كجد عجوز طيب يحكي علاء خالد عن مدينته المفقودة أو المفتقدة. يسرح مع ذكرياته غير مبال بانتباهك أو شرودك أو فمك المفتوح علي اتساعه، يتنقل من ذكرياته الشخصية، لتاريخ المدينة عبر الأماكن والشخصيات الذين عبرهم وعبروا في حياته. لكنه لا يحكي عن معمار قديم أو مجد زائل فقط، بل يسرح ليفصل أفكاره حول الفن والكتابة، الحياة والموت، وتصاريف الزمن، تتداخل الذكريات وتتنوع في منولوج طويل يحكي حكاية المدينة التي صاحبت البحر حتي ابتلعها في أعماقه. لا يرجو من تدوينه إلا أن يكون محاولة لصنع »ذاكرة بديلة« تسجل تفاصيل ما جري للإسكندرية، ولكنه يشكك حتي في نفسه، فمن يضمن أن تعيد هذه الذاكرة البديلة تفاصيل ما حدث بدقة؟ لابد أنها ستضيف شيئا أو تحذف آخر، لا شيء يضمن، لا يوجد ضامن، لكنها الضريبة التي يجب أن تدفعها الإنسانية في سبيل استمرارها »أن تعيش الذاكرة القديمة داخل لحظة تأويل مستمرة. أن تضاء الذاكرة القديمة بذاكرة جديدة، مهما كان حجم الخسائر«. يشعر علاء خالد وهو يدون »وجوه سكندرية« تماما كما بطل داود عبد السيد في فيلم »رسائل البحر« يفرغ ذاكرته لصديقته قبل إجرائه لعملية دقيقة في المخ، يخاف أن يفقد ذاكرته أو تهتز فيفقد نفسه وهويته، ذاكرته هي أمانه الوحيد الذي يحفظ توازنه في حياه متغيرة »عندما تنطق أمامي كلمة ذاكرة أتحسس رأسي بحنان. أتخيل هذا المكان الصغير الذي يحوي كل هذه الذكريات والمذاقات والأحاسيس. هذا المكان المهدد دائما بالنسيان أو المرض، ولكنه سيظل مكان التأويل المستمر للحياة، برغم هشاشته«. الفردوس المفقود وكأنه ينتقم من الصورة النمطية السائدة عن الإسكندرية »الكوزموبوليتانية«، يهز هذه الصورة ويفككها، فهو يعيش في المدينة، ملتصقا بها يراها من الداخل، لا توجد مسافة تجعله ينظر إليها من علي البعد »تعرفت عليها في البداية من دون وسيط، سواء كان هذا الوسيط هو التاريخ القديم لها، أو من خلال وسيط الأدب« لم يندمج علاء خالد كثيرا مع الصورة التي يفرضها الأدب، فالمدينة التي تركت بصمتها عليه مباشرة، تخفت في الأدب تحت ستار »الفردوس المفقود« الذي مازلنا نبحث عنه حتي الآن كما كتبه داريل، وفورستر، كفافيس، أونجاريتي، وحتي إدوار الخراط. يحمل علاء كل هؤلاء ذنب بحثنا البائس عن تلك المدينة ف"جميعهم وسعوا من فضاء هذا الفردوس، حتي ابتلعنا". يطرح المؤلف داريل كنموذج واضح لهذه المسألة، فالرباعية التي تعتبر المرجع الروائي الأول للمدينة ركزت علي الأجنبي وتجاهلت المصري ابن البلد تماما، وهو ما جعل الروايات التي كتبت بعدها إما أن تستنسخ هذا المرجع أو تحاول أن تكشف عيوبه »إما بالوقوف ضده وضد خطه الفكري، الذي لم ير في الإسكندرية سوي إسكندرية الأجانب فقط، وإما بالسير علي الطريق نفسه الذي سار عليه داريل، وتقديس فكرة التعدد وكونية المدينة، ونفي أي مركزية لهوية وطنية أو محلية واضحة«. حتي السينما لم تختلف كثيرا قدمتها باعتبارها »مكان صنع الأحلام« استراحة المحارب أو العاشق أو المتأمل أو المهزوم سياسيا، مثل عيسي الدباغ في رواية نجيب محفوظ »السمان والخريف« الأبطال الذين يبحثون عن مكان ليجددوا فيه أحلامهم، المكان الذي يحدث فيه اللقاء مع شيء بعيد حدسي غير ملموس، وغير واضح المعالم، والإسكندرية هي دائما هذا المكان "هل يمكن أن ننسي فندق البوريفاج الذي كان القاسم المشترك في كل الأفلام. الفندق الذي تحول إلي رمز للإسكندرية كلها، بحديقته الكبيرة، وكراسيها المصنوعة من الخوص، البيت الخشبي، وحديقة الأسماك، والأبواب الزجاجية؟ كل هذا أحال الإسكندرية والفندق إلي بيت كبير«. يبلور علاء خالد هذا التصور باعتبار القاهرة الابن البكر الجاد، بينما الإسكندرية هي الابن اللاهي، الفنان، الغارق في نفسه حتي النخاع، وبرغم فرح هذا الابن بالدعة والهدوء اللذين يعيش في كنفهما، إلا أنه يطمح باستمرار في مكانة الابن الكبير. المدينة المفهوم المأزق الحقيقي الذي سببته هذه الصورة، هو أننا نحاول دائما استعادة صورة المدينة القديمة »فكرة الاستعادة هي الأقوي في تاريخ المدينة، كأن من يعيش الآن هو شبح المدينة وليس المدينة نفسها«، لكن الفكرة الأهم التي يطرحها المؤلف هي أن هذا المأزق وهذا التناسخ في تاريخ المدينة، كان بسبب كونها »مدينة مفهوم« أكثر منها حقيقية، ربما ثقل التاريخ الذي عاشته هو السبب في تجريدها إلي هذا الحد، لتتحول إلي مدينة غير مرئية علي مستوي حاضرها، ومرئية علي مستوي التنظير والكتب وعالم الرموز. بانسحاب الحس الفني من الحياة، نزع علاء خالد الغلالة الشفافة التي كان يري الواقع من ورائها، لذا فإنه يحاول في المقابل خلق تاريخ حقيقي للمدينة يتجاوز التركيز علي الأجانب سواء الأشخاص أو الأماكن، يحاول أن يؤرخ للمواطن السكندري العادي، يقدم قلب الإسكندرية الحقيقي، يبحث في وجوه الناس »أصحاب المدينة« يبحث عن مدينته في وجه عايدة بائعة الورد، وعم عربي الارستقراطي المجهول، أو عم خميس الصنايعي ابن البلد، يبحث في خطوط جمال الدولي، وتحولات مقهي الكريستال، ومقهي الحاج صالح، ومقهي وبار الوطنية، حيث لا مجال لمساحيق التجميل، كل شيء علي طبيعته الجارحة الصادمة، والتي بالتأكيد لا تخلو من جمال. في رحلة البحث هذه يصادف من هدته المدينة، وأخضعته لسحرها، المجاذيب، الشعراء والفلاسفة، الصعاليك والمتشردين، وحتي الباعة الجائلين الذين انتقموا من المدينة علي طريقتهم، احتلوا وسط المدينة التي كانت المركز الذي تدار فيه رءوس الأموال، حيث العمارات والفيلات الفارهة »ينالون من تاريخ الرمز الذي لم يدرجهم تحت حمايته في أي حقبه تاريخية. يترقبون باستمرار حملات الإزالة ليهربوا إلي مداخل العمارات التي غاب أصحابها والتي تحولت إلي مخازن لبضائعهم« اختلف وسط البلد الآن أصبح مكانا شعبيا بالمعني الاستهلاكي »كل شيء رخيص وصناعي وخال من الروح يباع هناك«. يتذكر علاء صورة لوالده، أخذت في الأربعينات، وهو واقف أمام واجهة إحدي المكتبات الأجنبية في شارع سعد زغلول، وفي يده مجموعة من الكتب الانجليزية، وعلي عينيه نظارة لها عدسات دائرية، ويرتدي بدله كاملة، صورة لشاب في العشرينيات يريد أن يكون جزءا أصيلا من ثقافة المكان. يتأمل علاء ويتساءل »أين هذا المكان الآن؟« ويجيب »كل عصر يعيش في ظل غائب عنه. هناك جغرافية لا مرئية، تبحث عن الأثر وتتعقب أسماء الشوارع، تجري وراء كلمة »سابقا« فهناك دوما عصر سابق يعيش تحت قشرة هذا العصر، وهناك عالم آخر يختفي تحت أسفلت الشوارع. صياغة الماضي هل كانت المدينة تعيش فعلا تلك الحالة »اليوتوبية« الشهيرة في وقت ما؟ يقول علاء إن الإسكندرية من أحد المراجع الحديثة لفحص فكرة التعدد، أو الوسيط بين عدة لغات، والتي بلغت ذروتها نهايات القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين. في تلك الفترة امتلأت الإسكندرية بالجنسيات الأجنبية والعربية، وحدث التفاعل فيما بينها، بشكل أو بآخر، ومن يومها أصبحت تلك الفترة مرجعا مهما في لا وعي المدينة وساكنيها، المرجع القريب للحنين، حتي لمن لم يعش تلك الفترة، إلا أنه يتوارث الحنين نفسه، كأنها سنوات لها نفاذية وتأثير عبر الأجيال المتعاقبة، نعود إلي السؤال، هل كانت المدينة في تلك الفترة تعيش حالة من التسامح فعلا؟ لم تكن مثالية بهذه الدرجة يؤكد علاء »حنيننا الحالي لتك الفترة حنين مركب، حنين للمشاركة في صياغة وضع عالمي، حتي لو كانت صورة المشاركة هي فقط تقديم المكان الشاهد علي التعدد أو التسامح. بعد تعقد هذه القيمة الآن وتعقد تفسيرها، بل غيابها، أصبحت للماضي الذي حوي هذه القيمة -التسامح- ولو شكليا، أهمية قاموسية«. ثم يلخص المسألة برمتها في موضع آخر "ليس مكان الحدث هو المهم، بل الخيال. الخيال هو الذي يضفي الحقيقة والمصداقية علي أي مكان، ويعيد صياغة الماضي". شيخوخة المدينة الكتاب وربما دون أن يقصد مؤلفه يتشابه مع المدينة التي يؤرخها، يبدأ بلحظات الزهو والشباب، الانطلاق، تزاحم الأفكار، تعددها وتنوعها في أكثر من اتجاه، ثم وقبل الأفول يكتب عن التحولات التي أصابت المدينة بالشيخوخة، عن السوس الذي ضرب في أحشائها من الداخل، نخرها وهددها بالتصدع، تتناول الفصول الأخيرة بيع الأجانب لممتلكاتهم في المدينة التي كانوا جزءاً منها والتي صنعوا أسطورتها، حتي يصل إلي ما تبقي من معمار المدينة، »العقار ليس للبيع« يافطة ستقابلها علي ما بقي من فيلات الإسكندرية، تمنع عن صاحبها تطفل السماسرة "في تلك البيوت التي علي وشك الهدم وهجرها أصحابها، ستجد تلك العائلة الصعيدية التي تقوم بحراستها قبل أن تهدم، الزوج والزوجة والأطفال، والملابس التي تعلق علي أحبال ومسامير، والتليفزيون الذي يقضون حوله أمسياتهم في انتظار الهدم والرحيل إلي مكان آخر من أجل حراسته. هذه العائلة البسيطة ستعيش ولو جزءا يسيرا من حياة البيت القديمة وذكرياته. سيتذكر أطفالها عندما يكبرون، أنهم عاشوا، ولو لشهور، في بيت متسع. ربما ينفع هذا الحلم في المستقبل.