لعب الأراجوز في مصر دورًا بارزًا في الحياة العامة، وظل يحتل لعدة قرون جانبًا كبيرًا من فكر كل عصر، ومع أن العامة اتخذته سبيلًا إلي ملء الفراغ والتسلية، فإن ما كان يُقدم من فقرات عبر شخوصه الهزلية مَثَّلَ أمورًا واقعية في إطار من التهكم والنقد والسخرية. كان الأراجوز أشبه بمرآة يري فيها الناس عيوبهم ونقائضهم وتطلعاتهم ومواقفهم من الأحداث، أي واقعهم المعاش، وما ينبغي أن تكون عليه حياتهم مما ساعد الباحثين في حقل التاريخ ان يمسكوا بالحقيقة التاريخية ..لنجد أنفسنا أمام دمي الأراجوز كجسر للوصول إليها لتعطينا الحقيقة في (كبسولة) كأي دواء ناجع له طعم المر، لكنه يعيننا علي احتمال العيش في الدنيا بالضحك في موضع البكاء، والبكاء في موضع الضحك وإدراك أن الحياة مزيج متشابك منهما معاً. ومعها ندرك أن السخرية التي يقدمها الأراجوز رغم مبالغاتها تعيدنا إلي أرض الواقع وتكشف لنا عن الحجرات الشعبية للتاريخ التي تعطينا صوراً أكثر مصداقية عما حوته الكتابات ذات الصبغة الرسمية إذ كانت شخصية الأراجوز في تاريخه الطويل سلاحاً بين أيدي العامة لا للتعمية وقهر الناس بل لتحريرهم من الخوف والخور والذل والخضوع والنفاق، فلم يعرف كتبة الحكام ولا السلاطين تلك السخرية الصادرة عن الأراجوز باعتبارها نوعاً فنياً يعبر عنهم، بل كانت الجدية العابسة الناطقة باسمهم قائمة علي التهديد والوعيد والتخويف ليلجم الخوف كل الألسنة، فلا يعود مجال إلا أن ينطلق طائر الأراجوز مخترقاً الأسوار والحواجز كي يصل إلي الحاكمين وينبئهم فساد ما صنعوا.مما جعل الأراجوز يتعرض للاضطهاد والحرق علي أيدي سلاطين المماليك بفتاوي تحريمه! ليُسكتوا صوت الأراجوز الذي دائما يتناول بسخرية لاذعة كل ما حوله وكل من حوله , ويندد بسيادة الحاكم الفرد ويستصرخ الشعب أن يبحث عن حل لمشكلته الأبدية؛ مشكلة القهر وتأليه الحاكم والتبعية له وتحريضه عليهم إلي أن كاد يكون مهملا أو مجهولا إلا لدي قلة من الباحثين الذين تنبهوا إليه فأولوه عنايتهم وخصوه بمقالات وكتب مثل عبدالحميد يونس، وعلي الراعي ، وشوقي ضيف وفاروق خورشيد، ويوسف إدريس وعثمان محمد وعلي إبراهيم أبوزيد ، ومختار السويفي، وتحية كامل وفاروق سعد وغيرهم وغيرهم ممن فطنوا إلي أهمية دراسة تراثنا الثقافي الشعبي ودوره في تأصيل هويتنا عبر ألوان الفنون الشعبية المختلفة وكان آخر تلك المحاولات ما قدمه الفنان نبيل بهجت عبر كتابه الوثائقي ( الأراجوز المصري توثيقًا ودراسة) الصادر في القاهرة عن المجلس الأعلي للثقافة بتقديم الشيخ الدكتور أحمد مرسي. في محاولة منه إلي إعادة هذه الفن إلي الحياة مرة أخري لإيمانه بأن الأراجوز هو أحد مصادر تشكيل الوعي، وكذلك ذاكرة مصر الحضارية الحافزة الدافعة الرافعة، رغبة منه لإحياء كل ما يعينها علي البقاء والحياة والشهود . لذلك تجد أن الذي قام به نبيل بهجت في الأراجوز وفي خيال الظل وأهميته الفنية الحضارية والإنسانية عامة يكتسي ثوب الجدة والرصانة والعمق ليصل بنا إلي منابته الأولي ويقف بنا علي تطوراته وعلي مدي ارتباطه بحياة المجتمع العربي والمصري وبعادات هذا المجتمع وتقاليده ومزاياه ، ولا سيما أن فن الأراجوز أحد الفنون الجميلة التي ينتظم في مقوماتها الشعر والنثر والحوار والتمثيل والعمل المسرحي والإخراج والإلقاء والغناء والرقص والموسيقي فضلا عن النقد الاجتماعي والخلقي والديني والسياسي والاقتصادي وغير ذلك . ولما كانت دراسة هذا الفن وتوثيقه علي نحو ما أشرنا من قبل لم يكن بد لبهجت من أن يعرف بادئ بدء بالأراجوز وتاريخه وتسمياته ومراجعه ونشأته وأجاب في الفصل الأول والثاني من كتابه علي العديد من الأسئلة التي يتردد صداها بيننا ..هل الأراجوز من أشكال الفنون الشعبية ؟ هل هو وسيلة تعبيرية قادرة علي استيعاب المعاني والأفكار وإيصالها للجمهور شأن أية وسيلة فنية أخري ؟ هل تتوجه إلي الأطفال ولا تستطيع مخاطبة البالغين ؟ هل تغني دمية الأراجوز عن الممثل البشري ؟ وهل تلتزم بالحركة الطبيعية والشكل الطبيعي للإنسان ؟ وهل فن الأراجوز فن طارئ؟ وهل فن الأراجوز يعد مصدرا من مصادر التاريخ ؟! . في القسم الأول من الكتاب إجابة عن كثير من هذه الأسئلة من خلاله يعرض لنشأة دمي الأراجوز ، ويقدم العرض التاريخي والفني لنشاط الأراجوز قديما وحديثًا ، وأثر بعض الفنون الشعبية علي الأراجوز والروافد الشعبية والغربية لهذا الفن ، كما يعرض للغة الحوار والأغاني وسيميائية الأسماء والتلاعب اللفظي والشخصيات حتي وصل بنا إلي إمكانيات الاخر في عروض الأراجوز ..مما يعد جهدًا أساسي للتفكير فيها فأية دراسة لجماليات العرائس يجب أن تعتمد علي التراث المتراكم لهذا الفن علي مر العصور وفي مختلف بقاع العالم كما يجب أن تعتمد علي حاضر هذا الفن المتطور والذي يتخذ أكثر من سبيل .وفي القسم الثاني من كتابه وعبر ما يقارب ستمائة صفحة سجل فيها خمسين نمرة من نمر الأراجوز المختلفة، والتي جمعها ووثقها ميدانيا من أكثر من لاعب عبر لقاءات مباشرة باللاعبين في أماكنهم الطبيعية لتوثيق ما تختزنه ذاكرتهم وجمع مواده من أفواه القراقوزتية ( لاعب الأراجوز) وكان يدون ويصور ما يسمع ويري ، وكان يرتحل في سبيل الحصول علي ضالته لذلك جاءت المعلومات ميدانية موثقة منسوبة مما يجعل لكتابه قيمة تاريخية وتأريخية