لا يهتم الصعايدة في القري بالحياة، يحترمون الموت، يبنون له الدواوين والمنادر الفخمة، يستقبلون فيها ضيوفهم بالترحاب، والطعام الشهي، واجب العزاء بالنسبة لهم مناسبة سعيدة، تجمعهم بالأهل المغتربين في المحافظات المختلفة، والبلاد العربية، فيجلسون في لياليه علي الدكك وهم يتذكرون أيام طفولتهم، بينما ضحكاتهم تتعالي إلي السماء، وفي سرادقات العزاء الخاصة بالنساء، تلتف البنات حول الجدات في حلقات يسمعن حكايتهن القديمة، والقصص التي تبدر علي وجوههن الفرحة ، فيخبئن بأياديهن ابتساماتهن، ويكتمن ضحكاتهن المجلجلة. يشبه أبو هاشم محمد عبدالرحمن واجب العزاء بالأعياد، يقول إنه يلتقي فيه بكل أصدقائه الذين هاجروا من القرية بسبب ظروف العمل، وأقاموا في القاهرة أو غيرها من المحافظات، بمجرد سماعهم خبر موت أحد أقربائهم، يتركون أعمالهم، ويأتون علي الفور لأداء الواجب. يضيف: لقائي بهم بعد غيبة سنوات تشعرني أني ذلك الولد الصغير، نجلس سويا بعد انتهاء مراسم كل يوم، من أيام الواجب الثلاثة، نخلع سنوات عمرنا التي جعلتنا رجالا، بزوجة، وأولاد، وهموم، نستعيد طفولتنا، ونشم رائحة الطين في الغيطان التي كنا نلعب فيها، وأضحك من قلبي، كلما تذكرنا ما كنا نفعله. عز محمود يقول إن أبناء عمه يعيشون في مدن مختلفة.. اللي في الغردقة، واللي في الإسماعيلية، واللي في القاهرة، واللي في الكويت، بتعدي سنين طويلة مافيش حد فينا بيشوف التاني، وعشان كده، لما حد بيموت، أنا أول واحد بتصل بيهم، بلاقيهم متفاجئين بإن الشخص ده مات، وبلاقيني مبسوط إنهم هيرجعوا ونقعد سوا كام يوم في الديوان، ونحيي حواديتنا الميتة، وأحيانا، والله نجري ورا بعض زي العيال الصغيرين، ماحدش عارف هيعيش لأمتي وياتري هنشوف بعض تاني ولا لأ. علام يونس مرشد سياحي يعيش في الغردقة، يعترف بأنه لا يذهب إلي قريتهم إلا في واجبات العزاء، ويجدها فرصة لالتقاط الأنفاس من عمله الذي لا ينتهي، والأهم أنه يقابل إخوته الذين لا يراهم أبدا إلا في تلك المناسبات، لدرجة أن ابن أخيه أو ابن اخته حين يسلم عليه يعرفه بالكاد لأن السنين أضافت للولد الصغير ملامح مختلفة. ويضيف: ببقي مبسوط وأنا بين أهلي، وعيالهم بتتنطط حواليا، في الشتا بالتحديد باستمتع بالقعدة حوالين النار، وبنسهر لوقت متأخر، مش بنحكي عن اللي بنعيشه حاليا، أكتر من إننا بنفتكر لما كنا صغيرين بناخد مصروفنا من أبونا وبنتخانق مع بعض طول اليوم. محمد عبد البديع مهندس يعيش في القاهرة، يقول إن واجبات العزاء في الصعيد لها طعم خاص، كل الرجال والشباب يرتدون الجلابية الصعيدي، عيب أن نستقبل ضيوفنا بالقميص والبنطلون. ويشرح: جلابية الواجب غير أي جلابية، لازم تكون قيافة، ومن قماش غالي، ومكوية كويس، المظهر في واجب العزا أهم شيء لأنه عنوان لأهل الميت، والضيوف كمان، وعشان كده بتلاقي الناس كلها متلمعة ولابسة علي سنجة 10، حتي العيال الصغيرين تحس إنهم ماكيت لناس كبيرة لأنهم بيلبسوا زيهم بالظبط. يتابع: الأكل بيتعمل للواجب مخصوص، بالإضافة إلي إنه بشتمل علي اللحوم والفاكهة، بيتقدم بشكل راقي جدا، يعني طبلية 5 نجوم. هويدا حامد 20 سنة تقول إنها في تحب الواجب لأنها نجلس فيها مع السيدات المسنات فتسمع منهن حكايات لا تستطيع سماعها في مكان آخر.. الستات الكبيرة دول عندهم قصص كتير.. وبيعرفوا يحكوا أحسن من أي حد.. كلامهم حلو وبيضحك، وحافظين أغاني (العدودة) بيرددوها في الواجب.. العدودة دي شعر الستات في الجنايز بيقولوه.. وكل ميت وله عدودة، اللي مات غريب غير اللي مات علي فرشته، العيال الصغار اللي خطفهم الموت، غير الرجالة الكبيرة اللي عاشت كتير لغاية ما افتكرها.. العديد حافظاه الستات الكبيرة.. إحنا كبنات صغيرين بنسمع وبس ومش بنعرف نقول معاهم. ذكية عبد الوارث تقول إن أهم حاجة في واجب العزا إن العيال بيفرحوا بيه، وتضحك قبل أن تواصل: طبعا فرصة بالنسبة لهم، لا شغلة ولا مشغلة، وبيقعدوا في الديوان ياكلوا كل يوم لحمة وفراخ وفاكهة، ويلبسوا جلابياتهم الحلوة، ويسرحوا شعرهم، ويرشوا عطر، ولا كأنهم عرسان، الموت وحش وطعمه مر، بس في نفس الوقت بيجمع الناس، وتلاقي الغايبين اللي في آخر الدنيا مهملين مشاغلهم وجايين يعزوا. وصفي جرجس، ترزي رجالي بأحد قري الصعيد، يقول إن أهم ما يهتم به الرجل هو جلابية العزا .. لازم تكون مظبوطة عليه، لأنه هيقابل بيها ناس غريبة، بيشتري قماشتها غالية، وبيصرف علي تفصيلها الشيء الفلاني، وبيعمل عليها كذا بروفة قبل ما يستلمها، وعشان كده إحنا كترزية فاهمين ده، ولا يمكن نغلط فيها لأن الغلطة بفورة، ولو الجلابية باظت لاقدر الله بتبقي علينا وبنشتري قماشة تانية علي حسابنا بالشيء الفلاني، طب وعلي إيه ما الواحد ياخد باله، ويعمل شغله كويس، أحسن ما يسمع كلمة تزعله، ولا يصرف علي الشغل من جيبه، والله لما بلاقي الجلابية طلعت مظبوطة علي صاحبها بنبسط جدا، وده كمان بيعمل لي شهرة، وبيجيب زبون تاني.