الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي، شيخ الأزهر ، خارجا من سراى عابدين فى عهد الملك فؤاد لم يكن أحد ممن أشرقت عليهم - في مصر أو غيرها - شمس، أواخر عام 1918 يستطيع -مهما امتلك من قوة - أن يتنبأ أو يستشرف المستقبل أو يقدم تصورًا لحوادث عام 1919 كما جرت في وقتها، وأصبحت من أهم ثورات مصر في القرن العشرين، والتي أحدثت تغيرًا كبيرًا في تاريخ مصر، وحققت بفضل هذه الثورة إنجازات أعطت لمصر السبق في مجالات عديدة. مصر في ذلك الوقت كانت تراقب بشيء من الانتظار والقلق ما سيسفر عنه استسلام ألمانيا وتوقيعها اتفاقية الهدنة وإيقاف الحرب في الساعة الحادية عشرة يوم 11 نوفمبر 1918، والتي بموجبها انتهت الأعمال العسكرية للحرب العظمي - كما كانت تسمي في وقتها - ومصر علي المستوي السياسي كانت تعيش حالة البلاد التي تتقيد بقوانين الحرب ورجال سياستها، منهم من يدور في فلك قوات الاحتلال البريطاني لينعموا بمكاسب القرب منه، ومنهم من يدور في فلك السلطان الجديد فؤاد الأول والذي جاءت به قوات الاحتلال سلطانًا لمصر في أكتوبر 1917، وهو أيضًا لا يخرج عن طوع رجال الاحتلال؛ فهو - إلي حد كبير - مدين بوصوله لكرسي العرش -دون أي فرد آخر من أحفاد محمد علي باشا- لبريطانيا العظمي. وكانت مصر قد عانت من ويلات الحرب؛ فقد سُنَّ قانون التجمهر لمنع المظاهرات وأُعلنت الأحكام العرفية وفُِرضَت الرقابة علي التلغراف والبريد والصحف ثم أعلنت الحماية البريطانية علي مصر؛ وتم خلع حاكمها الخديو عباس حلمي الثاني بعد رفضه العودة لمصر ووضعت بريطانيا علي مصر حسين كامل سلطانًا عليها، واعتقلت ونفت السلطات البريطانية من اعتقدت في معارضتهم لسياستها. وكانت هذه الإجراءات ثقيلة علي الشعب المصري، ولم تَجِد ْمن ساستها ردود فعل رافضة بل إن سعد زغلول - الذي كان الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية (البرلمان المصري) - لم يبد هو أو زملاؤه أي رد فعل، بل ذهب في يناير 1915إلي محطة مصرلاستقبال المندوب السامي البريطاني الجديد السير هنري مكماهون، ورغم ذلك لم تمر تلك الحوادث مرور الكرام علي الشعب المصري رغم ثقل الإجراءات البريطانية؛ فقد احتجبت بعض الصحف، وأضرب طلاب مدرسة الحقوق وجرت محاولتان للاعتداء علي السلطان حسين كامل وأيضًا وزير الأوقاف، إلا أن القوات البريطانية تقابل ذلك بكل قوة بأحكام عسكرية بالإعدام؛ ليكون ذلك رادعًا لكل من تسول له نفسه زعزعة مكانتها في البلاد. وبدا أن مصر - طوال الحرب العظمي الأولي - أصبحت طيعة في يد البريطانيين؛ فقد عطلت الجمعية التشريعية (البرلمان المصري) وتدفقت القوات البريطانية علي مصر، وكانت القوات المصرية بجوار القوات البريطانية في صد أي اعتداء علي مصر من حدودها الأربعة، بل وقدمت مصر العمال والفلاحين والمؤن ودواب الحمل للمساعدة في المجهود الحربي البريطاني طوال الحرب، وبلغ عدد العمال المصريين الذين شاركوا مع البريطانيين أكثر من مليون، وزادت مصر من مساحة الأراضي المنتجة للحبوب لتموين الجيوش البريطانية، وقدمت الحكومة المصرية مبلغ ثلاثة ملايين من الجنيهات الإسترلينية كمنحة لبريطانيا اعترافًا بجميلها في الدفاع عن مصر !!، وقد عاني الاقتصاد المصري أشد المعاناة طوال الحرب العظمي؛ بسبب سياسة الاحتلال، وبدا أن مصر - بكل مقدرتها - مسخرة لخدمة بريطانيا العظمي. لقد بدا أن بريطانيا - بتلك الإجراءات - قد دانت لها مصر إلا أن ذلك لم يكن حقيقيًّا، فإن تجربة الشعب المصري - منذ القدم في التعامل مع المحتل - أورثته ثقافة خاصة وقدرة علي التغير والتعبير عن رغباته في الوقت المناسب له وليس للمحتل؛ لذا ما إن انتهت الحرب وبدأت تلملم أوراقها حتي بدا أن الشعب المصري بدأ في إعادة ترتيب أولويته، وبدا أن مرحلة جديدة من تاريخه شرع في كتابتها وأنه ينتظر القائد الذي يتولي المسئولية، وزاد من حركة الشعب المصري نحو الثورة توالي أنباء أن وفودًا من الهند وسوريا ولبنان والحجاز وأرمينيا وغيرها سوف تشارك في مؤتمر السلام بباريس وأن مصر لم يسمح لها بالمشاركة رغم أنها هي التي ضحت بالكثير وميراثها الحضاري والتاريخي أعمق من بلدان سمح لوفودها بالمشاركة، هنا كان للشعب المصري رأي آخر ، وأخذ علي عاتقه سرعة التحرك لإرغام المحتل علي الاستجابة لمطالب المصريين. ولم تكن المبادئ التي أعلنها الرئيس الأمريكي ويلسن في يناير 1917 بحق الشعوب في تقرير مصيرها بعيدة عن النخبة المصرية، كما كان لميراث مقاومة الاحتلال منذ 1882 وحتي 1918 أثره في استنهاض الهمم واستلهام روح الثورة ضد الاحتلال البريطاني والمطالبة بالاستقلال. كل ذلك كان يعتمل في نفوس المصريين في وقت كانت بريطانيا تعهد إلي أحد رجالاتها "السير وليم برونيت" لوضع مجموعة من القوانين التي يتم تطبيقها في مصر لتتماشي مع إعلان الحماية علي مصر، وكان مجمل هذه القوانين يهدف إلي جعل مصر مستعمرة من مستعمرات التاج البريطاني، من خلال جعل النائب العام بريطانيًّا، ومجلس نيابي ليس له سلطة التشريع، ومجلس شيوخ يضم خليطًا من المصريين والأجانب، وغيره من التعديلات التي جاءت ماسة بالكرامة الوطنية المصرية وما حققته مصر طوال تاريخها. لقد حققت مصر - خلال العقود السابقة علي قيام الثورة - تقدمًا في المجالات الأدبية والعلمية والصحفية فلم يكن في دولة في المنطقة لديها من الصحف والكُتَّاب والأدباء والمثقفين ما لدي مصر، كما كانت طبقة المتعلمين في مصر تزداد أفقيًّا ورأسيًّا وتولت الوظائف الحكومية وعانت من احتكار البريطانيين للمناصب الحكومية الكبري والامتيازات المالية؛ مما خلق طبقة رافضة للنظم الاستعمارية والاستبدادية، وصار المجتمع أكثر استعدادًا للتعبير عما يعتمل بداخله ضد المحتل الأجنبي، ولم يكن العمال والفلاحون بعيدين عن رفض المحتل الذي بدأ يختمر في نفوس جميع المصريين، ولم يكن مستغربًا أن جميع طوائف الشعب وطبقاته أجمعت علي هذا الرفض، لكن حتي منتصف نوفمبر 1918 كان يبحث عن طريق للخروج من داخل نفوس المصريين للعلن، وهو ما جاءت أولي مظاهره مع تأليف الوفد المصري. علي طريق الثورة....تأليف الوفد المصري مثلت كاريزما سعد زغلول - بما يمتلكه من قوة الشخصية ومقدرته الخطابية ومواهبه الخاصة -المفتاح الرئيس لأن يجمع حوله مجموعة من سياسيي الأمة ورموزها ليطالبوا بتأليف وفد مصري لحضور مؤتمر الصلح بباريس لعرض قضية مصر عليه، وكانت البداية أن يذهب الوفد إلي لندن لعرض المطالب المصرية علي الحكومة البريطانية. وما بين الساعة الحادية عشرة صباحًا والساعة الثانية ظهر يوم 13 نوفمبر عام 1918، قابل المندوب السامي البريطاني السير ونجت الوفد المصري (سعد زغلول - عبدالعزيز فهمي - علي شعراوي) بعد وقف الحرب بيومين اثنين،وكانت المقابلة صراعًا مكتومًا بين طرفين: طرف تمثله دولة الاحتلال التي تسعي لتثبيت مكانتها في مصر بكثير من الكلام اللين والذي يدعو للعجلة وأن الخير قادم لمصر وأن الإصلاحات البريطانية سترضي المصريين، وقليلٍ من الكلام الذي يحمل التهديد. وطرف آخر تمثله الأمة المصرية، يحمل علي كتفه آمال أمة تسعي للحرية والخلاص من الاحتلال الجاثم علي صدرها منذ عام 1882، وبكل براعة كان يدافع عن أهلية المصريين لأن يحصلوا علي الاستقلال ويحكموا أنفسهم بأنفسهم وتاريخهم شاهد علي ذلك، وقد أبدي الوفد المصري استعداده بأن يكون لبريطانيا علاقة متميزة بمصر في إطار "صداقة الأحرار لا صداقة العبيد" وكان ذلك تفنيدًا لرأي المندوب السامي أن مصر قد تكون عرضة لاستيلاء كل دولة قوية عليها غير بريطانيا، وناقش الوفد المصري قضايا، مثل: الامتيازات الأجنبية، وطلب الوفد المصري مساعدة المندوب السامي لتحقيق مطالب الأمة المصرية. واعتبر السير ونجت أن هذه المحادثات غير رسمية. ولم يكن السير ونجت راغبًا في أن يكون لسعد وصاحبيه دور في القضية المصرية أو التحدث باسم المصريين، وأراد أن يُحْدِثَ خلافًا بين الحكومة والوفد؛ فعندما قابل ونجت رئيس الحكومة رشدي باشا استنكر أن يقوم سعد بهذا الدور؛ فرد عليه رشدي باشا إن: سعد وكيل الجمعية التشريعية المنتخب، وصاحبيه عضوان بها، وهي الهيئة التي تمثل الأمة، وكان ذلك إنذارًا بأن البريطانيين يدبرون شيئا وأنهم لن يرضوا بأن يطالب أحد بحقوق المصريين، وإذا كان أحد فلا يجب أن يكون ثوريا وإنما السلطان وحكومته وهي أمور تستطيع أن تحتويها بريطانيا؛ فهم يدينون بمناصبهم لها، أما أعضاء الجمعية التشريعية فيدينون بمناصبهم للأمة المصرية. كان ذلك إيذانًا بضرورة العمل بقوة علي وجود ممثل للأمة المصرية يتحدث باسمها وبتوكيل منها في ظل غياب الجمعية التشريعية ورضوخ الحكومة والسلطان للمندوب السامي البريطاني، فألف الوفد من سعد زغلول وأربعة من أعضاء الجمعية التشريعية (علي شعراوي - عبد العزيز فهمي - عبد اللطيف المكباتي - محمد علي علوبة) واثنين من خارجها (محمد محمود باشا - أحمد لطفي السيد) وتولي سعد رئاسة الوفد، ووضعوا للوفد قانونًا، ولكي يكون للوفد صفة التحدث عن الأمة اتفق علي صيغة توكيل يوقعها أعضاء الهيئات النيابية في مصر (الجمعية التشريعية - مجالس المديريات - مجالس البلدية) وذوو الرأي، والأعيان وممثلون لطبقات الشعب، وانتشرت حركة التوكيلات في كل ربوع مصر وأفسحت لها المجال حكومة رشدي باشا، وهو ما أغضب السلطة العسكرية البريطانية، وتدخل المستشار البريطاني لوزارة الداخلية لمنع حركة التوكيلات ومصادرتها، ورغم هذا حققت الحركة نجاحًا كبيرًا بسبب ما كان يعتمل في صدور المصريين من روح وطنية خالصة. وكان نجاح الوفد في جمع التوكيل داعيًا لأن يضم إلي عضويته أعضاء جددًايستطيع من خلالهم أن يكون أكثر تمثيلا وتلبية لمطالب بعض فئات وتيارات الشعب المختلفة، وسد الطرق أمام الاحتلال من أن يلعب علي التناقضات فيفسد حركة الوفد باستقطاب معارضين له يرون أن الوفد غير ممثل للأمة المصرية، خاصة بعدما أبدي الحزب الوطني وبعض الأقباط ملاحظة عدم وجود من يعبر عنهم في الوفد؛ فضم إلي عضويته مصطفي النحاس وحافظ عفيفي وسينوت حنا وواصف غالي وجورج خياط وإسماعيل صدقي وحمد الباسل وحسين واصف وغيرهم. وتحرك الوفد أكثر إلي الأمام عندما لم يجد أي استجابة من المندوب السامي البريطاني بعد مقابلة 13 نوفمبر ولم تلغَ الأحكام العرفية، فطلب سعد زغلول من قائد الجيش الإنجليزي جوازًا له ولأعضاء الوفد للسفر إلي لندن، وعندما استعجل سعد الرد أُخبر أن هناك صعوبات تمنع إجابة طلبه في الوقت الحالي ومتي زالت الصعوبات فسوف تمنح له الجوازات، وعندما كرر سعد طلبه إلي المندوب السامي البريطاني، جاء برفض التوسط لدي السلطات العسكرية لمنح جواز السفر وأن يقدم مقترحاته بخصوص نظام الحكم في مصر للمندوب السامي وأن تكون المقترحات في الإطار الذي رسمته الحكومة البريطانية لمصر. كان رفض رجال الاحتلال في مصر لسفر الوفد المصري إلي لندن للقاء المسئولين البريطانيين قبل عقد مؤتمر الصلح بباريس محبطًا لآمال المصريين، إلا أنه كان دافعًا لمزيد من العمل؛ فخاطب الوفد رئيس الحكومة رشدي باشا للتوسط لدي السلطات البريطانية،كما أرسل لمعتمدي الدول الأجنبية في مصر يحيطهم بالموقف كاملا منذ تأسيس الوفد، وأرسل للرئيس الأمريكي تلغرافًا في 3 ديسمبر وآخر عندما وصل لندن في 26 ديسمبر 1918 يطلب منه تلبية رغبة الوفد لحضور مؤتمر الصلح للمطالبة باستقلال مصر، وتلغرافًا ثالثا في 3 يناير 1919يؤكد علي منع السلطات البريطانية للوفد من الذهاب لأوربا لعرض القضية المصرية. ورغم كل تلك المراسلات فلم تتم الاستجابة لطلب السفر،وأصبح انطلاق مؤتمر الصلح - 18 يناير 1919- علي الأبواب؛ لذا ففي اجتماع الوفد في 13 يناير 1919مع ممثلين عن الأمة المصرية في دار حمد الباسل خطب سعد في الحضور، وفي ختام الخطبة قرر الجميع إرسال تلغراف إلي الرئيس الأمريكي يعرضون عليه قضية مصر، ولم تجد مصر لدي الرئيس الأمريكي آذانا صاغية،وأرسل أيضا في نفس اليوم إلي سفير إيطاليابباريس وأحد أعضاء مؤتمر الصلح طالبا عرض القضية علي المؤتمر. ولم يجد الوفد معينًا له إلا الشعب المصري الذي بدأ يُظْهِر غضبه ورفضه لتعنت البريطانيين مع رجال الوفد ورفض سفرهم، وقدمت حكومة رشدي باشا استقالتها - لم تقبل الاستقالة إلا في الأول من مارس 1919 - فلم توافق أيضًا السلطات العسكرية البريطانية علي سفر رئيسها لعرض قضية مصر والتفاوض بشأنها، كما رفضت عقد اجتماعات ببيت الأمة - بيت سعد زغلول- واحتج علي ذلك سعد زغلول لدي رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج والرئيس الأمريكي ويلسن. وسار سعد زغلول في طريق الجهاد الوطني؛ فأرسل إلي رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو يطالبه بضرورة عرض قضية مصر علي مؤتمر الصلح. أعاد سعد زغلول الكَرَّة مرة أخري بمخاطبة معتمدي الدول الأجنبية في مصر والسلطان فؤاد ليضعهم أمام مسئولياتهم التاريخية لتأييد قضية مصر وحقها في تقرير مصيرها بعد كل ما قدمته في الحرب وبما بذلته من دماء وبما تملكه من تاريخ يؤهلها لأن يرحل المحتل عن أراضيها. كانت خطابات سعد إلي كل المسئولين تستخدم العبارات الدقيقة التي تستند علي ما أعلنه الرئيس الأمريكي في مبادئه الأربعة عشر فيما يتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وما يمثله كنموذج للديمقراطية الأمريكية، وما تردده الحكومة البريطانية عن مبادئ الحق والعدل والإنصاف، وما تعلنه الحكومات الأوروبية متماشيًا مع هذه اللغة الخادعة والمدغدغة لعواطف ومشاعر الشعوب المحتلة، وكان سعد في خطاباته حريصًا علي فضح السياسة البريطانية في مصر، وكاشفًا لسوء نيتها متحديًا لها، بأن ما تعلنه علي الملأ يتناقض مع ما تمارسه في الواقع. ورغم أن ما كان يقوم به الوفد وزعيمه لا يتعدي تسطيرَ الخطابات والتلغرافات وقليلاً من الخطابة - إذا سمحت بذلك السلطات العسكرية البريطانية التي مازالت تفرض الأحكام العرفية علي مصر - إلا أن ذلك بدأ يزيد من قلق رجال بريطانيا فسمحت لقائد القوات البريطانية في مصر بتوجيه إنذار للوفد وزعيمه يوم 6 مارس 1919 يحذرهم فيه من عرقلة الإدارة بمصر، وإلا طبقت عليهم الأحكام العرفية بكل شدة، ولم يرض سعد بهذه اللغة المتشددة تجاه الوفد؛ فأرسل تلغرافًا إلي رئيس الوزراء البريطاني يخبره بما تم، وأن الوفد قد أخذ علي عاتقه طلب الاستقلال التام مهما كلفه ذلك، وأن هذا الإنذار يجر سخط العالم المتمدين، وأن حل الأزمة في السماح للوفد بالسفر لعرض قضية مصر. انفجار الثورة لم يأت عصر السبت 8 مارس حتي ألقت السلطات البريطانية القبض علي سعد زغلول وحمد الباسل باشا ومحمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا، وفي 9 مارس نُقِلوا بالقطار إلي بورسعيد ومنها تم نفيهم إلي مالطة. واجتمع باقي أعضاء الوفد برئاسة علي شعراوي وأرسلوا احتجاجًا للسلطان فؤاد، وإلي رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج وإلي معتمدي الدول الأجنبية في مصر، طالبين الإفراج عن سعد وصحبه وأنهم مستمرون في الدفاع عن قضية مصر. وهب الشعب يعلن رفضه لاعتقال سعد، واستقبل السلطان عشرات المئات من التلغرافات التي تعترض وتستنكر أن يتم القبض علي سعد زغلول وعدد من أعضاء الوفد ويلاحظ أن هذه التلغرافات اشترك في إرسالها جميع طوائف الشعب من العامة والطلاب وأصحاب الحرف والقضاة والمعلمين والمحامين، ومنهم من هم من موظفي الحكومة المصرية ومنهم الباشاوات والبكوات والذين يرتبط معظمهم بمصالح مع السلطان أو رجال السلطة البريطانية، إلا أنه عندما نادي منادي الوطنية ومصلحة الوطن تجرد الجميع من كل شئ إلا من نداء الوطن وقضية استقلاله، ولا شك أنه خامر رجال الاحتلال شعور بأن استخدام سياسة العصا الغليظة بالقبض علي سعد وصحبه وهم أصحاب المكانة الاجتماعية والسياسية الرفيعة سيخمد الحراك الوطني المصري في مهده؛ إلا أن ما تلا عملية القبض والنفي من انتفاض الشعب المصري بكل طوائفه، خيب ظن الإنجليز وأسقط في يدهم، وأوقعهم في ورطة كادت أن تنهي الوجود البريطاني كاملا في مصر . كان اعتقال سعد وزملائه الشرارة التي أوقدت نار الثورة في البلاد، فانطلقت مظاهرات الطلبة يوم الأحد 9 مارس يهتفون بسقوط الحماية البريطانية، ويهتفون بحياة مصر وسعد والوفد، وقد كانت طليعة المظاهرات من مدرسة الحقوق، الذين أضربوا عن الدراسة ورفضوا نصائح الإنجليز بفض الإضراب والبعد عن السياسة، وانطلقوا إلي مدرستي المهندسخانة والزراعة ثم إلي مدرستي الطب والتجارة العليا؛ وسار هؤلاء جميعًا في شارع المبتديان نحو ميدان السيدة زينب، وقبل الوصول إليه أدركتهم قوة من البوليس وألقت القبض علي حوالي 300 طالب، وحاولت تفريق الآخرين وإعادتهم لبيوتهم فرفضوا، وانضم إليهم طلاب مدارس القضاء الشرعي ودار العلوم والتجارة المتوسطة والإلهامية الثانوية وطلاب المدارس التي كانوا يمرون بها، ووصل المتظاهرون ميدان باب الخلق- ميدان أحمد ماهر حاليًا - وبعد جهد كبير من قوات البوليس تم تفريق المتظاهرين، واتفق الطلاب علي العودة للتظاهر مرة أخري خاصة وأن طلاب الأزهر والمدارس الأخري لم تكن علي علم بالمظاهرة. كان واضحًا أن الحراك السياسي الذي قام به سعد وصحبه منذ نوفمبر 1918 قد آتي أولي ثماره، فكان سعد من الوعي السياسي والإعلامي بمكانة جعلت الشعب بكل طوائفه علي علم بكل تحركاته واجتماعاته، فكان ينشر البرقيات التي يرسلها للمسئولين الأجانب، كما كانت خطبه تصل للمصريين إما عن طريق الصحف أو تطبع وتوزع، ولعل أهم ما أحدث وعيًا كبيرًا والتصاقًا بين سعد والشعب حركة التوكيلات التي قامت في البلاد -ولا نتجاوز الحقيقة إن قلنا إنها من ميراث المصريين؛حيث استلهم روحها مجموعة من الشباب عام 2013 فيما عرف باسم حركة تمرد ضد سياسة جماعة الإخوان عندما تولوا حكم مصر. كان يوم 10 مارس يومًا مشهودًا في مصر، فقد أضرب طلاب المدارس والأزهر وقاموا بمظاهرة كبيرة انضم إليها أفراد الشعب، جابوا شوارع المحروسة وميادينها؛ حيث اخترقوا الشوارع التي بها دار المعتمدين الأجانب في مصر مطالبين بسقوط الحماية ويهتفون بحياة مصر والوفد وسعد، وقد قابل الإنجليز هذه المظاهرات - رغم أنها سلمية - بإطلاق النار؛ فأصيب بعض المتظاهرين، واستشهد في سبيل الوطن اثنان، وقد لوحظ أن الإضراب والمظاهرات لم يأتيا بترتيب، واستمرت المظاهرات والإضراب في الأيام التالية، وأضرب سائقو الترام والسيارات الأجرة، وأغلقت المحلات والشركات المالية، ولم تجد السلطة العسكرية البريطانية - مع انتشار المظاهرات وكثرتها - إلا أن تصدر أمرًا بمنع التظاهر وتنذر من يقوم بذلك بمحاكمته عسكريًّا مستغلة بذلك الأحكام العرفية التي فرضت علي البلاد منذ نشوب الحرب العظمي، ولبث الرعب في قلوب المصريين؛فطافت المركبات العسكرية البريطانية الشوارع والميادين تحمل الجند المسلحين والمدافع الرشاشة، وأطلقوا النار علي المظاهرات، وزاد عدد شهداء ثورة 1919 وزاد مصابوها في هذا اليوم وهم من شباب الوطن الطلاب بالجامعات والمدارس الثانوية، واستمرت المظاهرات والإضراب عن العمل الذي شارك فيه المحامون في 11 مارس وإثبات ذلك في كل محكمة، ووافقهم القضاة علي موقفهم وتأجلت القضايا، وقد حاولت السلطات العسكرية البريطانية مع وزارة الحقانية إجهاضه إلا أن ذلك فشل بسبب تمسك المحامين والقضاة، كما أضرب المحامون الشرعيون يوم 15 مارس، وأضرب عمال السكة الحديد البالغ عددهم حوالي 4000 عامل وقاموا بتعطيل خطوط السكك الحديدية تجاه وجه قبلي فتعطلت الحركة تجاه الصعيد وباقي الجهات، واستخدم المصريون النيل في التنقل، وقطعت خطوط اتصالات التليفون والتلغراف، والبريد، ورغم تهديدات وإنذارات قائد القوات البريطانية بالويل والثبور وعظائم الأمور علي تلك الأفعال وإرساله الإنذارات تلو الإنذارات للمديرين والمحافظين وطبعها وتوزيعها علي المارة، وتحميل القري التي تمر بها خطوط السكك الحديدية تكاليف إتلافها، بل وهدد بإحراق القري القريبة من أماكن إتلاف السكك الحديدية، وجمع أعيان البلاد وأنذرهم بذلك؛ فإن المصريين استمروا في ثورتهم والتعبير عن غضبهم، واضطرت السلطات البريطانية إلي تسيير دوريات لحماية السكك الحديدية، كما استخدمت الطائرات أيضًا، وفرض منع التجوال ليلا حيث تقع حوادث قطع السكك الحديدية، وأنشئت المحاكم العسكرية لمحاكمة المتظاهرين. لم تنقطع المظاهرات منذ نشوبها في 9 مارس، وزادها توهجًا أن قامت المرأة المصرية بالتظاهر في 16 مارس 1919؛ فوصل عدد المشاركات منهن حوالي 300 من السيدات والآنسات، وأعددن منشورًا لتسليمه لمعتمدي الدول الأجنبية في مصر يطالبن فيه بالحرية لمصر، ويحتججن علي الأعمال الوحشية التي ارتكبتها قوات الاحتلال، وطافت المظاهرة الشوارع، وكان يقود هذه المظاهرة زوجات أعضاء الوفد ورموز مصر الوطنية وكثير من كريمات مصر، وقد ألف فيهن حافظ إبراهيم أبياتًا من الشعر. وقاطع المصريون عربات الترام التي كان يحرسها الإنجليز ولجأوا للعربات الكارو،حيث استخدمها مع الفقراء أبناء الطبقة المتوسطة، ومنعت السلطات البريطانية السفر بالسكة الحديد دون تصريح، ومنعت نقل البضائع، وسيرت عددًا قليلاً جدًّا من القطارات، ونقل البريد والتلغراف عن طريق الطائرات والبواخر النيلية وعن طريق الإبل، وصارت البضائع تنقل بالدواب وعربات الكارو. امتدت الثورة إلي أقاليم مصر المختلفة، فكان لتطور ما يحدث يوميًا داخل القاهرة أثره علي أقاليم مصر؛ فسرعان ما قامت المظاهرات والإضرابات في الإسكندرية والمنصورة وطنطا وشبين الكوم وبنها ودمنهور وغيرها، وصارت البلاد جميعها في حالة الثورة، وكان الملاحظ أن كل ذلك دون وجود هيئة تنظم أو توجه أو تصدر تعليماتها للمتظاهرين؛ فكان ذلك من خصائص تلك الثورة، ولأهمية مكانة مصر لدي الإمبراطورية البريطانية وحرصًا علي سمعته كقائد للقوات البريطانية في مصر قام الجنرال واتسن بإرسال قواته إلي أنحاء البلاد المختلفة بالسكك الحديدية والطرق البرية وعن طريق النيل والطائرات الحربية لمحاولة إجهاض الثورة. وكلما زادت السلطات البريطانية شدة في قمع الثورة كان المصريون يزدادون إصرارًا علي المضي قدما في طريق الثورة، وتعددت مراكز الثورة بالقاهرة، وكان الأزهر أحد أهم هذه المراكز؛ فقد كان الطلاب الأزهريون أكثر جرأة وحماسة وتضحية في بث روح الثورة والإضراب في نفوس المصريين، وهو ما دعا وزارة الداخلية لأن تلجأ للأزهر في بداية الثورة وتطلب منه منح الطلاب إجازة دراسية؛فاصبح الجامع الأزهر مقرًّا لالتقاء الثوار، ومنه كانت تخرج المظاهرات وهو ما دفع السلطات البريطانية لأن تجعل قواتها ترابط أمامه بالسلاح والمدافع الرشاشة، وحتي تمنع تجمع المتظاهرين بالأزهر وضعت السلطات العسكرية قوات في الطرق المؤدية إليه، وسلك المصريون طرقًا غير مألوفة منها أسطح المنازل وهدموا جدارا لمنزل مجاور للأزهرحتي يتمكنوا من الوصول إلي الجامع الأزهر. تحول الأزهر إلي مكانٍ لإثارة المشاعر وتثبيت الأفئدة علي نصرة الثورة لنيل الاستقلال التام، فاعتلي منبر الأزهر خطباء جمعهم حب الوطن والتضحية في سبيله، وكان منهم الشيخ مصطفي القاياتي، والشيخ محمودأبو العيون، والقمص مرقص سرجيوس، والقمص بولس غبريال،ومحمد أبو شادي بك، ويوسف الجندي، والدكتور محجوب ثابت،ومحمد كامل حسين وغيرهم الكثير... ودعا الأزهر المصريين عامة للاستماع إلي الخطب التي تلقي من علي منبره. وإلي جانب الأزهر عرف المصريون أماكن أخري للاجتماع للتشاور في شأن الثورة، منها بيت الأمة، وقهوة ريش، وقهوة الجندي، وقهوة السلام، ودار عبدالرحمن فهمي، ودار الشيخ مصطفي القاياتي، ودار أمين الرافعي... وغيرها؛ وقد اعتدي البريطانيون علي تلك الأماكن وقاموا بتفتيشها أكثر من مرة. كانت المظاهرات تتوالي، ولعل أهمها مظاهرة 17 مارس التي طافت شوارع القاهرة لمدة ثماني ساعات، وذكرت بعض المصادر أن تعداد من شارك فيها من العلماء ورموز مصر والطلاب ومن جميع الطبقات نحو خمسين ألفًا من المتظاهرين ينادون بالحرية والاستقلال لمصر، ورغم أن السلطات البريطانية كانت قد سمحت لهذه المظاهرة فإنها عادت ومنعت التظاهر مرة أخري بل ووضعت القوات العسكرية والمدافع الرشاشة في الميادين العامة، ورغم ذلك لم يتراجع المصريون عن التظاهر للإفراج عن سعد وصحبه والمناداة بالحرية والاستقلال لمصر، بل وخرجت السيدات مرة أخري للتظاهر في 20 مارس 1919 . وقد اعتمد المصريون علي أنفسهم في تأمين ثورتهم فكلفوا أفرادًا بحفظ النظام أثناء المظاهرات أو في الاجتماعات أثناء سماع الخطب، وكانوا يضعون علي ذراعهم الأيسر شريطًا من القماش الأحمر مكتوبًا عليه »بوليس وطني» وكان من ضمن مهامها منع اندساس أفراد يقومون بالتخريب أو الاعتداء علي المباني والممتلكات، وكان هناك أفراد مسئولون عن توفير المياه للمتظاهرين أثناء المسيرات، وكان يرأس هذه الجماعة الشيخ مصطفي القاياتي، ومثل ذلك ما حدث أيام ثورة 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، وقد حظرت السلطات البريطانية هذه الفرقة وأمرت بالقبض علي أفرادها. أللنبي: المندوب السامي الجديد والبحث عن حل رغم انشغال بريطانيا بتسويات ما بعد الحرب العالمية الأولي، والتي كانت تدور في قصر فرساي بباريس، فإن الحكومة البريطانية قد عهدت إلي قواتها في مصر أمر إنهاء الثورة فيها، واستخدام العصا الغليظة في ذلك، وعندما فشل السير ونجت المندوب السامي البريطاني في تطويع ساسة مصر المطالبين بالسفر إلي أوروبا لعرض قضية مصر استدعته إلي لندن، وتريثت قليلا قبل أن ترسل من يحل محله، واستمرار الشعب المصري في حراكه وإصراره علي التغيير من واقع العلاقة بين مصر وبريطانيا في ظل الحماية البريطانية، ولم يستطع العمل العسكري ضد الثورة أن يحقق نجاحات بقدر ما زاد من المصاعب ومن تمسك الشعب المصري بمطالبه أكثر؛الأمر الذي أدي إلي الإفراج عن سعد وصحبه، وإلغاء الحماية البريطانية، واستقلال مصر، وبدا من تقارير الجنرال واتسن قائد القوات البريطانية في مصر أن الرهان علي العمل العسكري وحده لقمع الثورة لن يكون مجديا؛ لذا قررت الحكومة البريطانية في 21 مارس، إرسال مندوب سامٍ جديد يجمع في يديه السلطتين العسكرية والسياسية، عله ينقذ ما يمكن إنقاذه من هيبة بريطانيا في مصر، وأن تظل تحت التاج البريطاني، وكان هذا الرجل هو الجنرال أللنبي الذي كان علي علم تام بأحوال مصر والمصريين. وما إن استقر المقام بأللنبي في مصر حتي أوضح أن هدفه هو استعادة الأمن ثم بحث أسباب شكاوي المصريين ثم إزالة أسباب هذه الشكاوي، وكأنه لم يكن يدرك أن بلاده والحماية التي فرضتها علي مصر واحتلالها هي سبب ثورة المصريين، لقد بدا أنما استقر في وجدان هذه الشخصية العسكرية أن سكوت المصريين خلال فترات طويلة بعد عام 1882 كان رضًا بالاحتلال البريطاني للبلاد، إلا أن ذلك لم يكن رضًا بقدر ما كان محاولة لإعادة لملمة الشخصية المصرية ومداواة جراحها بعد هزيمة الثورة العرابية ووقوع البلاد تحت الاحتلال، الذي استخدم كل الوسائل لإضعاف روح المصريين ومحاولة إخضاعها بكل الأساليب العسكرية والسياسية والاقتصادية، وعندما بدأت الروح تشفي انطلقت للمطالبة بخروج قوي الاحتلال من أرض مصر الطاهرة بعد أن دنستها لسنوات. أدرك رجال الوفد ورموز الأمة أن المندوب السامي الجديد قد يستخدم الحراك الثوري ذريعة ليظهر قوته ويستخدم أقسي ما يكون من القوة العسكرية ليعبر عن سياسته في معالجة الأوضاع داخل مصر وهو ما سوف تزهق فيه الأرواح وتسيل فيه الدماء وتنهب فيه الممتلكات، وأن تهدئة الأوضاع في مصر قد تجعله يبذل جهودًا مع حكومته للعمل علي تحقيق رغبة المصريين في إيجاد علاقة بين مصر وبريطانيا تنتهي من خلالها الحماية وتحصل مصر علي استقلالها؛ لذا وجه أولئك بيانًا إلي الأمة في 24 مارس يدعون أبناءها للهدوء والسكينة حتي لا يقع ضرر للبلاد، وقد وَقَّع علي هذا البيان شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي، ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت، والبابا كيرلس الرابع، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية، ورئيس المحكمة الشرعية، ونقيب الأشراف، ورؤساء ووزراء سابقون، وأعضاء من الوفد، وغيرهم من الرموز الوطنية. وكان من سوء الطالع لهذا البيان أنه صدر في وقت ألقي فيه اللورد كيرزون عضو مجلس اللوردات البريطاني بيانًا اتهم فيه الثورة بالسلب والنهب، وأثني علي موظفي الحكومة المصرية ورجال البوليس والجيش المصري والقوات العسكرية البريطانية في تعاملها مع أحداث الثورة، وأن هناك من رموز المصريين من لم يشترك فيها، ويؤيد السياسة البريطانية في مصر، ورحب برجال حكومة رشدي باشا في بريطانيا، وهاجم سعد زغلول وصحبه واتهمهم بأنهم من »دبروا هذه الاضطرابات» وأنه لا سبيل للمناقشة معهم، وأن ذلك سيكون مع من »يمثل البلاد ويحمل التبعة» ، يقصد الحكومة والسلطان. لم يكن ينتظر من اللورد كيرزون غير ذلك فهو أحد صقور الاستعمار وكانت أعماله في الهند والخليج العربي واضحة في تثبيت الاستعمار البريطاني في هذه المناطق، مستخدما سياسته الغاشمة، كما بدا من هذه الخطبة طبيعة السياسة البريطانية التي طلب من أللنبي تطبيقها في مصر، إلا أن الشعب المصري كان له رأي آخر، فقد أضاعت هذه الخطبة أثر نداء التهدئة الذي أطلقه زعماء الأمة. جاء الحراك أولاً من موظفي الحكومة المصرية فكان ثناء كيرزون عليهم بمثابة اتهامهم بالخيانة للثورة فرغم أن منهم من لم يشارك فيها فإن تعاطفهم وإعجابهم بشجاعة الثوار وتضحياتهم ومساعدتهم كان دليلا علي عدم خيانتهم؛لذا دعا كثير من الموظفين للإضراب مشاركة للأمة في ثورتها، وسرعان ما رفعوا في 1 أبريل عرائض وتلغرافات احتجاج للسلطان فؤاد ولمعتمدي الدول الأجنبية في مصر علي اعتقال سعد زغلول وصحبه، وعلي خطبة اللورد كيرزون، كما أعلنوا عزمهم علي الإضراب ثلاثة أيام تضامنًا مع جهاد الأمة المصرية، وبدأ الإضراب في 2 أبريل وخلت جميع المصالح الحكومية في يوم الخميس 3 أبريل من جميع الموظفين،الذين انطلقوا في الشوارع متظاهرين حتي وصلوا إلي ميدان عابدين وأطلقت القوات العسكرية النار فأصابت 56 جريحا واستشهد تسعة في القاهرة، واستمر التظاهر في شوارع القاهرة حتي الخامسة مساء، وكان مقررًا أن ينتهي الإضراب يوم السبت 5 أبريل إلا أنهم رأوا استمراره حتي يتم إطلاق سراح المعتقلين، واتخذ الموظفون من مسجد أحمد بن طولون مكانًا للتشاور والاجتماع؛ واضطربت أحوال المصالح الحكومية، وجدير بالذكر أن إضراب الموظفين اقتصر علي المصالح الحكومية والمحال الأهلية ماعدا المخابز في القاهرة وقليل من موظفي الأقاليم وصلهم أمر الاضراب فأضربوا. وزاد الحراك من داخل الجامع الأزهر أيضًا لذا طلب البريطانيون في 2 أبريل من شيخ الأزهر الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي غلق أبواب الأزهر؛ فرفض محتجًا بأنه مسجد تقام فيه الشعائر الدينية وليس له أن يوصد أبوابه في وجوه المصلين، ولما طلبوا منه أن يُفتح فقط في أوقات الصلوات رفض أيضًا وظل الأزهر مفتوحًا، وضيق البريطانيون علي مرتاديه، ويبدو أن ذلك ما جعل الموظفين يختارون مسجد أحمد بن طولون مكانًا لاجتماعاتهم. كان الأزهر هو المقر الرئيس لاجتماعات الثوار فضيق البريطانيون عليهم وأغلقوا الطرق إلي الأزهر، فقرر الثوار عقد اجتماعهم في 5 أبريل بمسجد أحمد بن طولون بعد أن حفروا حوله الخنادق وأقاموا المتاريس حتي لا يقتحمه البريطانيون الذين هاجموا المسجد وأطلقوا النار علي المتحصنين به، وكانت القوات تسرف في القتل ولأهون الأسباب، وحوادث القتل لم تستثن إقليما من أقاليم مصر، وإن دل ذلك فإنه يدل علي الفزع والرعب من نجاح الثورة فاتخذوا من القتل وسيلة لردع الشعب عن الثورة، إلا أن ذلك لم يردع المصريين بل زادهم إصرارا علي الاستمرار في الثورة. استخدام السياسة لمواجهة الثورة: إن دخول طوائف جديدة من الشعب المصري علي خط الثورة زاد من ارتباك رجال الاحتلال البريطاني في مصر ورؤسائهم في لندن ورأوا حتي لا تتفاقم الأمور، أن يتم إطلاق سراح سعد زغلول وصحبه والسماح لهم بالسفر إلي باريس، تهدئة للخواطر فتم الإفراج عن سعد زغلول في 7 إبريل، وسافر باقي أعضاء الوفد إليه حيث التقوا في مالطة في 11 أبريل وسافروا جميعا إلي باريس، وقد عد ذلك نصرا للشعب المصري الذي دفع ثمنا غاليا من دماء أبنائه في سبيل حرية الوطن، وقامت المظاهرات احتفالا بذلك وتكررت المظاهرات في الأيام التالية. ولمزيد من التهدئة، كلف رشدي باشا بتشكيل حكومته الرابعة، لكن ذلك لم يخمد نيران الثورة في بر المحروسة، فلم يكن ذلك فقط ليرضي الشعب المصري، فالمصريون كانوا يرون أنهم لم يحققوا شيئا بعد، فمازالت الاعتقالات تتم ومازالت المحاكمات العسكرية توقع عقوباتها القاسية ومازالت اعتداءات جنود بريطانيا علي المصريين قائمة، وأخذ الموظفون المبادرة فشكلوا لجنة منهم بلغ عددها 57 عضوا وقررت إضراب جميع الموظفين عن العمل ابتداء من يوم 12 أبريل حتي تعترف الحكومة بأن الوفد هو ممثل مصر الرسمي وألا تعترف الحكومة الجديدة بالحماية وإلغاء الأحكام العرفية وسحب الجنود البريطانيين من الشوارع والقري، ولم يصل رشدي باشا رئيس الحكومة إلي اتفاق معهم، وحاول إعادتهم للعمل حرصا علي مصالح البلاد ويطالبهم بألا يعرضوها للخطر، ولم يقبل الموظفون بذلك وأرسلوا بيانا بمطالبهم إلي السلطان وإلي معتمدي الدول الأجنبية في مصر، ودعوا إلي مؤتمر عام في الأزهر في 16 أبريل حيث اجتمع مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت ومجموعة من رجالات الأزهر وبعض الرموز المصرية وحضر مندوبون عن البابا كيرلس الرابع وأعضاء من الهيئات النيابية ومحامون وأطباء ومهندسون وتجار وعمال وصل عددهم ما لايقل عن خمسة وعشرين ألفا، أعلنوا تأييد الموظفين في إضرابهم وأن الوفد برئاسة سعد زغلول يمثل الأمة تمثيلا حقيقيا وأبلغوا ذلك لمعتمدي الدول الأجنبية وللسلطان فؤاد ووقع مجموعة من الحضور علي هذا المحضر، وتضامن العمال مع الموظفين فقدم رشدي باشا استقالة حكومته في 21 أبريل بسبب ازدياد الإضراب وانتشاره. وظل الطلاب في حالة إضراب عن الدراسة ورفضوا دعوة المندوب السامي البريطاني للعودة للدراسة في موعد حدده بتاريخ 7 مايو حتي لا تتخذ ضدهم إجراءات عقابية، وتظاهر الطلاب ضد قرارات أللنبي فقرر إغلاق المدارس حتي بداية العام الدراسي الجديد، فاستأنف الطلاب المظاهرات التي قابلها البريطانيون بمزيد من القوة، كما هاجموا المقاهي وأماكن تجمع المصريين وألقوا القبض علي المزيد منهم. ومنذ منتصف مايو 1919 لم تعد حوادث الثورة كما كانت في مارس وأبريل ورغم أن الاعتراضات كانت قائمة ومطالب الثورة مازالت مشتعلة في النفوس وكانت المظاهرات تقل رويدا رويدا وتشتد حينما يكون هناك داع لذلك؛ مثل تأليف وزارة محمد سعيد في 21 مايو وكان المصريون في الداخل يعولون كثيرا علي جهود سعد وصحبه في باريس إلا أن تآمر الدول الكبري علي مصر ومجاملتها لبريطانيا جعلتها تعترف بالحماية البريطانية علي مصر وهو ما أصاب المصريين بمزيد من الإحباط. لجنة ملنر: روح الثورة تهب من جديد في ظل الانتصار الذي حققته بريطانيا في مؤتمر الصلح، وحرصا علي ألا تفقد مصر ويتجدد فيها التظاهر والثورة، قررت إرسال لجنة للوقوف علي أسباب ثورة المصريين، كان هدفها الخفي رسم سياسة طويلة الأجل للوجود البريطاني في مصر بترضية المصريين ببعض الإصلاحات الشكلية واجتذاب عناصر مصرية جديدة مؤيدة لسياسة بريطانيا، وكان تمسك بريطانيا بالحماية سببا كافيا لرفض المصريين لهذه اللجنة، ومقاطعتها إن وصلت مصر؛ لذا تأجل وصول اللجنة من خريف 1919 إلي أوائل ديسمبر 1919، وقد أعلن عن اللجنة رسميا في 22 سبتمبر 1919 برئاسة اللورد الفريد ملنر وزير المستعمرات، وعدد من السياسيين والخبراء البريطانيين، وعندها تواصلت المظاهرات احتجاجا علي تشكيل اللجنة، في القاهرةوالإسكندرية طوال سبتمبر وأكتوبر واضطر مجلس الوزراء إلي إصدار قرار بمنع المظاهرات في 5 نوفمبر ورغم ذلك استمرت المظاهرات، ومع قرب وصول اللجنة إلي مصر، استقالت وزارة محمد سعيد في 19 نوفمبر، وألف بعدها الوزارة يوسف وهبة، واحتج الأقباط علي قبوله الوزارة باعتباره قبطيا حيث اجتمع ألفان من الأقباط في الكنيسة المرقسية الكبري وأرسلت إليه برقية تحتج فيه بشدة لقبول منصب رئيس الوزراء، ولكنه لم ينزل علي رغبتهم وألف الوزارة في نفس اليوم في 21 نوفمبر. أعاد وصول لجنة ملنر إلي مصر في 7 ديسمبر روح الثورة والمظاهرات والإضرابات إلي المصريين مرة أخري وعاد الأزهر ليكون معقلا للثورة من جديد فقامت منه مظاهرة يوم 11 ديسمبر من طلاب الأزهر وانضم إليها مواطنون متجهون إلي مقرات معتمدي الدول الأجنبية فهاجمهم الجنود البريطانيون وطاردوهم حتي الجامع الأزهر فتحصن به المتظاهرون فاقتحمه الجنود بنعالهم وأسلحتهم واعتدوا علي من وجدوه به ودخلوا مكاتب الإدارة، فهاج من بالأزهر فخرج الجنود، واجتمع شيخ الأزهر بكبار العلماء ووقعوا احتجاجا شديدا بعثوا به للسلطان فؤاد ورئيس الوزراء واللورد اللنبي وجاء رده سريعا معتذرا عما حدث معلنا التحقيق فيه وأن الجنود لم يقصدوا انتهاك حرمة الأزهر. وأضرب المحامون وعاد الطلاب للتظاهر وترك مقاعد الدراسة، وفي 12 ديسمبر اجتمعت بعض نساء مصر مسلمات وقبطيات بالكنيسة المرقسية - في حدث جليل وفريد يظهر طبيعة تكوين المجتمع المصري- للاحتجاج علي قدوم اللجنة وفي 15 ديسمبر أعلن الموظفون الإضراب ليوم واحد يوم 17 ديسمبر احتجاجا علي قدوم اللجنة، وكثرت الاعتقالات وعادت ذكريات مظاهرات مارس وأبريل مرة أخري. وجدت لجنة ملنر أن المقاطعة المصرية لها أصبحت محكمة فأصدرت بيانا في 29 ديسمبر حاولت فيه إثناء المصريين عن المقاطعة،موضحة أن هدفها الوقوف علي رأي المصريين دون أي تنازل عن رأيهم ومعتقداتهم، ورفض الوفد والحزب الوطني بيان اللجنة، كما أعلن أمراء من أسرة محمد علي تأييدهم لمطالب الشعب المصري بالاستقلال ورغم ذلك لم تيأس لجنة ملنر واستمرت في عملها بمصر نحو ثلاثة أشهر حيث غادرتها في 6 مارس 1920 واستمرت في عملها حتي وضعت تقريرها في 2 ديسمبر 1920، وهو ما أفضي في النهاية إلي مجموعة من النتائج كان أهمها: أن أعلنت الحكومة البريطانية أن الحماية علي مصر علاقة غير مرضية ودعت مصر للدخول في مفاوضات رسمية، للوصول إلي علاقة بين الطرفين تضمن المصالح البريطانية وتلبي أماني الشعب المصري، وكان ذلك الطريق نحو حصول مصر علي استقلالها المشوب بالحماية في 28 فبراير 1922، وكان ما جاء بتقرير هذه اللجنة هو الأساس الذي بنيت عليه العلاقات المصرية – البريطانية حتي معاهدة 1936. إن ثورة 1919 كانت حدثا فريدا قدم فيه المصريون التضحيات والدماء الزكية التي اختصروا بها سنوات كثيرة من احتلال بريطاني بغيض، كان يمكن أن يظل جاثما علي صدور المصريين لعشرات السنين، ويكفي أن نعرف أنه في الفترة من 10 مارس وحتي 15 مايو قدم المصريون ألفا من الشهداء وعشرات المئات من الجرحي، هذا بخلاف من صدرت بحقهم أحكام بالإعدام، بلغ عددهم 49 مصريا في يوليو، ومع نهاية عام 1919 وصل عدد شهداء الثورة ما لا يقل عن ثلاثة آلاف شهيد. لقد كانت ثورة 1919 ثورة سلمية قام بها مصريون غير مسلحين،ضد امبراطورية مترامية الأطراف مدججة بأحدث الأسلحة؛ خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولي واستطاع هؤلاء أن يجبروها علي أن تغير سياستها وتحني رأسها أمام صلابة الشعب المصري وإصراره علي نيل استقلاله.