أسعار الفراخ البيضاء اليوم الخميس 20-11-2025 في الأقصر    البث المباشر لانطلاقة الجولة الثامنة من دوري أدنوك.. مواجهة مبكرة تجمع خورفكان وشباب الأهلي    اليوم، رئيس كوريا الجنوبية يلتقي السيسي ويلقي كلمة بجامعة القاهرة    مستشفى 15 مايو التخصصي ينظم ورشة تدريبية فى جراحة الأوعية الدموية    اليوم.. محاكمة المتهمة بتشويه وجه عروس طليقها فى مصر القديمة    تحذير عاجل من الأرصاد| شبورة كثيفة.. تعليمات القيادة الآمنة    اليوم.. عرض فيلم "ليس للموت وجود" ضمن مهرجان القاهرة السينمائي    شاهد، أعمال تركيب القضبان والفلنكات بمشروع الخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    ترامب يرغب في تعيين وزير الخزانة سكوت بيسنت رئيسا للاحتياطي الاتحادي رغم رفضه للمنصب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    تحريات لكشف ملابسات سقوط سيدة من عقار فى الهرم    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    كيفية تدريب الطفل على الاستيقاظ لصلاة الفجر بسهولة ودون معاناة    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    فلسطين.. تعزيزات إسرائيلية إلى قباطية جنوب جنين بعد تسلل وحدة خاصة    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    طريقة عمل البصل البودر في المنزل بخطوات بسيطة    إصابة 15 شخصًا.. قرارات جديدة في حادث انقلاب أتوبيس بأكتوبر    محمد أبو الغار: عرض «آخر المعجزات» في مهرجان القاهرة معجزة بعد منعه العام الماضي    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    طريقة عمل الكشك المصري في المنزل    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    أسعار الدواجن في الأسواق المصرية.. اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    خبيرة اقتصاد: تركيب «وعاء الضغط» يُترجم الحلم النووي على أرض الواقع    مأساة في عزبة المصاص.. وفاة طفلة نتيجة دخان حريق داخل شقة    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    بنات الباشا.. مرثية سينمائية لنساء لا ينقذهن أحد    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    تأجيل محاكمة المطربة بوسي في اتهامها بالتهرب الضريبي ل3 ديسمبر    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    ارتفاع جديد في أسعار الذهب اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025 داخل الأسواق المصرية    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    بوتين: يجب أن نعتمد على التقنيات التكنولوجية الخاصة بنا في مجالات حوكمة الدولة    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    فتح باب حجز تذاكر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدورى أبطال أفريقيا    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    تصل إلى 100 ألف جنيه، عقوبة خرق الصمت الانتخابي في انتخابات مجلس النواب    أمريكا: المدعون الفيدراليون يتهمون رجلا بإشعال النار في امرأة بقطار    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال الغيطانى.. أنشودة الكاتب والجريدة
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 05 - 2019

جمال الغيطانى مع صبرى حافظ وروبن أوستل وبطرس الحلاق
فى عام 96 كانت زيارتى الأولى إلى «أخبار الأدب» مع صديقى الشاعر عبدالناصر علام، كانت الجريدة قد أعلنت اسمى ضمن الفائزين بمسابقتها للقصة القصيرة، وجئت لاستلام جائزتى، 400 جنيه، اشتريت بها كثيراً من الكتب، وحينما هبطت من القطار إلى رصيف محطة نجع حمادى لم يكن فى يدى سوى التذكرة وربع جنيه معدنى «مخروم».
استلمت المبلغ من المبنى الإدارى، ثم اتجهنا إلى المبنى الصحفى، كما يفعل غيرنا يومياً، لزيارة أهم مكان ثقافى فى مصر، قبلة الأدباء والنقاد والباحثين، كنت أقول لنفسى «ها هى الجريدة التى تحلم بالنشر فيها، وها هو الكاتب الكبير الأستاذ جمال الغيطانى على بعد خطوات منك».
وبعد قليل من الانتظار، انفتح باب مكتبه، وأطلَّ بوجه مشرق باسم، واحتفى بعبدالناصر علام احتفاء كبيراً، كان ناصر يشق طريقه بشكل جيد، ونشرت له «أخبار الأدب» بعض القصائد، بينما امتنعت عن النشر لى، ولكن جاء الدور علىَّ أخيراً، فقد نشرت قصتى «طقوس البيت المبعثر» على مساحة كبيرة، ومعها إشارة إلى أنها القصة الفائزة بالمركز ال12 مع أن «إعلان أسماء الفائزين» قال وقتها إنها القصة الحاصلة على المركز «السادس مكرر»، لم أكن حانقاً، بل كنت سعيداً لأن الجريدة ستنشر لى، حتى ولو قالت إننى صاحب المركز الأخير، كنت قد أرسلت كثيراً من الخطابات إلى «6 ش الصحافة»، وكان الأستاذ عمرو الديب ينشر بانتظام رسائلى فى باب البريد، وها هى الفرصة تلوح فاتحة ذراعيها، لم أكن أطمع سوى فى سلام على الأستاذ جمال الغيطانى، ولكنه فاجأنى بما هو أكثر، نظر إلىَّ، ونطق اسمى الثلاثى، كأنه يقرأه من كوبون المسابقة، وقال إنه اطلع على كل النصوص التى اشتركت بها، القصة الطويلة الفائزة، ومجموعة من الأقاصيص، ووصفها بالجميلة، وأخبرنى كذلك أنها نافست القصةَ الفائزةَ حتى النهاية، ولكن الرأى استقر على «طقوس البيت المبعثر»، ثم أبدى دهشته لأنه كان يعتقد أننى كبير السن، وربما كان حديثه آنذاك نوعاً من المجاملة، لأن اسمى وسنى وعنوانى وكل ما يتعلق بحياتى كان مدوناً بالكوبون، قال لى وقتها: «كنت فاكر عندك ستين سنة، بس طلعت طفل»، ثم أطلق ضحكته المميزة فهزت شبابيك الطابق الثامن. جلسنا بصحبته قليلاً، وحينما انتهى اللقاء أصر على توصيلنا حتى باب الأسانسير، وكان انطباعى الأول عنه عظيماً، الكاتب الكبير المبتسم، المتواضع، والمجامل إلى أقصى درجة، وهكذا أحببته فوراً.
مع جريجورى بك
وقد حكت لى الدكتورة سمية رمضان منذ فترة أن الموقف نفسه تكرر معها فى مقابلتهما الأولى: «حينما ذهبت إليه، وكان ذلك منذ سنوات بعيدة جداً، قابلنى بترحيب بالغ، وأعطانى إيحاء بأنه يعرفنى ويتابعنى جيداً، وتعامل معى كما لو أننى كاتبة كبيرة، وأصر على توصيلى حتى باب الأسانسير، وطبعاً بفتكر ده باندهاش شديد، لأنه مين البنت دى اللى الغيطانى بجلالة قدره يوصلها بنفسه لغاية الأسانسير؟!». وفى الأغلب تلك الأمور الصغيرة، هى ما ينطبع فى الذهن ويدوم طويلاً، خاصة مع الذوات النرجسية التى تميز الأدباء، نرجسية لا تحتمل أبداً أى هفوة فى التعامل. لم يكن الغيطانى محايداً، ولا يرحب بحساب، أبداً، بل كان سخياً جداً فى معاملاته، كان يمدك منذ الوهلة الأولى بثقة مفرطة فى نفسك، ولم تكن علاقته تنتهى بالكاتب مع انتهاء المقابلة، وكثيراً ما كان ذلك الكاتب يُفاجأ باتصال منه على هاتف البيت، قبل ظهور الموبايل، وقد فعلها مرة معى، وجاءنى أخى محمد ليقول إن الأستاذ جمال الغيطانى على التليفون، وقد اعتبرتها مزحة، حتى سمعت صوته، وتأكدت أنه نفس الصوت لنفس الشخص الذى قابلته فى الطابق الثامن من مبنى «أخبار اليوم». كان يفعل ذلك مع عشرات غيرى بدأب وإخلاص، كأنه يقدم فريضة للثقافة، وكان دائماً يستخدم تعبيرات من عينة «تقليب التربة المصرية» إذ كان مؤمناً بأن الأحوال قد تمنع البعض من إرسال أعمالهم، أو ربما قد تقضى عليهم إذا لم يجدوا العناية الكافية، ولهذا كان مقتنعاً بضرورة المبادرة بطلب نصوص من أدباء واستكتاب نقاد وباحثين، ونجح فى تحويل «أخبار الأدب» إلى بيت للجميع، بيت قد تبتعد عنه قليلاً أو كثيراً لكنك تعرف أنك ستعود إليه فى النهاية، وكان مقتنعاً بأن الجريدة لها وظيفة تربوية، قال لى مرة إن نشر النصوص ليس الغاية النهائية، وإن كثيراً من النصوص التى تُنشر ليست عظيمة، لكن من ننشر لهم، خاصة من يشقون طريقهم بالكاد، يجدون أنفسهم فى نفس المساحة مع أسماء من العيار الثقيل، أسماء بحجم إبراهيم أصلان ومحمد البساطى وإبراهيم عبدالمجيد وبهاء طاهر وخيرى شلبى وسعيد الكفراوى وخيرى عبدالجواد ومجيد طوبيا وجميل عطية إبراهيم وفاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبوسنة وبدر شاكر السياب وسعدى يوسف ومحمد بنيس ومحمد على شمس الدين ومحمد سليمان وحسن طلب ورفعت سلام وحلمى سالم، إلخ، وهذا التجاور يُحفِّزهم، ويمنحهم الثقة المطلوبة لشق الطريق، «تخيل، مثلاً، حسن عبدالموجود بينشر جنب إبراهيم أصلان»، يقول ويضحك بسخرية، وأقول له، إن هذا حدث كثيراً فى السنوات التى سبقت التحاقى بالعمل إلى الجريدة، على يد الأستاذ مصطفى عبدالله، كنت محظوظاً بالنشر مرتين إلى جوار محمود درويش.
كان يعرف أن الكتب لا تصل بانتظام إلى الأقاليم، باستثناء الكتب التى توزعها المؤسسات الصحفية الثلاث الكبرى، وكانت أنجحها دار أخبار اليوم، التى وزعت آلاف النسخ من أعمال محمود السعدنى ومصطفى محمود وأحمد رجب والشيخ محمد متولى الشعراوى وغيرهم، لكن الأعمال الأدبية كان محكوماً عليها بالعزلة، خاصة وأن الأمور قبل السوشيال ميديا وانتشار المكتبات بهذا الشكل المكثف وتمدد معارض الكتب كانت صعبة، حتى الأدباء الكبار لم يسلموا أبداً من النظرة الضيقة إلى أعمالهم، وحصْر كل منهم فى عمل وحيد كأنه لم يكتب غيره «الوقائع الغريبة فى اختفاء سعيد أبى النحس المتشائل» إيميل حبيبى، «الثلاثية» نجيب محفوظ، «رامة والتنين» إدوار الخراط، «الزينى بركات» جمال الغيطانى، «شرف» صنع الله إبراهيم، «البحث عن وليد مسعود» جبرا إبراهيم جبرا، «رجال فى الشمس» غسان كنفانى، «المجوس» إبراهيم الكونى، «بيضة النعامة» رؤوف مسعد، «حدث أبوهريرة قال» محمود المسعدى، «الحرب فى بر مصر» يوسف القعيد، «الرجع البعيد» فؤاد التكرلى، والقائمة تطول، وهكذا يجد الكاتب الناشئ نفسه أمام عروض لكتب لا تصله، وسيأخذ منها طرفاً، وربما يبحث عنها يوماً ما، وسيقرأ دراسات مهمة لعبدالفتاح كليطو، وأبى يعرب المرزوقى وجابر عصفور وعبدالعزيز حمودة، وإذا تعلق الأمر بالفن التشكيلى سيجد نفسه فى مغارة «على بابا»، شاجال، دافنشى، فان جوخ، مايكل أنجلو، رافييل، بيكاسو، أوسكا، رينوار، دالى، بوتيرو، هوبر، هوكوساى، وعشرات غيرهم من أشهر الفنانين، ينتمون إلى كل العصور، مشاهير ومظاليم أزاحتهم سطوة الكبار من منطقة الضوء وتركتهم فى صقيع العتمة، فنانون لم يأخذوا فرصتهم رغم أن أعمالهم تشهد بنبوغهم وعظمتهم، كان كذلك يصر على منح الأعمال المنشورة فى «أخبار الأدب» روحاً خاصة، وارتبطت النصوص لفترة باثنين من أهم الفنانين المصريين، جودة خليفة، الذى تنطق أعماله بالروح المصرية فى عمومها، وجميل شفيق بعوالمه الصامتة، نساء متوحدات حزينات، وأسماك تسرح فى ملكوت الرمال، وأحصنة، وصحراوات، وجبال، وقد رأيت شفيق أثناء زيارة خاطفة ل»أخبار الأدب» فى النصف الثانى من حقبة التسعينيات وهو يرسم على الأوراق البيضاء بالرصاص ويحول سطحها الميت إلى أبعاد وأكوان تموج بحياة هادئة، وانبهرت حينما أسفرتْ تخطيطاته السريعة الماهرة عن وجه امرأة مصرية يقطر الكحل من عينيها، امرأة بجمال نساء مودليانى، لكنهن منتشيات بروح مصرية، غادرت أماكنها من أيقونات الكنائس وتلبستهن، مانحة إياهن ذلك الإحساس الموغل فى العتاقة والجمال، وهكذا لو افترضنا أن «أخبار الأدب» بيت، سيكون أقرب إلى بيتٍ عالمىٍ، يجلس فى غُرفِه كاتب من قرية مصرية نائية جنباً إلى جنب مع سميح القاسم، وباختين، وتودروف، وسلمى الخضراء الجيوسى، ومحمد دكروب، ومحيى الدين اللباد، وأنسى الحاج، وصلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطى حجازى، وأمل دنقل، وإدوار سعيد، ونعوم تشومسكى، وقاسم حداد، ويوسف أبورية، وأبوالعلاء المعرى وجلال الدين الرومى وشمس الدين التبريزى..
أصحاب البيت فراعنةُ، وكائنات مسحورة خارجة لتوها من «ألف ليلة وليلة»، حيوانات «كليلة ودمنة» العظيمة، وعلاء الدين ومصباحه والجنى وفانوسه، وغلمان أبى نواس وعشيقات ماركيز، وصخور من «أرض الحقيقة» جلبها محيى الدين بن عربى، بعد أن تجرد من هيكله مثل شيخ المريد أبى الفخر الكرمانى، واجتاز الزمان والمكان. فى ذلك البيت الذى أسسه جمال الغيطانى تنساب موسيقى لطالما اقترنت بحضوره إلى مكتبه فى الثامنة صباحاً، موسيقى تركية، أو مغربية، أو مصرية تنطق بتلك البهجة التى تتلمس خطوات المجد مع صوت ليلى مراد ومحمد عبدالوهاب فى «يا دى النعيم»، أو الجنة فى صوت محمد رفعت، أو أوبرالية، أو سيمفونية كأنها ترنيمة قادمة من الكنيسة المجاورة لمبنى الأهرام.
كان الغيطانى حريصاً على أن ينقل إليك بكل جوارحه أنه يفهم تعبك، ويقدر مشقة صادفتها، وجهداً بذلته، ولغة تخاتلك، لغة تخلع قناع امرأة فائقة الجمال وتنظر إليك بوجه قبيح مدمم، وفناً تحاول لمسه والعبور من جنانه.
مع ممدوح عدوان والمنصف المزغنى
عدت ذات مرة من وادى النطرون، وفى ذهنى حكايات شاهدتها وسمعتها عن الرهبان هناك، وغارات كانوا يتعرضون لها من البربر. لطالما جاءت قطعان الهمج من الصحارى وحاصرتهم، كان البربر يعتقدون أن ذلك المظهر المتقشف يخفى وراءه شيئاً ما، ربما ذهب، ربما ألماس، وربما أحجار كريمة، وبالتالى كانوا يقتحمون الأديرة والقلايات ويدمرون كل ركن فيها، ويعميهم الغضب عن رؤية الحقيقة البسيطة، أنه لا ذهب ولا حتى نحاس، وإنما أجولة من البذور تقاوم الزمن والعطن والشمس الحارقة القاسية، لتطمْئِن رجال الدين أن بوسعهم الحياة لأشهر قليلة فى سكينة، ثم يتحول غضب البربر إلى إعصار، ويقطعون أيدى وأرجل الرهبان شر تقطيع، وبعد كثير من تلك الهجمات الخائنة يبدأ الرهبان فى بناء أديرة تشبه القلاع، وتخزين الغلال والمياه، حتى إذا جاء البربر انعزلوا بأنفسهم لشهور أو حتى سنوات، يشعر البربر باليأس ويعودون إلى صحرائهم القاحلة الجهنمية خائبين مشتعلين بالكراهية باحثين عن عدو جديد. استمع الغيطانى لما أسرده بصبر، وراقت له الحكايات، وقال لى إنه سيمدنى بمراجع تضىء لى تاريخ هذا المكان، منها كتاب أصدرته الجامعة الأمريكية به صور نادرة للأديرة، وهذه قيمة الغيطانى، أنه لا يكتفى بالمتاح، ويقنعك بأن هناك ما هو أفضل، وما هو أبعد من الحكاية، ونشر الموضوع بعنوانى فى الصفحات الداخلية «حكايات الرهبان فى وادى النطرون»، ونشره بعنوان جذاب فى الصفحة الأولى «بحثاً عن الذهب فى أديرة وادى النطرون»، وهاتفنى مساء الجمعة، وأخبرنى أن تليفونه لم يتوقف عن الرنين، كان يقول لى إن هذه هى مصر التى نريد تقديمها للعالم، مصر التى لا نعرف عنها شيئاً، وسرد لى قائمة من اتصلوا به للثناء على الموضوع، وقال لى: «أخوك محمد الغيطانى هيكلمك لأنه فرحان جداً بالموضوع»، وكانت هذه هى أول مكالمة بينى وبين محمد.
كان الغيطانى دائم البحث عن الخصوصية المصرية، فى معمار حسن فتحى بالقرنة، فى معمار قاهرة المعز لدين الله الفاطمى، وأسبلة مصر القديمة، فى مقابر القاهرة، وفى خصوصية الحارة الشعبية، كان يرى أننا نجافى الروح التى ميزت شخصيتنا المصرية، وأن إبراز الجمال المصرى من حولنا قد يعيد شيئاً مما فقدناه. لقد فاجأنى بمكالمة أخرى كما فاجأ غيرى وقال نفس الكلام عن الروح المصرية بعد أن قرأ روايتى «عين القط»، وكنت وقتها فى مدينة «المنصورة». كان كلامه عيداً بالنسبة لى، كما كان عيداً لكثيرين اتصل بهم أو كتب عنهم أو قابلهم وجهاً لوجه، وعبَّر لهم عن محبة غامرة واحترام لما يقدمونه.
كان الغيطانى منفتحاً على الجميع، والانفتاح هو أساس الخلطة التى صنعت الجريدة. عرف العالم العربى معنى التعددية لا من خلال سياسات وحكومات، وإنما من خلال جريدة أدبية، كانت ساحة للمغتربين والمطارَدين والمهاجرين ومحبى الحياة وكارهى أنفسهم والهادئين والصاخبين والكلاسيكيين والحداثيين وما بعد الحداثيين والواقعيين والخياليين والحكائين والزجالين والشعراء وأشخاص عبروا إلى الأدب ضيوفاً وغادروه سريعاً على ريش نعام أو محمولين إلى القبور، وأشخاص تشبثوا بمواقعهم رغم صعوبة الرحلة، كان تليفونه متاحاً للجميع، يشكو أن الناس لا يرحمونه ويتصلون به 24 ساعة، ومع هذا كان يرد آناء الليل وأطراف النهار، كان يشكو كذلك أن صحته لا تحتمل كالسابق أن يُقابل كل هؤلاء الأشخاص القادمين من بلدان عربية وأجنبية. طلاب علم من إفريقيا، وآسيا، وشرق أوروبا، مستعربون، ورؤساء أكاديميات، وزراء ومهندسون وعلماء ومترجمون ورؤساء هيئات ثقافية، مخرجو سينما ونقاد كبار، شباب يتلمسون الطريق وكتاب راسخون، مريدون وأصدقاء تاريخيون، لكنه أيضاً أتاح نفسه طوال الوقت. كان العشرات يرسلون خطاباتهم أو فاكساتهم إلى أن يحين وقت يتمكنون فيه من شق المسافات بالطائرات والقطارات والسيارات لمقابلته. كان الغيطانى مزاراً حياً، لا شك فى ذلك، و«أخبار الأدب» استمدت روحها وخصوصيتها من قوة شخصيته وتأثيره الشبيه بتأثير الانفجار العظيم، خبت الجريدة فى فترات، ولكنها عادت قوية فى فترات أخرى، إذ أن الأساس الذى رماه حتى سابع أرض يمكنه أن يسندها لمائة عام على الأقل.
كان الغيطانى رغم كل مشاغله يدير معارك فى جميع الاتجاهات، معارك مبنية على الفكر، لا على مصالح شخصية ضيقة، ولكنه بالطبع كان يحزن ويغضب، كان يتحول إلى زلزال هادر فى غضبه، وإلى بحيرة صافية، فى هدوئه، صفاء يكشف الأحجار والأصداف والشعاب المرجانية والأسماك الملونة فى القاع، كان يترك نفسه على سجيتها ليسخر من هذا أو ذاك، كان يسخر منى، ومنك، ومن نفسه، لكنه لم يكن كارهاً، ولا فاجراً فى خصوماته، كان يريد أن يسخر، ويمزح، ويضحك وكفى، أن يلقى جملته العابثة، وينفجر بعدها فى ضحكته القوية المميزة. كنت قد نشرت حواراً مع عماد أبوصالح فى «أخبار الأدب»، والعنوان الذى اختاروه للصفحة الأولى «عماد أبو صالح: شعراء التسعينات مناديل كلينكس»، وكان كلما أخبرته بأن نرجسية فلان طفحت عليه فى هذه اللحظة، وأنه رفض المشاركة فى تحقيق معى، كان يفكر لحظة ويقول كأنما يتحدث بجدية شديدة: «ده كده عايز عماد أبوصالح، هات له عماد أبوصالح»، ثم ينفجر فى الضحك، ويمسك قلبه، كأنما يحافظ على بقائه فى مكانه طوال تلك الضحكة القوية الصافية الجميلة. ما أجمل قلبه ذاك، وما أجمل المشاعر التى حملها ناحية أقرب الناس إليه، عائلته الصغيرة، وعائلة الأدباء الكبيرة، بل والإنسانية كلها.
للفنان: جميل شفيق
للفنان: جودة خليفة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.