ذات يوم رسم رينوار العظيم نفسه بالمريول الملطخ بالألوان ولم يكن وراءه خلفية وأثارت اللوحة الفزع.رسم شيخا فانيا في الثمانين يجاهد كإنسان حتي لا يفقد القدرة علي رؤية الألوان. وأخرج فيليني العظيم أفلاما غامضة عن عمله كمخرج. وصور هذا القرد العاري الذي يقف خلف الكاميرا ليصنع الأفلام، ولم يرحمه. إنها فنون الصنعة الأخيرة. »نساء في بيتي» رواية صدرت عن الدارالمصرية اللبنانية وهي تستدعي شخصيات روائية مع مؤلفيها في عقل الكاتبة هالة البدري ليتداخل كل هؤلاء مع بعضهم بل ومع سيرتها الذاتية ومع الرواية نفسها ومع التاريخ. من مفاجآت النص أن بين النساء اللاتي جري استدعائهن فنانة تشكيلية يعتبرونها بيكاسو الأنثي لتتداخل الألوان مع حروف الكتابة وأطياف ظلال التصوير الفوتوغرافي بالأبيض والأسود ولغة الموسيقي في وحدة متكاملة للفنون. إنه الفن المهيمن يفرض وجوده كحياة ربما تكون أكثر وجودا من الحياة القائمة ذاتها.فنحن مثلا نعرف إسماعيل ياسين ونعيش معه ونتحاور ربما أكثر من البواب الذي يحرسنا ونصافحه كل يوم. ترصد الرواية حياة فنانة تشكيلية وثلاث نساء كلهن روائيات تقريبا وبعضهن كتبن بالألمانية تلك اللغة التي جاهدت هالة البدري للاقتراب منها لتفهمهن وتحايلت عليهن بالفرنسية والانجليزية والعربية.ليحضرن إلي بيتها وسط تقطيع البطاطس وأطفالها وزوجها ومشاعرها وصخب القاهرة ومعهن شخصيات روائية لم تعد من صنع خيالهن بل جاءت لتخرج عن النص وتفرض وجودها كشخصيات حية علي المؤلفين وكاتبة الرواية أيضا. اختزلت هالة البدري من الرواية مايقرب من مائة صفحة لتصدر بعد العمل عليها لمدة 7 سنوات في 335 صفحة. من داخل النص تتسلل إلينا أجزاء من سيرة حياة هالة البدري نفسها بطلة مصر في سباقات سباحة الفراشة والروائية والأم والطفلة والزوجة وهي تتأمل مع ضيوفها ما تبقي من تلك الجياة . إنها رواية تصنعها كالدوامات وكل دوامة ستغرقك وسط فورانها قبل أن تتمدد وتنحسر لتترك المجال لدوامة أخري. إنها رواية تقلد ايقاع الحياة.الحياة التي لا تتقدم للأمام دائما.ولا إلي الخلف. إنها من نوعية روايات الحقيقة. وبداخلها شخصيات معروفة كهالة البدري ووالدها المستشارفرج وزوجها المهندس أحمد وأميرة طالبة الدكتوراة ومحمود أبو الفتح وجمال عبد الناصر والسادات ،كما أن النص غارق بالرسائل الحقيقية المتبادلة والحوارات الثقافية وقصاصات الأخبار والمذكرات. بل وطوال الوقت تحرص كاتبة النص علي إبراز هوامش تكشف منهج الكتابة فلا بأس أن تجد نفسك أمام هامش بين قوسين يقول لا تنسي كتابة فقرة عن أم قوت الدمرداشية أوعن وفاة باخمان . أول الرواية مقدمة تبدو سخيفة. إنها عن أوراق خريف جافة وأخشاب وكوخ منعزل وسط الغابة يحترق. وتلتهمه ألسنة النيران. لكننا شيئا فشيئا ننتبه.كانت بداخله امرأة، تدعي باخمان، عمرها 47 عاما. مثل كل المحتويات الأخري تفحمت، ربما قتلت، أو انتحرت.أو أسقطت بإهمالها أو من الضجر سيجارتها الأخيرة، قبل أن تنام. باخمان مؤلفة »مالينا» الرواية الأشهر والتي تابعها الجمهور بعد وفاتها في فيلم سينمائي عن قصة مالينا سكورديا التيراح حبيبها للحرب في زمن موسوليني ويقع في غرامها صبي مراهق يتلصص علي مفاتنها ويطاردها الرجال فتستجيب لهم وللألمان وتثير سخط كل نساء المدينة.وبعد الحرب يقذفها الناس بالحجارة ويطاردونها لكن حبيبها يعود مبتور الذراع ويجبرهم علي احترامها. لا تكتفي هالة بترجمة روايتها مالينا ولا ما كان يهاجمها من كوابيس ساحقة. ويبدو أن كل هذا كان طبيعيا لطفلة تفتحت عيناها علي النار والدم واجتياح بيادات عسكر هتلر للنمسا. كان أبواها من كبار النازيين وعندما أحبت وقعت في غرامتسيلان شاعر يهودي خارج من معتقلات السخرة ولم ينقذه سوي تقدم جيوش الروس. كانت في حياتها القصيرة عضوة في لجنة عارضت الأسلحة النووية ووقعت إعلانا ضد الحرب في فيتنام وكانت ضمن الدائرة الأدبية الشهيرة » مجموعة 47» التي غيرت بثوريتها ملامح الأدب الألماني. لم يكتب حبيبها الذي يجيد الإنجليزية والفرنسية بصدق إلا باللغة الألمانية، لغة جلاديه، التي حرص علي تفجيرها وصناعة مفردات مبتكرة بداخلها، خصوصا عندما يتذكر معسكر الموت الذي لا يفارقه وذلك الحليب الأسود الذي كان يشربه من أول الظهيرة حتي نهاية المساء. كيف تبدوالحياة ممكنة في هذا العالم وكل شيء يتقدم نحو الموت؟ حتي بعد انتهاء الحرب. حبيبها الشاعر المهزوم هوالآخر رفع سكينا علي زوجته في لحظة انهيار ووجدوه بعد أربعة عشر يوما في باريس في قاع أحد الأنهار. نحن هنا أمام رواية عن أربع مبدعات لا تكتفي هالة بعرض أعمالهن لكنها تصف عصف عقولهن وغرف نومهن وكوابيس أحلامهن وتتابع كيف نصنع وسط عواصف الحياة هذا الجحيم المسمي الكتابة. أخر الرواية قائمة بعشرات المراجع فالرواية يختلط بداخلها جهد البحث والترجمة والتفسير والنقد والفن والخيال، وطوال الوقت يصدمنا هؤلاء الكاتبات والفنانات بالتقابل والتحاور بل وأحيانا تطردهن شخصيات أعمالهن أو شخصيات من الواقع ليكتفي هؤلاء بالتحاور فيما بينهم بلا مؤلفين. جورجيا أو كيف شخصية تالية لم تكن من المنتحرات وعاشت حتي السابعة والتسعين ترسم الحياة.في شبابها التقط من أحبته لها صورا عارية في 300 لقطة لمناطق حساسة ومن زوايا يصعب تصديقها. وأقام معرضا لتلك الصورالحميمية أثار الدنيا قبل أن تعرض لوحاتها علي الجمهور بأسبوع واحد.كان حبيبها ألفريد استيجليتز الأمريكي المجنون صاحب مجلة »عمل الكاميرا» يبحث عن فضيحة وهو الآخر قصة عظيمة مصور فوتوغرافيا اخترع ستديو 291 ولا يعترف بأن التصوير مجرد لقطات. بل يستحق أن يكون فنا عظيما وساهم في شهرة العشرات من الفنانين وعلي رأسهم رودان وماتيس وسيزان وبيكاسو الذي لم ينجح في بيع لوحة واحدة في أمريكا. ومن ألمانياوأمريكا تجرجرنا هالة البدري لروائية مصرية كتبت في المنفي بالفرنسية وظلمت كثيرا. تميل بنا هالة علي قوت القلوب الدمرداشية المولودة تحت مئذنة. كانت سليلة شيخ الطريقة الدمرداشية الصوفية وواحدة من أغني أربعة نساء في مصر، وبعدما طردها عبد الناصر من موطنها قذف أحد أولادها كرسي في الهواء في وجهها لتسقط قتيلة في المنفي دون أن يقصد. ودفنت هناك في إيطاليا وحيدة ولم تكن وحدها بل كثيرون . عبر قوت القلوب ندخل عالم » رمزة بنت الحريم» و» زنوبة» وبيتر ستم باشا مهذب الجواري الفاتنات.وتقابلنا نساء يتدربن علي تقوية أبدانهن و جمالهن يجدن الفرنسية والإنجليزية وحفظ الشعر والغناء والعزف والرقص.لم يكن أبدا تعيسات ويعشن علي أمل أن يصبحن محظيات لباشا أو أمير.كانت أم قوت القلوب الدمرداشية واحدة من هؤلاء النسوة.وكانت في غاية السعادة لأنها إحدي جواري الباشا الوسيم والد قوت. تنقلنا صور الحياة لعصور ولا ألف ليلة وليلة عن المماليك وقصور الحريم وكرامات الأولياء وروائح البخور لترسم أمام أعيننا معالم حياة مدهشة عن تاريخنا القريب.لأن »العبيد السود» الذين يخدمون في بيوت الأثرياء كانوا يعيشون حياة أفضل كثيرا من أقاربهم الأحرار في أحراش السودان! البحث في الرواية يذكر أن قوت القلوب ظلمت كثيرا فقد كانت رائدة في زمانها وارتاد صالونها الأدبي بالقاهرة عشرات من كبار المفكرين والأدباء في أوربا.ويخبرنا بأنها تمردت علي زواجها وأصرت أن تكون العصمة في يدها وأطلقوا عليها لقب صاحبة العصمة. لكن العز لا يدوم وصودرت أموالها وممتلكاتها وهي من كانت تتبرع بسخاء للفقراء. كانت تطلقت من زوجها واختارت زوجا آخر من غير طبقتها دافعت عن بقائها معه ضد الجميع واكتشفت أنه لايستحق التضحية ووقعت في غرام محمود أبو الفتح الصحفي الكبير وصاحب جريدة المصري. من خلال تلك الشخصية - محمود أبو الفتح - تختتم هالة البدري روايتها عن أول نقيب للصحفيين والرجل الذي تبرع من ممتلكاته بمقر لإنشاء النقابة واشتري شركة الإعلانات الشرقية حتي لا يتحكم في الإعلانات الإنجليز. محمود أبو الفتح الذي سجن وهوطالب للتظاهر ضد الاحتلال الإنجليزي والرجل الذي صاغ مطالب ثورة 1919 وكان ذراعا رئيسيا لسعد زغلول وكانت جريدته المصري صوت حزب الوفد ومقرا لتعلم جمال عبد الناصر وزملائه أعضاء تنظيم الضباط الأحرار . اعترض علي غياب البرلمان وإلغاء الأحزاب فقدموه لمحكمة الثورة وأسقطوا عنه الجنسية وصادروا أمواله وبعد أن مات رفضوا أن يعود جثمانه ليدفن في مصر. بعد أن مات بعشرات السنين مات عبد الناصر وتولي السادات.وكان السادات عضو اليمين في المحكمة الظالمة التي انعقدت لإعدامه بإسقاط الجنسية عنه زمن ناصر.تراجع السادات وأصدر قرارا بأن ينال محمود أبو الفتح قلادة النيل أرفع الأوسمة في تاريخ مصر. وطلب من أقاربه أن يقيموا دعوي قضائية لاسترداد أمواله وممتلكاته. كسب أقارب محمود أبو الفتح القضايا، لكن السادات كان قد مات.ورفض مبارك تنفيذ الأحكام. وهكذا تمضي صفحات الرواية وكأنها الحياة يختلط بداخلها التاريخ بالفلسفة والإبداع وصراعات الموت والحياة في مشارق الأرض ومغاربها بحثا عن مفارقات الزمن ومصيرالإنسان.