«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاة خاصة: آفاق جديدة لتلقي السرد الروائي
آفاق جديدة لتلقي السرد الروائي
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 05 - 2019

بعض النماذج الروائية الجديدة تحفز علي التساؤل عن تحولات فن الرواية وتطور أنماطه وأشكاله الفنية وعلاقته بمجالات أخري، وإثارة تساؤلات عديدة حول صلة فن الرواية بمجالات التعليم والإدراك المعرفي ونظرياتهما وكذلك تشكيل الوعي والبنية الذهنية للمتلقين أو تحريكها في اتجاهات بحثية بعينها. رواية »صلاة خاصة»‬ للروائي المصري صبحي موسي الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب 2019 تمثل واحدة من تلك التجارب الروائية التي تثير هذه الأسئلة حول الأبعاد المعرفية والتعليمية وجدل الجمالي والمعرفي في الخطابات الروائية وغيرها الكثير من التساؤلات المهمة. رواية »‬صلاة خاصة» هي نموذج فني ينحت في تاريخ المسيحية في مصر بدأب وبطابع بحثي لا يتجاوز الخصائص والسمات الجمالية للنوع الأدبي، وتقارب التحولات التاريخية الكبري والمصيرية للكنيسة المصرية ورأسها في الإسكندرية في فترة مهمة من العصر الروماني وبعد ذلك، ومن ثم تقارب التحولات والتشكلات العقدية في الكنيسة المصرية وبداية خصوصية تصوراتها للعقيدة المسيحية ومن ثم حربها أو صراعها مع السلطة الزمنية المتمثلة في الأباطرة الرومان وكذلك حربها وجدلها التاريخي مع الكنائس الأخري. السؤال الملحّ والجوهري هنا، كيف تبدو هذه المساحة من الجدل الديني والعقدي الرسمي والتاريخي مجال اشتغال جمالي للخطاب الروائي؟
الحقيقة أن الرواية عبر حسّ خاص استثمرت هذه المساحة من الصراع العقدي التاريخي والممتد لعقود طويلة بحسب حكاية دير الملاح كما يدوّنها روفائيل السكندري وتلميذه بنيامين وغيرهما وكما كشفتها رسائل أوريجانوس، هذه المساحة من الصراع العقدي والجدل الديني والخلاف والصدام مع الأباطرة والأساقفة الآخرين والباباوات أنتجت منها الرواية حالة من الشجن الإنساني العميق الذي يخلق حالا شعرية ينضح بها خطاب الرواية ويبدو في إطار هذه الشعرية علي قدر كبير من الإيحاء بمعان مطلقة حول تحولات الإنسان وتضحياته وانتهازيته أو قدر إخلاصه ونقائه ورغبته في المعرفة وإدراك الحقيقة. كما أن الرواية تبدو وفق هذه الشعرية الناتجة عن شجن هذا الصراع الممتد والمليء بالتضحيات والتحولات والتراكم والميراث الفكري والاجتهاد أو المطامع وجدل كل هذه القيم، تبدو ذات شكل إنساني أو دفق إنساني يجعل المتلقي في حال من المراقبة الرهيفة والتساؤل عن طبيعة الإنسان في المطلق وجوهره حين يموت أو يتعذب في سبيل أفكار واجتهادات لا يقدر علي حسمها من حيث الصواب والخطأ أو الحق والباطل أو الخير والشر.

»‬صلاة خاصة» لها منافذها الجمالية الدقيقة التي قد ترهق النقاد لما لها من وجه تاريخي وبحثي قد يُخفي أو يطمر بعض الجوانب الإنسانية أو شعرية الألم والعذاب الإنساني وشعرية تكرار المأساة وتكرار المصائر والتضحيات بشكل قدري يبدو فيها الإنسان مثل موجات متدفقة في نهر الوجود. بين تحولات الزمن وثبات المكان نسبيًّا وكذلك تبدل الشخصيات والأسماء والأفكار والمعتقدات وثبات الأسئلة أحيانا حول الله وحول جوهر العقيدة ومفرداتها ولوائح الإيمان وقوانينه يبدو نهر الإنسانية الشعري بمعالمه المحفزة علي التساؤل والمثيرة للدهشة. يتغير الجالسون علي المقعد البابوي في الإسكندرية مرات عديدة ويظل الصراع وتبقي الأسئلة ويظل الاجتهاد ويتنوع الإنسان بين نماذج عديدة ثابتة عنيدة وأخري أكثر مرونة وقبولا للاختلاف. من يميلون إلي الدماء والعنف وتصفية الحسابات بالمؤامرات والأكاذيب والمكائد ومن يبقون علي شرف الخصومة وحق الاختلاف ومن كافة هذه الحوادث والنماذج والتناقضات تتجلي شعرية تنوع الحياة الإنسانية التي تتجاوز الأحادية، ومن هذه الخلافات والاختلافات تتوالد التجارب والامتحانات والفتن والعذابات ومن يبقون راسخين في الذاكرة الجمعية بلا هفوات قديسين حامين للكلمة والمبدأ وآخرين يسقطون في اختبارات سهلة أحيانا، لتتجلي الطبيعة الإنسانية بتراكبها وغموضها واحتياجها الدائم للبحث والتنقيب فيها عبر الكتابة والتدوين والتساؤل وكتابة التاريخ.
فن الرواية وفق هذا النموذج الإبداعي المتحقق في رواية صلاة خاصة يبدو فنا جبارا إذا جاز التعبير، يملك من القدرات ما لا تملك الخطابات الأخري سواء السينمائية أو الدرامية أو الخطابات العلمية الأكاديمية أو التاريخية البحثية. فهو يحقق المعادلة الصعبة الجامعة بين الجمالي والمعرفي بطاقاته الفلسفية والتدوينية والتأريخية دون سأم أو جفاف بحثي. الخطاب الروائي علي هذا النحو يملك القدرة علي استثمار الوقفات البحثية والتأملية وطرح الأسئلة الصعبة التي تحتاج نقاشا يطول بالدليل والبرهان حول وحدة الإله أو الأقانيم أو صفة مريم البتول وما يستتبع الخلاف حول كونها أم الإله لدي البعض من جدل في مسائل عقدية أخري. بعض هذه الأفكار والمسائل قد لا تقدر علي طرحها ومقاربتها الدراما التلفزيونية أو السينما بقدراتها الشفاهية المتجردة من قدرات النص المكتوب.

فالنص المكتوب له طبيعة خاصة فيما يخصّ زمن التلقي، لأن القارئ يملك القدرة علي إعادة القراءة مرات عديدة دون حاجة لتكرار التشغيل أو المشاهدة كما في الفنون السردية الأخري كالسينما والتلفزيون، وهذه الطاقات البحثية والمعرفية إنما تشبع بالأساس بعض احتياجات المتلقين للمعرفة ونزوعهم إلي إدراك السر الجوهري في الصراع والدوافع الحقيقية للقتل والتعذيب والتنكيل والنفي وكافة الحوادث التي تمتلئ بها الرواية علي نحو ما تضج بها الحياة نفسها من الخلافات والاقتتال العقدي الذي يبدو هو النغمة الإنسانية الأكثر ثباتا في هذا الوجود، مهما كانت تنويعات هذه النغمة، فما خلاف المسلمين بتنويعاتهم حول الجهاد والعنف والقتال إلا صورة من الأصل الواحد الذي كان منه خلاف المسيحيين الأوائل في العقيدة. فالخلاف كله في النهاية عقدي والنتيجة كذلك واحدة تنوعت بين القتل والنفي والتعذيب، كما كان هناك دائما المرحبون بالاختلاف في الرأي والمتقبلون لأي الاجتهادات، حتي قد يصل الأمر لقبول الشيطان نفسه وإيجاد مبرر لأفعاله أو إدراك رفضه وعصيانه وفق منطق لا يخلو من وجاهة حسبما رأي أوريجانوس في رسائله وحسب ما استقرت عليه رحلة بحثه من التسامح والغفران مع الجميع وللجميع كما طرحت الرواية.
الرواية تمثل لحنا طويلا أو معزوفة موسيقية كبيرة تتراكب وتتداخل فيها تنويعات نغمية عدة، ففيها عدد من الأصوات السردية والحكايات المركبة والممتزجة وفق نسق تبادلي من بداية الرواية حتي نهايتها، فالحكاية الإطار التي تقع في الفترة المعاصرة وهي قصة أنطونيوس ودميانة وملاك كاتب دير الملاح وغيرهم من الشخصيات تمتلئ بالأحداث والتحولات ويصبح المكون العاطفي فيها روحا تصنع تواشجا ونغمة صغري ممتدة داخل النغمة الأكبر، كما فيها كذلك خط التحقيق الممتد وقصة نشر الكتاب الممنوع رسائل أوريجانوس علي أنها سيرة القديس أنطونيوس، وكذلك فيها خط البحث عن دميانة ولقائها مرة أخري بحبيبها بعد فراق وإنقاذها من الراغبين في التخلص منها لأنها اطلعت علي أسرارهم، وهي في ذاتها قصة فيها قدر كبير من التشويق والإثارة، كما في هذه الحكاية المعاصرة/الإطار قصة غامضة حول مقتل الراهب بوخوميوس أو انتحاره وهو لغز لا تتضح حقيقته إلا في نهاية الرواية، وهو ما يمنح الرواية الشكل البوليسي الذي يعزز بنية اللغز ويمنح خطابها نسقا حركيا يتمثل في السعي نحو كشف هذا اللغز ومعرفة القاتل.

أما الحكايتان الأخريان اللتين تتشكل منهما بقية النغمات السردية التي تتقاطع وتتبادل التوزُّع في فضاء الرواية، فهما قصة دير الملاح من بداية نشأته بما فيها من الحقائق أو الكرامات أو الأساطير إن جاز التعبير عن ميخائيل الملاح المعتزل في الصحراء بلبوءته وأشبالها التي تظل حاضرة من البداية للنهاية وفق منطق روحي أو اعتقادي جعلها لا تغيب عن عقيدة المؤمنين بوجودها سواء في الواقع أو الأحلام أو التحايل ومن هنا تمتد فاعليتها. وقصة دير الملاح في ذاتها هي الوسيط بين الحكايات الأخري لما مثل الدير ورهبانه من حال الوسطية والتوازن المعرفي والمعبرة أو القنطرة التي عبرت منها المعارف المختلفة في كافة الاتجاهات، وبشكل كبير من التوازن وقبول الآخر أو التنوع الفكري دون صدام وبخاصة في الماضي. فيبدو دير الملاح بتاريخه رمزا للمعرفة بشكل مطلق عبر سيرة رجاله ورؤسائه ديمتريوس وأبانوب المصري الجنوبي ورفائيل السكندري وإيمانوئيل الطيب وبوخوميوس. والنغمة السردية الرئيسة الثالثة التي تتبادل وتتراوح مع النغمتين السابقتين هي سيرة أوريجانوس حسبما دوّنها في رسائله الاعترافية إلي صديقه البابا ديونسيوس، والحقيقة أن هذه السيرة/الرسائل هي الجزء الجوهري في خطاب رواية صلاة خاصة، فهي الجزء المشترك بين الحكايات الثلاثة وتربطها جميعا ببعضها، وهي كذلك تعكس حالا خاصة من السماحة والسلام الروحي والمحبة الخالصة لكافة عناصر الوجود التي تبدو متصارعة.

رحلة أوريجانوس رحلة صوفية ثرية وفي غاية العمق وتمثل العمود الفقري للرواية بما فيها من رحلة بحث روحي ومعرفي وبما فيها من الإخلاص والنقاء والجَلَد وقبول الآخر ومحبته ومبادلة الشر خيرا، ولما فيها من الحكمة والتحولات الكبيرة وشجن الموت والترحال وتبدل الحياة بين الهناءة والألم والعذاب تبدلا لا يمكن توقعه ولا قراءته، ولكن يمكن لأوريجانوس فقط أن يتصالح معه ويستوعبه ويمر عبره كما لو أن كل هذا الألم لم يحدث من الأساس. النغمات السردية الثلاثة السابق عرضها تقع في أزمنة مختلفة ولكنها تبدو متشابهة وأسئلتها واحدة ونماذجها الإنسانية مكررة، وتبدو امتدادات لبعضها، حتي الأسماء تتكرر، فأنطونيوس الصغير أو الحالي قد يقابل القديس أنطونيوس الكبير الذي عاش في دير الملاح، ودميانة تري نفسها ومصيرها في رضا القديسة تريزا وقبولها لها وكذلك موقفها من أمها التي لها نفس الاسم كذلك. والحيوانات الحارسة الأسطورية أو الكرامات والشهادة تيمة متكررة في كافة الأزمنة بوصفها جزءا من العقل المؤمن ونسيجه الواحد، وأحد المكونات الفاعلة فيه، فنجد اللبوءة وأشبالها ودفاعها الثابت عن الحق وحراسة المظلومين والضعفاء لا تبدو بعيدةعن طبيعة كلب السماء الذي يبدو أشبه ببوصلة روحية لكل من أنطونيوس ودميانة ويوجههما ويربط بينهما كما يربطهما الحب، هنا يكون دور التكرار أو هذه الثنائيات المتوازية أو المتقاطعة أو المتناظرة ليس فقط الربط النفسي للشخصيات أو صنع حالة من الانسجام في النسيج الإنساني الذي يكون فيه العقل المسيحي المؤمن حالة واحدة أو متشابها إلي حد بعيد، ولكنها كذلك تخلق نوعا من التكرار في خطاب الرواية بحيث يحيل بعض الرواية علي بعض ويمثل التكرار شبكة من العلاقات والتقاطعات الداخلية التي تصنع وحدة النص وانسجامه أو تكامله. الرواية تجسد حالات عديدة من الصراع التي تجعلها مشحونة بالكراهية والحب وتنوع المشاعر الإنسانية، والإحساس بالانتظار أو الخوف والترقب والتخطيط والتدبير والحركة، وكلها في النهاية تصب في عنصر التشويق وتجعل الرواية تقدم حالات إنسانية نابضة وتمثل هذه الصراعات مرآة تكشف الشخصيات من الداخل، تكشف نزقها وطمعها أو صبرها وجلدها وتحملها، كما فيها عديد الاتجاهات والنماذج من الخير والشر والخليط أو الممتزج وهو الأكثر. كذلك فيها ما يمكن أن يكون صراعا بين الملائكة والشياطين أو بين النقاء والدنس، بين السامي والمنحط، بين المادة والجوهر، وهكذا ليبدو عالم الرواية عبر الحكايات الثلاث تركيبة حياتية شاملة ومعقدة فيها كافة التناقضات والتعارضات التي في الحياة الطبيعية أو التي يتشكل منها الوجود كله، فتركيبة الحياة هي تركيبة الوجود بتكامله وتعارضه وقيمه المتصارعة أو المتصالحة والمنسجمة، والتقاط الرواية لهذه الحالة الجوهرية للوجود هو قدرة خاصة للسرد الروائي علي اقتناص إيقاع الوجود وصراعه أو حركته نحو المعرفة أو التضليل.

للرواية نقطة إنجاز مهمة أخري تتمثل في قدرة خطابها علي تمثل العقل المسيحي بكافة شحوناته المعرفية والاصطلاحية وكافة الأسئلة والشواغل القديمة أو المتجددة، فنجد أنها علي قدر كبير من التدقيق فيما يخص مصطلحات علوم اللاهوت المسيحي وما يعرف بلائحة الإيمان والمجامع المسكونية أو الكنسية وما مرت به المسيحية من منعرجات أو اجتهادات وأبرز المجتهدين من الناحية التاريخية، فيكون القارئ بعد القراءة في القلب من مسائل الحياة الدينية المسيحية وقضاياها وتاريخ الكنيسة الذي ترصد الرواية تموجاته برهافة كبيرة لا تنتقص من الطبيعة الجمالية للسرد أو تجنح إلي الجفاف التاريخي الصرف. هذه المصطلحات والمعارف المسيحية تأتي موزعة وفق استراتيجية مشهدية تضج بالحركة والانفعالات والتصرفات البشرية والمطامع وحركة الأقدار التي تنتزع أحد أطراف الصراع أو كليهما، فيزول المتصارعون والمختلفون ويبقي الخلاف موروثا ويبقي أحيانا الحقد راسخا كما تبقي المحبة والتسامح والسلام النفسي قيما راسخة كذلك لدي آخرين.
الرواية فيما يخص ما ينتج عنها من الدلالات تبدو ذات طاقة إيحائية عالية ولا تميل إلي التصريح فهي تستعرض الحوادث والمواقف دون تفسيرها ليكون للقارئ حق التأويل والتفسير والفهم واستيعاب ما وراء الحوادث وما بين السطور، وليحاول أن يعرف أين يكون الخير وأين يكون الشر وأين التقائهما. ومن جمالياتها في تقديرنا منطقها في التعامل مع الأماكن والمواقع وتاريخ الأديرة وخصوصية كل دير والمعالم الجغرافية القديمة ورصد حركة الأسفار والترحال التي لا تنتهي أو تتوقف عند مرحلة أو فترة زمنية، وهو ما يمثل زادا معرفيا وجماليا إضافيا للرواية ويجعلها تتجاوز البنية التقليدية للسرد الروائي الذي يقتصر علي الحكاية التقليدية بأن يكون تاريخا للمكان سواء الديني أو المكان بصفة عامة من صحار وأنهار ومناطق جبلية أو مدن عريقة مثل أسيوط أو ليكوبوليس وكذلك الإسكندرية العريقة وما حدث فيهما من تحولات في هذه الحقبة وبخاصة صراع الديانات المصرية والرومانية القديمة مع الديانات السماوية أو بين اليهودية والمسيحية من جانب أو بين المسيحية ومن يسمون بالهراطقة والتيارات الفلسفية مثل الغنوصيين والأفلوطنيين أو تيارات المسيحية وبعضها ما بين مجسدين وغير مجسدين أو تداخل الديانات ببعضها علي نحو ما نري من وصل بعضهم إيزيس بمريم في فكرة (أم الإله)والقيامة والعودة بالجسد مرة أخري بعد التلاشي. فيما يشبه حالا عامة من الديناميكية العقدية الدائمة التي ليس لها وجهها الاجتهادي في المعرفة وحسب بل كذلك لها وجهها الدامي والعنيف ومن ثم تكون الطبيعة الإنسانية للصراع.

وفي تصورنا أن لهذه الرواية وجوها جمالية عديدة ومنجزات كثيرة، وتمثل حالة إبداعية تستحق الاهتمام والمقارنة بما سار قريبا من دربها من الروايات حتي تتضح الفوارق في المنجز المعرفي والجمالي. فنجد أن لغتها متنوعة ومتفاوتة بحسب السياق أو اختلاف الصوت أو شخصية المدون، فلغة أوريجانوس تختلف عن لغة ملاك أو لغة رفائيل، وهكذا، كل بحسب علمه وذهنيته. وتبقي فكرة التدوين والكتابة ذاتها ذات طبيعة روحية وبحثية تجعلها في مرتبة الصلاة أو رحلة البحث الروحي التي لا تختلف عن أشكال العبادة الأخري.
الكتاب: صلاة خاصة
المؤلف: صبحي موسي
الناشر: هيئة الكتاب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.