تهجير التراث كتهجير الانسان، بل هو أشد قسوة وعنفا، وخطورة علي صعيد الأمم، إذ إن تراث كل أمة هو رصيدها، وجذرُها الممتد من الماضي إلي الحاضر، وبدونه تصبح الأمة- أى أمة- بلا هوية أو أصول تعصف بها الرياح كيفما شاءت.. هذا ما أكدته المناقشات التى دارت على مدار يومين، بجامعة القاهرة، بمشاركتها معهد المخطوطات العربية، فى الاحتفال بيوم المخطوط العربى، والذى تناول فى دورته لهذا العام محورا هاما عن المخطوطات المهجرة. كما خلصت المناقشات إلى أنه اذا كان مصطلح التهجير قد عُرف اليوم مصطلحا سياسيا واعلاميا فى سياقات الحديث عن الحروب والصراعات، وما ينتج عنها من حركة (قسرية) للشعوب والجماعات الإنسانية، كذلك هو حال تراثنا العربى المخطوط، الذى تم تهجيره فى حقب زمنية ممتدة دون إرادة منه أو تخيير، وبلغ التهجير ذروته فى القرون الأخيرة.. تراثنا اليوم واقع بين مطرقة تدمير التاريخ، وسندان تهجير الحاضر، والمسئولية فى الحالين -قبل أى شىء- هى مسئولية أصحابه. وكان الافتتاح فى اليوم الأول بقاعة الشيخ القاسمى، بالمكتبة المركزية بجامعة القاهرة، وفى الافتتاح أشار د. فيصل الحفيان، مدير معهد المخطوطات إلى أن شعار (المخطوطات المهجرة)، شعار متماهٍ، وما تمر به أمتنا العربية من ظروف، تطغى فيها ظاهرة التهجير طغيانا كبيرا، وتحديدا فى السنوات العشر الأخيرة، ولفت د. الحفيان إلى تهجير آخر لا يقل عن التهجير الإنسان ، وهو تهجير عقل الإنسان الممثل فى تراثه . أما الشعار هذا العام فهو مرتبط بالتهجير، والتهجير وجه من وجوه الأسر، بينهما خيط ناظم هو الفقد، فالتهجير فقد، كما الأسر فقد، كلاهما ينتهى بالتراث إلى أن تنتقل حيازته إلى غير صاحبه. وتساءل د. الحفيان: ترى: ما سر ظاهرة التهجير لتراثنا عموما، وتراثنا المخطوط خصوصا؟ سؤال تأسيسى وضرورى، والإجابة عليه قريبة. إنه باختصار الولع: ولع الغرب بالشرق، الولع بوصفه نزوعا انسانيا ليس أمرا مستقبحا، ولا مستنكرا، بل هو جميل ومقبول، بشرط أن يكون منضبطا، ساعتها يكون تشوقا إلى المعرفة، وحافزا على العطاء. ويرى د. الحفيان أن المشكلة تكمن عندما يصطبغ بالأثرة والأنانية، فيتحول إلى سعى للاستحواذ على الآخر وامتلاك ماله، بدل أن يكون تعاونا معه، ومشاركة له فى الفعل الحضارى. لكن راية الغلبة سقطت، فما سر استمرار الولع؟ التفسير قريب أيضا: ثمة الاعجاب أو الانبهار الذى لايغادر النفس البشرية بسهولة، وثمة أمر آخر أهم يتعلق بالخوف، فقد يسترد الغالب (القديم) عنفوانه، ويحاول العودة إلى كرسى الحضارة مرة أخرى، ولاسبيل إلى منع ذلك إلا بالدخول فى تلافيف عقله الحضارى، وهو أمر لايتأتى إلا بالتعرف على ما سطره هذا العقل فى الكتب (المخطوطات). وأكد د. الحفيان: ليست لدينا إحصاءات أو أرقام دقيقة عن تراثنا فى الخارج، لكن الذى لاشك فيه، أن أكثر من النصف المعروف لهذا التراث ليس عندنا، يتوزع على عشرات الدول فى قارات العالم الست، وعلى مئات المكتبات فيها. وتساءل: هل كان تهجير التراث فى صالحه؟ أعنى أنه نجا بهذا التهجير من الحروب والإهمال والغفلة والتقصير العربى! ولفت د. الحفيان إلى أن للتهجير تاريخا طويلا وسحيقا، بدأ بسيطا يتبناه ملوك وأثرياء وعشاق معرفة وهواة، وتدريجيا صار عملا مركبا ومنظما، واتخذ طابع الظاهرة مع بدايات عصر النهضة الأوروبية (مطلع القرن الخامس عشر)، وكثيرا ما يقترن التهجير بالحروب، ثم بالمراحل التى تليها، والتى توصف اليوم بالحروب الباردة، ففيها يتعرض التراث للسرقة وغيرها، وينتقل إلى خزائن ومدن بعيدة، مما يدخله فى عمليات ثقافية مشكلة. وتشير كتب التاريخ إلى وقوع عمليات تهجير للتراث العربى المخطوط، عقب الحملات الصليبية التى غزت العالم العربى على مدى قرنين من الزمان، بل إن التهجير أقدم حتى من هذه الحملات التى بدأت فى القرن الخامس الهجرى، فقد ذكر المؤرخون أن جزءا من مكتبة الخليفة الأموى المستنصر بالله، توفى عام ست وستين وثلاث مائة، قد بيع، وأن جزءا آخر نهبه البربر. أما حديثنا فإن ما جرى فى بغداد والموصل وحلب وغيرها لايزال ماثلا أمام عيوننا لقد قام بعمليات تهجير تراثنا البابوات والملوك والدبلوماسيون، والمستشرقون والضباط والجنود والأثرياء والتجار، وما كانوا يأبهون لشىء، ولايحرصون على قيمة، سرقوا وهربوا وغصبوا واشتروا وقايضوا وباعوا وتاجروا، فى حراك محموم، دال على عقد نفسية ونوازع خبيثة. وقدم د. محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة التحية لجهود معهد المخطوطات العربية، من خلال معرض المخطوطات الخزائنية التى أعدها المعهد، وكذا المخطوطات المهجّرة من الجزيرة العربية التى أعدتها دارة الملك عبدالعزيز بالمملكة العربية السعودية. وأكد د. مدحت عيسى، مدير مركز المخطوطات بمكتبة الاسكندرية، ان المحور الأساسى الذى يقوم عليه يوم المخطوط العربى هذا العام، يناقش أمر مخطوطاتنا المهجّرة، سلما أو انتقالا، أو اخفاء، أو اتلافا، بما يعد انتهاكا صارخا لحقوق الملكية الثقافية التى أرستها المواثيق الدولية، وبما يمثل ضربة قوية فى صميم الهوية العربية، أما الهوية التى أقصدها فهى حقيقة الشىء من حيث تميزه عن غيره، إذ لاتستطيع الجماعة أو الفرد انجاز مشروع مهما كان نوعه أو حجمه، دون أن تعرف نفسها، وتحدد مكانها، ودورها، وشرعية وجودها كجماعة متميزة. وأهم ما يميز تلك الفعاليات فيلم تسجيلى طرح سؤال الشتات، شتات المخطوطات، جاء فيه أن التراث المخطوط يعيش حالة من الشتات العظيم، وتشير الببليوجرافيا والفهارس إلى غنى الدول غير العربية بهذا التراث الذى يتوزع فى الدول الأجنبية على 350 مكتبة، ف 21 دولة فى بريطانيا وايرلندا 88 مكتبة، فرنسا فى 68 مكتبة، ايطاليا 40 مكتبة، أمريكا 38 مكتبة، ألمانيا 34، بالاضافة إلى عشرات المكتبات فى دول أوروبا. وأن السر وراء علمية التهجير هو الولع، ولع الغرب بالشرق، وأنه لم يكن ولعا بريئا ولاعلميا خالصا، لكن هدفه هو استيطان العقل العربى كما قال د. الحفيان. وأشار الفيلم إلى أنه منذ الحملة الصليبية الأولى فى القرن الخامس عشر حتى الحرب الأمريكية على العراق 2003م، والتراث يعانى التهجير، كما عانى من التدمير، وقد تم تهجير مئات الآلاف من المخطوطات من دمشقوبغدادوالقاهرة والقدس والقيروان والمدن اليمنية باتجاه الغرب لتأخذ مكانها على رفوف مكتبات مثل دير الاسكوريال فى أسبانيا، مكتبة بنستون الأمريكية، البوردوليانا باكسفورد والمتحف البريطانى، مكتبة ستوكهلم، وأوبسالا بالسويد، ومكتبة الفاتيكان، وما نشستر بانجلترا، وبطرسبرج بروسيا. ولظاهرة التهجير فى القرن الحديث أسبابها التى ترجع إلى جذر واحد هو الخوف من التراث، فهو يبث الخوف فى قلب الآخر المناوىء لصاحب التراث، وكان يفترض أن يقابل ذلك الخوف على التراث. وتعد الأسباب الأيديولوجية أسوأ أسباب التهجير وأشدها خطرا، وأكثرها كشفا لعورات النفس الإنسانية، ومن أهم هذه الأسباب، البحث عن حق تاريخى مزعوم، وفى سبيل ذلك يجرى توظيف النصوص، وفى سبيل ذلك الحق الكاذب يجرى تصنيع النصوص، وإخفاؤها أو الحجر عليها أو الحيلولة بينها وبين أصحابها، وقد قامت اسرائيل بذلك عندما اغتصبت الوثائق الخاصة بأملاك اللاجئين الفلسطينيين وحذرت من الاطلاع عليها، بأن ضمتها إلى ما يسمى (أرشيف دولة إسرائيل) وصنفتها تحت عنوان غريب هو (الوثائق المتروكة)! للباباوات الذين يمثلون فى الغرب تاريخيا السلطتين الدينية والدنيوية دور مهم فى عمليات التهجير، البابا اجلميس الحادى عشر أوفد اثنين من آل السمعانى (إلياس) سنة 1707م، ويوسف 1715 إلى بلاد الشام، ومصر لجمع المخطوطات، ليست العربية فحسب وإنما السريانية والقبطية. وتذكر المصادر أن يوسف ملأ ثلاث سفن، وشاء القدر أن تغرق اثنتان فى النيل، وهما فى الطريق إلى روما. والملوك بخاصة ملوك فرنسا، لم يكونوا أقل عناية بالمخطوطات، فقد حرص ملك مثل لويس التاسع فى القرن ال 19 أن يحمل فى طريق عودته من مصر مخطوطات عربية وقبطية، لتكون فى قصره. الدبلوماسيون والمستشرقون كانوا فى كثير من الأحيان أذرعا للطبقة السابقة، وهم الذين قاموا بالجزء الأعظم من مهمة تهجّير المخطوطات. وتحكى الوثائق والمراسلات المتبادلة التى تحتفظ بها مكتبة جامعة (أوبسالا) 91 وثيقة عن قصة تهجير المخطوطات من اليمن خلال القرنين ال 19 والعشرين والمستشرق النمساوى اليهودى (ادوارد جلاذر) الذى ادعى الإسلام وتسمى باسم الحاج حسين، استطاع أن يهجر الكثير من المخطوطات والنقوش والرسوم من اليمن وإذا كان الدبلوماسيون والمستشرقون هم الأيدى الناعمة، فإن الضباط والجنود هم الأيدى الخشنة التى دمرت، وهجّرت - أحيانا- ليس المخطوطات فحسب، وإنما التراث بأنواعه. والأثرياء والتجار فريق آخر، كان له أغراض خاصة فى التهجير، ومنهم المليونير الفيردشترسيتى الذى استعان بيهود وأرمن حتى تكونت مجموعته النفيسة التى ضمتها المكتبة التى أنشأها باسمه فى دبلن. ولاننسى تهجير المخطوطات الهندية التى عبرت إلى بريطانيا. وتعددت وسائل التهجير وهى فى جميع الحالات غير شرعية، بل غير أخلاقية ومنها: الغصب، أكثر الوسائل فجاجة، والسرقة وهى تعد نوعا من أنواع الغصب، لكن مع لطف واحتيال، ولاشك أن جزءا لابأس به من المخطوطات المهجرة كان نتيجة شراء أو مقايضة لسلع أو هدايا، قام بها الدبلوماسيون والمستشرقون أو الأثرياء من التجار وغيرهم، لكنها عمليات باطلة، اذ إن طرفيها الأساسيين لايحق لهما ذلك. والإهداء وسيلة مستفزة من وسائل التهجير، السلطان عبدالحميد الثانى أهدى مجموعة من الذخائر التى كانت فى صحن المسجد الأموى لولى عهد ألمانيا خلال زيارته لدمشق عام 1898م. والسؤال: ماذا نفعل ازاء مخطوطاتنا المهجرة هل سنطالب بها، أم أننا سنكتفى بالحصول على صور منها وإذا كانت استعادة أصول المجموعات كاملة، أغراضا بعيد المنال، فهل نفكر فى استعادة هذه الأصول اعتمادا على الظروف التى هجرت بها،والوسائل التى استخدمت فى ذلك، واستنادا إلى قوانين ومواثيق دولية؟ الإجابة على ذلك عند أصحاب القرار فى بلادنا العربية!