عملية تطوير واجهة المبني بالكامل يظل دائما مبني دار الكتب بباب الخلق شاهدا علي تاريخ طويل من إجادة مصر إقامة المشروعات الثقافية الكبري والمؤثرة في بناء الأجيال. وتعد دار الكتب المصرية »الكتبخانة» واحدة من أهم المشروعات التي شيدها الخديوي اسماعيل، حينما أصدر في 23 مارس 1870 أمرا إلي علي باشا مبارك بجمع المخطوطات والكتب.. لتكون هذه الدار علي غرار المكتبة الوطنية في باريس، وتستمر علي مدي عقود طويلة في أداء دورها ومهمتها، وتكون جاذبة ليس فقط للباحثين، بل لمحبي الثقافة والفنون والاطلاع، ولم تغلق أبوابها في وجه أحد علي مدي تاريخها، إلا أن آثار الإرهاب الذي ضرب مديرية أمن القاهرة في يناير 2014، ألحق بها أضرارا كبيرة، إذ طال واحدة من دور أهم دور الكتب والوثائق في العالم.. لكن الرغبة في أن تستعيد دورها ورونقها، لاسيما عرضها المتحفي، الذي يعد الآن واحدا من أهم العروض المتحفية في العالم، لما تضمه من كنوز هامة ومؤثرة ليست فقط لمصر، بل للثقافة الإنسانية، إذ تعرض الدار - في أحدث سيناريو متحفي لها - 6 برديات، 63 مخطوطا، 16 مصحفا، 8 تحف، 5 وثائق، 3 خرائط، 8 عملات ومسكوكات.. ومن النادر أن تجتمع مثل هذه المجموعة في مكان واحد، مثلما تجمعها الآن عراقة دار الكتب في باب الخلق. وفي عرض متحفي يتسلح بأحدث وسائل التكنولوجيا، نطلع علي أبرز مقتنياتها في جولة بصحبة د.عايدة عبدالغني المشرف العام علي دار الكتب بباب الخلق، التي كان لحماسها مع طاقم عملها، دور كبير في أن تستعيد الدار رونقها.. هذه الدار التي رغم الترميمات التي شهدتها، لم تغلق أبوابها في وجه الباحثين، فأثناء جولتنا فوجئنا بأحد الباحثين يطلع علي مخطوط من خلال الميكروفيلم.. فسألت د.عايدة: هل تم فتح الدار؟. أجابت بأنها لم تغلق أبدا أثناء ترميم التلفيات التي أحدثها الإرهاب الغاشم، لاسيما أن لدينا قاعة ميكروفيلم محملا عليها ما يزيد علي 60 ألف مخطوطة، لا يمكن أن نحجبها عن أي طالب لها، إضافة إلي أننا استضفنا، لا سيما في العامين الماضين، العديد من الندوات الثقافية الهامة. بدأت د.عايدة الجولة من الدور الثالث للمتحف، حسب المسار المعرفي المتفق عليه، الذي يضم مجموعة من أندر المخطوطات، وكذلك قسم خاص بالمسكوكات التي صُكت في عصور مختلفة بداية من العصر الأموي حتي عصر محمد علي باشا، ومن أشهر المسكوكات المعروضة دينار ذهبي لعبدالملك بن مروان القرن الأول الهجري »77ه». بعد الانتهاء من الدور الثالث، هبطنا إلي الدور الثاني، حسب المسار المحدد لتفقد العرض المتحفي، وهذا الدور كما تقول د.عايدة مديرة الدار، خاص بالحياة الاجتماعية، به مجموعة من المخطوطات عن حياة المسلمين، توضح تعاملهم مع الخيل بكل أنواعها واستخداماتها »فرس تام»، ومخطوطات في علم الشطرنج، وفي الموسيقي »كتاب الأدوار» لعبدالكريم الشهرودي. كما يوجد بذات الدور قسم خاص بالأدب واللغة، وأشهر المعروضات كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، بستان سعدي الشيرازي، ومخطوطات خاصة بكمال الدين بهرزاد، الشهنامة للفردوسي، يوسف وزليخا، كليلة ودمنة. وفي قسم التاريخ، أشهر المعروض القول المستظرف في سفر مولانا الأشرف قايتباي، تاريخ مدينة السلام، المختصر المحتاج إليه في تاريخ بغداد. كما يضم المتحف مجموعة من الوثائق أشهرها قرار خديوي مصر »توفيق» بنفي أحمد عرابي فضلا عن مجموعة من فرمانات محمد علي باشا باللغة التركية ترجع لعام »1810م». أما الدور الأول في سيناريو العرض المتحفي، فهو يضم مجموعة من المصاحف والتحف تشمل 16 مصحفا، أشهرها وأكبرها حجما، محفظة لأكبر مصحف مصنوعة من الفضة الخالصة، أكبر غلاف لمصحف في العالم، وقد أهداه آخر حكام مدينة بوبالي الهندية، للملك فاروق خلال زيارته لمصر عام 1950، أما أقدم مصحف معروض فهو مصحف كوفي يعود للقرن الثاني الهجري، مكوب علي رق قبل نقاط الإعجام والإعراب، ووضع له النقط بعد ذلك أبوالأسود الدؤلي، كما يوجد مجموعة من المصاحف من بلدان مختلفة »إيران، تركيا، الأندلس»، ومجموعة من المصاحف العثمانية تشتهر بالزخارف والتذهيب. ومن عجائب المعروضات، مجموعة من القطع والتحف النادرة منها قطعة عظم »من كتف جمل» كتب عليها أسماء الشهود المعتمدين لدي القاضي، وكانت تعلق علي باب القاضي ترجع للقرن الرابع الهجري، قطعة خشبية »القرن الأول الهجري» مكتوب عليها من القرآن الكريم سورة النجم والبسملة. كما يوجد في فاترينة العرض ثلاث حباب قمح، الأولي مكتوب عليها بالعبرية مديح لسيدنا عيسي عليه السلام، وعلي الثانية مكتوب سورة الإخلاص باللغة العربية، وسورة قريش والبسملة، أما حبة القمح الثالثة والأخيرة فمكتوب عليها أسماء الذين حكموا مصر من عمرو بن العاص إلي الملك فؤاد. وثمة بيضتان مكتوب علي الأولي مديح باللغة العبرية لسيدنا سليمان، وعلي الثانية باللغة العربية إنجازات الخديوي اسماعيل. ولفتت د.عايدة إلي أنه للتأكد من هذه المواد الصعب رؤيتها بالعين المجردة، يوجد بهذا القسم شاشات عرض علي أعلي تقنية، »التاتش سكرين»، لم توجد من قبل »تقنية 3D». ويوجد بهذا الدور - أيضا - مجموعة مخطوطات خاصة بالعلوم الدينية أشهرها شرح صحيح البخاري للقرطبي، وتحفة فنية لمسجد قبة الصخرة من تركة الأمير كمال الدين حسين »القرن العاشر الهجري» صناعة إيرانية بها نقوش من الداخل والخارج باللغتين العربية والفارسية، أعلاها مصحف شريف مثمن الشكل. ويوجد أيضاً بهذا الدور فترينة خاصة بمدح سيدنا محمد »صلي الله عليه وسلم» معروض بها أشهر عمل إبداعي وهو البردة للإمام البوصيري عام 804ه. كما يوجد قسم خاص بالمصاحف المملوكية التي تتميز بكبر حجمها والتي تم إنجازها - دائما - بأمر من السلطان والأمراء، وهي مجموعة من أندر مقتنيات الدار كما صنفتها اليونسكو، ومنها مصحف السلطان الأشرف علي »مدرسة السيدة خنت بركة» في الدرب الأحمر بالقاهرة وهو من جزءين، عناوينه بالخط الكوفي. وتشير د.عايدة إلي أن هذه الكنوز التي ضمها العرض المتحفي سوف تكون بين يدي الزائر سواء أكان باحثا أو محبا للتراث، ورغم أن الأضرار كانت فادحة جراء العمل الإرهابي، إلا أن العمل كان ولايزال مستمرا، ويؤدي المكان وظيفته علي أكمل وجه وذلك من خلال الأقسام الموجودة بالدار والتي تضم قاعات الاطلاع والبحث والتي تم تجهيزها علي أفضل مستوي لتيسير الاطلاع علي المخطوطات عن طريق استخدام أجهزة العرض الميكروفيلمي، وتوفير نسخ مصورة، وكذلك تيسير الاطلاع علي الكتب التراثية، وكتب اللغات الشرقية، وهذه القاعات مزودة بقاعدة بيانات ويوجد بها ربط بين دار الكتب بمنطقة الكورنيش كما يوجد قاعة للاطلاع الميكروفيلمي، فضلا عن قاعات الاطلاع المفتوح الذي يضم مجموعة المكتبات المهداة مثل مكتبة د.ثروت عكاشة، قصر عابدين، فؤاد سيزكين، محمد عبده. كما تضم الدار قاعات خاصة بالندوات والفعاليات الثقافية، من مؤتمرات، كما يوجد مسرح مكشوف تقام فيه الأمسيات الثقافية. وعن الضرر الذي ألم جراء الحدث الإرهابي الذي استهدف مبني مديرية أمن القاهرة المواجه للمتحف الإسلامي، ومبني دار الكتب بباب الخلق، قالت د.عايدة، أن التفجير الذي حدث في 24 يناير 2014، أثر علي الجزء المواجه لمديرية أمن القاهرة، والذي يضم قاعات الإطلاع والعرض المتحفي ففي قاعات الاطلاع جاء التفجير علي الأجهزة والأثاث بالكامل، وفيما يخص العرض المتحفي تضررت أربع فتارين وحدثت شروخ في باقي الفتارين، وقد قام القائمون علي الدار بانتشال المخطوطات بشكل سريع قبل أن تدمرها المرافق الكائنة بالدار، حيث إن التفجير أثر بشكل خطير علي خطوط المياه والتكييف، وأن سرعة الإنقاذ التي قام بها العاملون في الدار أنقذت المعروض من مقتنيات الدار، وكان الضرر الأكبر في بردية واحدة فقط، يتم ترميمها حالياً في دار الكتب بكورنيش النيل. وبشكل تفصيلي أوضحت د.عايدة أن التفجير أثر أيضا في الواجهات بالكامل »الشبابيك، والأرضيات، ومنطقة الأسقف الزجاجية، والأثاث، والأجهزة الالكترونية» فضلا عن ضرر لحق ببعض وحدات التكييف المركزي والمولد الخاص بالمبني. وفيما يخص خطة الإصلاح التي بدأت بمجرد قبول المنحة المقدمة من سمو الشيخ سلطان القاسمي، حاكم إمارة الشارقة، بترميم وإعادة تأهيل مبني دار الكتب المصرية بباب الخلق، وبناء عليه تمت موافقة مجلس الوزراء بقبول المنحة نهاية 2015م بدأنا تشكيل فريق عمل ضم مجموعة من المستشارين المتخصصين في كافة مجالات العمارة والإنشاءات والاكتروميكانيك بالإضافة إلي السادة المسئولين في دار الكتب، وبدأ العمل في يناير 2016، وانتهي بداية 2018، وكان المفروض الانتهاء منه بعد سنة ونصف، إلا أنه ثمة معوقات حالت دون ذلك تمثلت في تعويم الجنيه المصري، والاستيراد من الخارج لبعض المستلزمات، وكانت المنحة المقدمة من سمو الشيخ سلطان القاسمي تقدر ب26 مليون جنيه، وصلت إلي 36 مليون جنيه، وبسبب فارق سعر العملة هذه الإحصاءات صادرة من الاستشاري العام وقد وافق علي الاعتمادات الجديدة بعد تحريك الأسعار، ولهم كل الشكر. وعن المستجدات التي طرأت علي عملية تأهيل المبني وتطويره قالت د.عايدة، إن منها السلم حيث تم تغييره من كونه كان من الزجاج، تم تنفيذه من الرخام، وفي العرض المتحفي وضعنا جدارا عازلا للعرض عليه، وقد اعتمدت خطة عملنا علي التصميمات القديمة »إعادة الشيء إلي أصله» مع بعض التطورات التي تخدم المكان ووظيفته. وعن الجهات التي ساهمت في انجاز المشروع وإعادته إلي الحياة مرة أخري قالت د.عايدة إن جمعية المكنز الإسلامي قامت بوضع سيناريو للعرض المتحفي بالتعاون مع المسئولين بدار الكتب بباب الخلق، واختيار المخطوطات والمعروضات التي تم عرضها، مع تغيير الإضاءة بالعرض المتحفي، حيث تم اختيار أحدث التقنيات الأحدث في الإضاءة، علي وضع شاشات عرض حديثة، لم توجد من قبل بتقنية 3d، فضلا عن وضع بانر »لوحات إرشادية في مدخل كل قسم للمعروضات التي يحتويها» لافتة إلي أن مكان العرض المتحفي أصبح مهيأ لذوي القدرات الخاصة وكبار السن، كما يضم العرض المتحفي ستائر عازلة للضوء وللأتربة حفاظا علي المخطوطات والمقتنيات داخل فتارين العرض، مؤكدة أن هذه المعروضات يتم تغييرها كل ستة شهور داخل فتارين العرض، كما تم استحداث عدد 2 فترينة واستيرادها من الخارج »ألمانيا» لوضع المصاحف المملوكية عليها نظرا لكبر حجمها. ولم تنس د.عايدة أن تقول لنا إنه تم »الحرص علي وضع مقياس للحرارة وللرطوبة» داخل فتارين العرض لحماية المقتنيات والقيام علي تجهيز حوامل المخطوطات وترميمها بالتعاون مع قسم الترميم بدار الكتب بباب الخلق ومبني الدار بالكورنيش. ولفتت د.عايدة إلي أن من بين الهيئات التي كان لها اليد الطولي في التعاون معنا، كانت وزارة الآثار، حيث طلبنا من الوزير في بداية عملنا، ترميم واجهة المبني بالكامل، وكذلك الشبابيك وقد قامت الوزارة بما طلبناه بعد انتهائها من ترميم وإصلاح المتحف الإسلامي 2016، وتم ترميم المبني بالكامل علي مرحلتين أما وزارة الثقافة فقد أمدتنا بالأجهزة الإلكترونية المطلوبة، والأثاث المطلوب. أما فيما يخص المنظومة الأمنية فقد تم تغييرها بالكامل في المبني، مع استحداث عدد 217 كاميرا موزعة بالداخل والخارج، بأحدث التقنيات الحديثة لتأمين المبني، بالإضافة إلي المنظومة الخاصة بالإنذار والحريق.