في منتصف شارع درب الجماميز تقريبا يقف مسجد قراقجا الحسني. يئن من الإهمال، ويعاني من الغربة، رغم أن المنازل تحاصره من كل جانب، والبشر لا يتوقفون عن المرور بجانبه. منذ أكثر من عام لم يعد قلبه ينبض بتكبيرات المصلين، فقد أغلقت أبوابه بعد أن هاجمته المياه الجوفية، وظل كل ما يتردد عن ترميمه مجرد كلام في الهواء! هكذا يقول صاحب محل في محيطه. هدوء ظاهري يحيط بالمكان. يخفي تفاصيل مرحلة تاريخية ملتبسة، كان سعيد الحظ من يموت فيها علي فراشه. المؤامرات كانت مسيطرة، أطاحت بسلطان وجاءت بآخر، لم يلبث أن تعرض لمحاولة إقصاء فاشلة. مؤسس المسجد وقف مع الطرف الذي انتصر، غير أنه لم يكن مغامرا، فظل أقل شهرة من معاصريه. حتي في عصرنا الحالي شعر الكثير من أهالي الحي بصعوبة نُطق اسمه، فاستبعدوه من حواراتهم، وابتكروا اسما جديدا للمكان، هو» جامع بلا مئذنة». إنها محاولة لوصف الحالة الفريدة، فالمسجد في ناحية والمئذنة في ناحية أخري، تفصل بينهما حارة السادات، ومن أعلي يقطعها معبر خشبي يربط بين التكوينين المعماريين، كان وسيلة انتقال وحيدة للمؤذن، الذي لم يعد في حاجة للترحال 5 مرات يوميا، بعد انتشار مكبرات الصوت. ورغم أن الكثير من المتخصصين تعاملوا مع المئذنة علي أنها تخص المسجد، إلا أن الدكتور حسني نويصر أكد في إحدي دراساته قبل سنوات أنها ليست له، بل كانت ضمن كيان آخر يضم مسجدا مُعلّقا وسبيلا. يبدو اسم مؤسس المسجد غريبا، لكن معناه أكثر غرابة، فهو فارسي مُكوّن من مقطعين: قره بمعني أسود، وخوجه بمعني أستاذ، لهذا ذكره بعض المؤرخين باسم قراخجا. عاصر عددا من السلاطين، وترقي في المناصب حتي أصبح في عصر السلطان جقمق رأس نوبة النوب، وهو منصب يشبه كبير الياوران في عصرنا، كما كان أمير آخور، أي رئيس الاسطبلات الملكية. وشارك في حسم صراع كبير حدث بين السلطان جقمق والأتابكي قرقماس، الذي طمع في الحكم رغم أنه كان أحد المسئولين عن تنصيب جقمق، وانتهي الأمر بالقبض علي قرقماس في جزيرة الزمالك. كان قراقجا محاربا ماهرا، لذلك اعتمد عليه السلطان في مواجهة المتمردين. فقد قضي علي فساد العربان بالجيزة عام 1445، كما وأد فتنة أحد الأمراء في الشام، وجاء به أسيرا إلي مصر. وفي عام 1449 توفي بالطاعون هو وابنه في يوم واحد، وحضر السلطان الصلاة عليهما، لينهي الرجل صفحة مرحلة اتسمت بنزاعات.. لم تنته بوفاته.