأصل والصورة وفي هذا الفيلم ظهر الرسام حجازي. وهو شخصية رائعة برسومه وبفنه الكاريكاتوري الفذ ظهر باسمه ولعب دورها الممثل زكي فطين عبدالوهاب وكان هو الوحيد تقريبا الذي منحه المؤلف الاسم الحقيقي للشخصية التي يؤديها ومن هنا بدأت حالة الغربة بين ما نحفظه عن الشخصيه وبين ما نراه علي الشاشة. نستطيع القول أن جميع الشخصيات في الفيلم من صنع خيال المولف المخرج وجميعها يقذف بنا بعيدا عن الأصل الحي أما تقييمه لها من خلال المعالجة الفنية وعبر إدارة حركة الممثل وتوجيهه فإنما يعكس وجهة نظره الذاتية ولأن معظمها شخصيات تصنع حياتها في الحياة العامة وتحظي بتسليط الضوء الإعلامي فمن الجائز أن نتعامل مع "الفاجومي" باعتباره محض خيال بالطبع ما عدا الأشعار التي ألفها أحمد فؤاد نجم ودسّها المؤلف في أغلب مشاهد الفيلم.. وهناك في اختيار الممثلين اعتبارات ليس بالضرورة فنية وإنما ترتبط ربما بعنصر التسويق. تجاوز طموح المخرج -المؤلف المادة الموضوعية الرئيسية إلي عمل دراما ملحمية يستخدم في معالجتها وسائط فنية متعددة فإلي جانب الشرائط التسجيلية التي بدأ بها لطوابير جنود الأمن المركزي لافتا النظر إلي آلة القمع التي تستخدمها الأنظمة الحاكمة واستخدم الأشعار المغناة التي تكرس المعني. وعلي النقيض من هذا المشهد قدم صورة إنسانية جدا لاثنين من ضباط السجن إبان الستينيات أحدهما يشبه عبدالناصر ساعده وقدمه لرئيس اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا وهي الوظيفة التي رفضها "الشاعر" لعب دور رئيس الاتحاد "يوسف السباعي" حينئذ عمر زهران رئيس قناة نايل سينما. لقد استخدم المخرج فقرة من التمثيل البانتومايم مع أغنية شرفت يا نيكسون بابا عند زيارة نيكسون وجزء من شريط جنازة عبدالناصر.. ولكنه حين حاول أن يضاهي التسجيلي بالمشاهد التمثيليه فظهر عنصر الانتاج فقيرا خصوصا في تصوير مظاهرات 18 و19 يناير التي بدأت بأزمة أنابيب ومشاهد ردح بذيئة لنساء الحارة ومنهن "أم آمال" "جيهان فاضل" صاحبة البيت الذي يسكن فيه الشيخ همام والشاعر أدهم. جيهان فاضل جسدت دور المرأة الشعبية باجتهاد فقد جمعت بين المرأة الجائعة جنسيا والسيدة الشعبية الطيبة التي تحاول أن تفهم والتي تحولت من النقيض إلي النقيض ومعها أسرتها وابنتها آمال التي كانت فتاة ثورية شاركت في الحرس الوطني ثم أصبحت متطرفة وزوجة لعضو في جماعة إسلامية وأسرتها تمثل تجسيدا واقعيا لما جري للشعب المصري كله الذي كان مستنيرا وثوريا ومتحررا ثم أصبح متزمتا منغلقا. كثير من المشاهد الإثارية النمطية المستهلكة أظهرها المخرج بدوافع تجارية واضحة وبهذه الدوافع نفسها شكل كثير من المشاهد التي جمعت بين الشاعر ونساء المتعة اللاتي التقي بهن وأضاف إلي لغة الحوار المزيد من التدني . لاحظ الرمز الجنسي المستهلك في شعلة "وابور الغاز" وفي جملة "أنا جاي أسلك وأونس". الادعاء والأصالة فيلم الفاجومي يمتليء بأشكال الادعاء الثقافي بدءا من لقطات المثقفين الشيوعيين في السجن والكلام عن وحدة مصر وسوريا وثرثرتهم عن حرب 1967 وتجمع المثقفون في منزل الشيخ همام ودور السلطة في الترهيب والترغيب واستخدام رموز لها في المراحل المختلفة وذلك في بناء ضعيف يقوم علي تفاصيل كثيرة جدا تتراص في مشاهد توضيحية الأكثر من كل ذلك صورة "البطولة" التي رسمها للفاجومي الشخصية الشعبية التي نالت تعليمها من الحياة الواقعية للناس. ومن التثقيف الذاتي والمحبة الفطرية للحياة الحرة فهو رجل ثوري بطبيعته ملتهب بالأحاسيس يكره التابوهات وينحاز للفقراء ويكره السلطة.. ويحب جيفارا ويغني له ويواجه قمع السلطة الشجاعة وهي نفسها الأسباب التي جعلته "دجوان" تميل إليه بنات الجامعة ويجده فيه الطلاب نموذجا يحتذي. فتخيلوا أن هذه الصفات كلها لم تفلح في جعلنا نحب خالد الصاوي من خلال هذا الدور.. هناك خطأ إذن.. وربما كان هو غياب المصداقية والإغراق في "اللخبطة" الأيديولوجية والإطاحة دونما تحليل بحقب عبدالناصر والسادات ولم يقترب كثيرا من حقبة مبارك اللهم من خلال مشاهد الثورة الأخيرة فالفيلم تم تصويره ربما في تلك المرحلة ولم يكن في خيال المخرج علي اتساعه أن مبارك سوف يترك الحكم ويمضي وهو بعد علي قيد الحياة!!