الذكري الأخيرة في مدينة نصر كنت قد قطعت الطريق من المسجد الذي يقف أمامه شباب ورجال يبيعون بضاعة تميزوا بها: سبح، طيوب، مسواك، عسل نحل، أزياء أزهرية، متوجهًا إلي المقهي الثقافي للقاء صديق. حرصت علي التمهل قدر الإمكان محاولًا استيعاب هذا القدر الهائل من التناقضات التي لا يمكن لضمها هكذا إلا لو غيرنا مسمي ما يجمعها إلي: معرض القاهرة الدولي للفوضي. كان الظلام قد بدأ يخيم علي أرض المعارض، الطقس البارد المعتاد في فبراير ينسجم مع كآبة اليومين الأخيرين اللذين يزداد فيهما الإقبال للحاق بما تبقي من فسحة أسرية سنوية يميزها حضور مفردات الترفيه في مكان واحد وتحت يافطة ثقافية: تعدد أنواع الطعام، ألعاب زهيدة الثمن، مساحات واسعة للتمشية، طفطف متهالك للتنقلات. يلبي المعرض حاجة الجميع، وهؤلاء الذين يفترشون الأرض يستريحون من عناء يوم مجهد تفرجوا فيه علي الكتب وانتقوا منها الأرخص ثمنًا علامة علي الزيارة، وأطلوا علي قاعات الندوات الفارغة إلا من المبدعين وأهلهم وأصدقائهم، خير دليل علي أن القراءة بخير والثقافة تزدهر. الآن، نودع ذكرياتنا في صحراء ألفناها إلي صحراء نجهلها، انتقال يشبه ما يحدث في الواقع، حيث الأمور تبدو غائمة، ويأخذ نقل المعرض من موقعه بمدينة نصر إلي التجمع مساحة واسعة من النقاش، ولا يوجد استبيان نعرف من خلاله إلي أي جهة تميل الآراء لذا فالقول بأن الأغلبية ضد قرار النقل سيكون مبنيًا علي انطباع شخصي كونته مجموع النقاشات علي مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال دوائر المحيطين في الشارع والعمل. ليس سرًا أننا لا نحب التغيير، لا نخاطر بمفارقة ما ألفناه إلا بكثير من الجهد والتبرير، وبشكل ما نعتبر التخلي عن القديم خيانة، هذا القديم خزانة ذكريات تراكمت من محصلة أحداث سنوات. هل جرت حالة الجدل نفسها عند نقل المعرض لأول مرة من مكانه الذي تأسس به بأرض المعارض بالجزيرة إلي أرض المعارض بمدينة نصر! هل اشتكي الناس وقتها مثلما يشتكون الآن من أنه ينتقل إلي مجاهل الصحراء، ومن أسعار المواصلات التي لا بد ستتضاعف، أم أن المعرض كان لا يزال وقتها، وكما يليق به، شأنًا ثقافيًا فبقت قضية انتقاله مقصورة علي النخبة، واقتصرت المناقشات علي موضوعه: هل يفيد الانتقال الكتاب كسلعة أم يضر بها، ما المزايا التي ستتحقق للمؤلف والناشر والقارئ؟ الكتيب البائس الذي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، والذي لا يليق حقيقة بالمناسبة التي صدر لأجلها (اليوبيل الذهبي للمعرض) يرصد بشكل مبتسر رحلة هذا المعرض، ولا يهتم الكتيب بالوقوف علي أسباب النقل إلا بشكل عابر من خلال مقدمة د. هيثم الحاج علي رئيس الهيئة: "نظرًا لضيق المكان وعدم استيعابه للأعداد الغفيرة التي تقوم بزيارة المعرض، تم نقله إلي أرض المعارض الحالية بمدينة نصر". لكنه، الحاج علي، وإن ساق مبررًا للنقل في المرة الأولي، فإنه في المرة الثانية، ومع قرار نقله هذه الأيام، لا يبدو مهتمًا بتقديم مبرر ما، ولو كان شكليًا، وفي الأغلب هو لا يعرف، هكذا توحي جملته: "وقد صدر قرار بأن يتم تنظيم المعرض هذا العام بمركز مصر للمؤتمرات الدولية بالتجمع الخامس بالقاهرة". جملة يقول بها المسؤول الثقافي عن الحدث بأنه لا علاقة له بما يجري علي أرض الواقع من نقاشات، لا يهتم بجمهور يبحث عن إجابات، الجمهور يسأل: لماذا نقل معرض الكتاب؟ والمسؤول الثقافي يجيب: صدر قرار. "!". علي أية حال، أسباب قرار النقل ليست ضرورية إلي هذه الدرجة لمن يرون أن ذلك كان ينبغي له أن يتم، وربما لا يملك المسؤول الثقافي مبررات لأنها تضافرت من أكثر من جهة حتي لا يمكن فصلها عن بعضها، لا يمكن القول مثلًا بأن هيئة الكتاب وحدها سبب الفوضي التي طبعت معرض الكتاب في دوراته الأخيرة، ولا هيئة المعارض، فالواقع أن معرض الكتاب تحول إلي حدث استثنائي تداخلت فيه قضايا الثقافة والسياسة والدين في إطار شعبوي، وكأنك أمام فرح شعبي مملوء بالمعازيم وقرر أصحابه لسبب ما مناقشة مسائل التفكيك والبنيوية وما بعد الحداثة، ومناقشة فرج فودة في معتقداته، ولا بأس من عقد لقاء مع الرئيس الأسبق مبارك في مناسبة عشرين عامًا علي حكمه وذلك كما جري في دورة 2002. بصورة ما، وبلا أي تخطيط، أو بتخطيط محكم، جري تحويل معرض القاهرة إلي مسرح رمزي لكل ما يجري في المجتمع، وكان الطموح يتعاظم لتحويله إلي مسرح يستوعب المنطقة والعالم من خلال تمثيل ضيف الشرف، وهي الفعالية التي جري توسعة أنشطتها واستراتيجيتها عامًا بعد آخر وذلك منذ استحداثها لأول مرة دورة 2006. يمكن التأكيد علي أن الدورة العشرين للمعرض عام 1988 كانت نقطة الارتكاز لتحول المعرض إلي شكله الذي اعتدناه "عرس ثقافي"، "مولد"، "مزار" أو أي تسمية أخري تفضلها شرط أن تكون لها تلك الدلالة الواسعة والشاملة لكل شيء داخل إطار مبهرج، حيث شهدت تلك الدورة توسعًا ضخمًا في النشاط الثقافي المصاحب للمعرض. في العام 1969 افتتح المعرض د.ثروت عكاشة وزير الثقافة ومعه مجموعة من الوزراء واستمر الأمر علي هذا المنوال بضع سنوات، إلي أن اكتسب المعرض فجأة أهمية خاصة في 1979 حين افتتحته السيدة جيهان السادات، ثم كررت ذلك عام 1981، لينتقل افتتاحه من شأن متعلق بالثقافة ووزيرها إلي رئاسة الحكومة، ثم تحدث الانتقالة الكبري في 1986 عندما افتتحه رئيس الجمهورية وقتها محمد حسني مبارك، وللمرة الأولي يتم عقد لقاء قكري بين رئيس الجمهورية و"لفيف" من رجالات الثقافة والفن، وفي العام نفسه وكما يؤكد كتيب اليوبيل الذهبي فقد ازداد عدد الناشرين المشاركين في المعرض بصورة ملحوظة. من ذلك الوقت جري النظر إلي أرض المعارض في توقيت إقامة معرض الكتاب علي أنها سوق عكاظ، الساحة الأهم في المنطقة العربية، ومن بين الأوائل علي مستوي العالم، لهذا كان من الطبيعي أن تتزايد الضغوط علي إدارة المعرض، الكل يريد المشاركة، الفترة الذهبية ليسمع الجمهور صوتك، هكذا سيدخل الشعراء العرب إلي الأمسيات الشعرية، وتشارك العروض السينمائية والمسرحية والحفلات الموسيقية، تزداد مساحات التواصل المباشر بين المبدعين والجمهور، لا تتسع الصالة الرئيسية لكل الطلبات فيتم تقسيم سوق عكاظ إلي منصات نوعية، منها للشباب، للشعراء، لشعر العامية، للفن التشكيلي، للأراجوز، للأطفال، لتبقي الصالة الرئيسية، الرسمية، للمسئولين، والنجوم، والعناوين الرنانة: مائة عام تنوير، مستقبل الثقافة العربية في ظل عالم متغير... وكما تزايدت الأنشطة الرسمية كان لا بد للفعاليات الموازية من التوسع، كان لا بد من إرضاء الملايين التي تأتي خلال الأسبوعين، تلك التي يلزمها الطعام والشراب والترفيه، وفي مقابل اتساع حلقة التنوير من يمانع وجود الفول والكشري والطعمية بتلك الكثافة، من يتوقف عند وجود أسواق للملابس والأدوات الكهربائية، وتزايد أعداد باعة الكتب المضروبة، وألعاب الأطفال، من يتوقف ليسأل عن معني هذا السيرك! علي ماذا تعترض أليس الكتاب انعكاس للحياة بما فيها؟ صحيح، لكن المشكلة أنه عام بعد عام، دورة بعد الأخري، كان الكتاب ينحشر في الزاوية، محاصرًا بالمشاكل: ارتفاع أسعار الإيجارات، فلوس الشحن، الأجنحة غير المهيأة لتحمل الأمطار والرياح، لكن ذلك كله ليس مهمًا جدًا لأن الإقبال التاريخي علي المعرض يرد علي المشككين: نشر الثقافة ومواجهة التطرف يسير وفق خطة منهجية مضبوطة. في دورته الأولي عام 1969 ناقش المعرض من خلال حلقة دراسية مشكلات الناشرين وتزوير الكتب العربية في بيروت وشارك فيها جميع الناشرين المشاركين وكان عددهم 100 من 5 دول. في الدورة الماضية وصل عدد الناشرين المشاركين إلي 849 من 27 دولة.. نجاح غير مسبوق كما تري، نجاح تراكم عبر 50 عامًا، إنما التفصيلة الصغيرة التي تعكر صفو هذا النجاح أن عنوان المعرض وهو "الكتاب" يكاد يختفي، صناعته توشك علي التوقف في مصر والعالم العربي، المشاكل تحيط به من كل اتجاه: التزوير أصبح يشمل كل الدول العربية، حقوق المؤلف لا قيمة لها في مقابل حقوق الناشر وصاحب المطبعة والبائع، تزايد مخيف في أسعار الورق والأحبار وكل مستلزمات الطباعة أدي لإفلاس الكثيرين، تراجع معدلات البيع مع الغلو الفاحش في الأسعار، انهيار كامل في مجال الترجمة.. الآن، عندما ينتقل معرض القاهرة للدولي للكتاب من مدينة نصر إلي التجمع لا تحدثني عن سعر تذكرة الأتوبيس، ولا الذكريات التي فقدناها عند المقهي الثقافي، إنما، وهذا هو الأهم، حدثني هل ستكون هناك مناقشة جادة لمشاكل الكتاب، لأننا، إن لم تكن تعلم، علي وشك أن نفقده!