لا أظن أن هناك مثقفاً عربياً، من الخليج إلي المحيط، ينسي سلسلة »المكتبة الخضراء» القصصية، التي ساهمتْ في تنمية شخصيته، وشكَّلتْ قيماً ومبادئ أخلاقية واجتماعية وثقافية في حياته، وهو في طَوْر طفولتِهِ وفُتُوَّتِهِ؟!.. أو ينسي كتابَها الذين غاصوا في بطون تراث الأدب العربي والعالمي، لينسجوا حكاياتٍ هادفةً، لتأديبه وتهذيبه وتعليمه وتربيته، ومنهم كاتبنا الكبير يعقوب الشاروني. فهو آخرُ عُنقودٍ مِنْ كَرْمَةِ الكُتاب في العالم العربي، الذين أسسوا ثقافة الطفل، ورَصُّوا بناءَها رصًّا متيناً، علي قواعدَ علميةٍ وتربويةٍ. ونذكر منهم، كمثال: كامل كيلاني، محمد سعيد العريان، أحمد شوقي، محمد الْهرّاوي، محمد عثمان جلال، عبد التواب يوسف، محمد عطية الإبْراشي، عبد الحميد جودة السحار، علال الفاسي، أحمد عبد السلام البقالي، والقائمة طويلة! وأديبنا القدير يعقوب الشاروني، ليس كاتباً للطفل فقط، كباقي الكتاب، إنما هو مُنظِّر لجنس هذه الكتابة من جهة، وللسلوك التربوي الموجِّه للآباء والأمهات، والمربين والمربيات من جهة ثانية، أي يَقْرِنُ الكتابةَ للطفل بالكتابةِ عنه، وبين العمل النظري والتطبيقي. كما أنّ له دوراً في تنشيط العملية التربوية والأدبية، عبرَ تنظيمه لمؤتمرات وملتقيات ومناظرات، لا تقتصر علي كُتاب مصر فقط، إنما تمتد إلي أدباء آخرين من سائر البلدان العربية. وبالتالي، يؤسس لفكر تربوي قومي عربي، يقاسمه فيه كلُّ المفكرين والباحثين. وكاتبنا يحْظي بمكانةٍ خاصةٍ في أفْئدةِ الصغار والكبار معاً، لِمَا قدَّمَهُ للمكتبة العربية من مؤلَّفاتٍ قصصية وروائية وتربوية. وهذا العمل الجليل، لا تستطيع وزارةٌ بعينها في أية دولة عربية أو غربية أن تنهضَ به، ومن ثمة، يمكننا أن نَعِي المسؤولية الوطنية والإنسانية، التي تحمّلها هذا الكاتب الكبير! وبالتأمل في شخصية الشاروني، سنجد أنها لم تفرِضْ وجودَها الفعلي في عالم الكتابة بمحْضِ الصُّدْفة، أو التكوين اليسير، إنما عن معاناة طويلة، وبجدارةٍ واستحقاقٍ، قلّما تتحققُ اليومَ، للعديد من الكتاب. فهو رَحّالةٌ في عالم السفر والقراءة والتأمُّل والملاحظة والنقد؛ إذ سافر إلي العديد من الدول، ولاحظ ما يُعْتَبَرُ إيجابياً وما يُعَدُّ سلبياً، وحاول أنْ يأخذ من الأول، ويستغني عن الثاني، كي يَسْتَفيدَ قَدْرَ ما يستطيع في إبداعاته ورُؤاهُ التربوية. كما أن قراءاته، كانت متنوعةً، يكمل بعضُها بعضا، فلم يتوقفْ عند قراءاته الأدبية، إنما عَجَنَها بقراءاته الفلسفية والنفسية والتربوية والقانونية، ليُشَكِّل في الأخير، هذه الإبداعاتِ النابضة بالحياة. فالقراءة المتأنيةُ لإصداراته، تُبْدي أبعادَ ثقافته الرصينة وعُمْقَها المَكينَ، سواء في كتابة مقالاته، أو في مسرحياته ورواياته وقصصه .. ويكفيه فخراً ذلك الاعترافُ علي يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، عندما فاز بجائزة التأليف المسرحي، وكان عبد الناصر، حيئذٍ، بطلاً قومياً، تَعْتَدُّ به كافَّةُ الشعوب العربية، وتُقَدِّر مبادراته الثقافية، التي لعبتْ دوراً عظيماً في يقظة تلك الشعوب. فضلاً عن جوائزَ أخري، لا تقل أهميةً عن الأولي، كجائزة الآداب.. وخلال سنواته الأولي، عمل علي تأسيس أندية للسينما والمسرح، ومكتبات للطفل، لأنه يري، كما العديدُ من المفكرين المرموقين، أنَّ لا نهضةَ ولا تنميةَ لأمةٍ، بدون ثقافة وتعليم وتربية. فكل الدول المتقدمة، لم تتطور وترتقِ إلا بتشجيعها للثقافة والمعرفة، حتي التطور التكنولوجي، أصبح مرتبطا بالتطور الثقافي، الذي يشحذ الذهنَ، ويوجِدُ قابليةً لدي الطفل، للانخراط في العملية التنموية، وخير مثال »سنغافورة»! ولا يسعني في آخر هذه الكلمة الاحتفائية بأديبنا يعقوب الشاروني، إلا أنْ أردد مع الشاعر: »أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ» فنحن في حاجة ماسَّة إلي أمثاله، ينقذون أجيالنا من التيه والضياع والذوبان، ويمدونهم بالثقافة والأدب، وما ذلك علي البلاد العربية بعزيز!